وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ
(60)
قولُهُ ـ تَعالى شأنُه: {وأَعِدّوا لهم ما اسْتطعتمْ من قوَُّةٍ ومِنْ رِباطِ الخيلِ} يَأْمُرُ اللهُ تَعالى في هذِه الآيةِ الكريمةِ الجميعَ باِلاسْتِعْدَادِ لِحَرْبِ الكُفَّارِ وَدَفْعِ عُدْوَانِهم، بإِعْدَادِ آلاتِ الحربِ ومُسْتَلْزَماتها، وذلك حِفاظاً على الأَنْفُسِ والأموالِ، وَالحَقِّ، وَالفَضِيلَةِ، والعقيدةِ، حَسَبَ الطَّاقَةِ، وَالاسْتِطَاعَةِ، وذلك بَعْدَ أَنْ أَمَرَهم بِنَبْذِ عهدِ مَنْ يخشَوْنَ غَدرَهُ مِنَ الأَعْداءِ الذين بينَهم وبينَ المُسلمين مُعاهَدَةُ صُلْحٍ أَوْ عَدَمِ اعْتِداءٍ، إذا أَحَسُّوا مِنْهم الاسْتِعْدادَ لِنَقْضِ هذِه المُعاهَدَةِ، أَوْ عَلِموا بِعَْزمَهم على الرُجوعِِ عن عَهدِهم والنُكْثَ فيه، ومباغَتَةِ المسلمين، فأَمَرَ المسلمين ـ والحالةُ هذِهِ، أَنْ يُعلِمُوهُم بِنَبْذِ العَهْدِ أَوّلاً وأَلاَّ يُفاجئونَهم بالحَرْبِِ والإغارَةِ عَليهم، وقدْ فَصّلْنا في ذلك في الآيةِ السابقة بما فيه الكفايةُ.
وأَعْقَبَ ذَلِكَ بِقَولِهِ في الآيةِ" 59 السابقة: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا}، الذي يُفيدُ تَوهيناً لِشَأْنِ المُشْرَكين. لذلك جاءت هذه الآية: "وأَعِدُّوا" ممَّا يُفيدُ الاحْتِراسَ بالاسْتِعْدادِ لهم لِئَلاَّ يَحْسَبَ المُسْلمونَ أَنَّ المُشْرِكينَ قدْ صارُوا في مُكْنَتِهم، ويَلْزَمُ مِنْ ذلك الاحْتِراسِ أَنَّ الاستعدادَ لهمْ هُوَ سَبَبُ جعلِ اللهِ المشركين لا يُعْجِزونَ اللهَ ورَسُولَهُ، لأنَّ اللهَ هَيَّأَ أَسْبابَ اسْتِئْصالِهم ظاهِرَها وباطِنَها.
ولا شَكَّ في أَنَّ المُخاطَبَ الأَوَّلَ في هذِهِ الآيةِ الكريمةِ هُوَ الرَسُولُ محمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لأَنَّ الدِفاعَ عَنِ الدِّينِ وحمايَةَ المُؤمِنين بِهِ هُوَ مِنْ وظائفهِ ومن أُولى مَهامِّهِ، بِقَدْرِ ما هو خِطابٌ للمُؤمنينَ كافَّةً لأَنَّ المأْمورَ بِهِ هو مِنْ واجباتِ الأُمَّةِ كلِّها. فالخِطابُ لجماعَةِ المُسْلِمين ووُلاةِ الأُمورِ مِنهم في المقامِ الأوَّلِ، لأنَّ ما يُرادُ مِنَ الجَماعَةِ إنَّما يَقومُ بِتَنْفيذِهِ وُلاةُ الأَمْرِ الذين هُمْ وُكَلاءُ الأُمَّةِ على مَصالِحِها.
لذلك يأْمرُ اللهُ تعالى المُسْلمينَ بإعْدادِِِ أَنْفُسِهم للحربِ والأَخْذِ بأَسْبابِ القُوَّةِِ لِقِتَالِ الأَعْداءِ الذين نُبِذَ إليهم عَهْدُهم، أَوْ غيرِهم مِنَ الكُفَّارِ الذين يُتَوَقَّعُ مِنْهم العُدوانُ في أَيِّ وَقْتٍ. ولَوْ شاءَ تعالى لَهَزَمَهمْ بحَفْنَةٍ مِنْ تُرابٍ، كَما نَصَرَ رَسُولَهُ ـ صَلى اللهُ عليه وسلَّّم. ولكنَّهُ أَرادَ
أَنْ يَبْتَلِيَ بعضَ الناسِ بِبَعضٍ بِعِلْمِهِ السابِقِ وقَضائهِ النافِذِ.
والإعدادُ: التَهْيِئَةُ والإحْضارُ، ودَخَلَ في "مَا اسْتَطَعْتُمْ" كلُّ ما يَدْخُلُ تحتَ قُدْرَةِ الناسِ اتخاذُهُ مِنَ العُدَّةِ. وفي الآيةِ إشارتان إلى أَمْرَيْنِ على جانِبٍ كبيرٍ مِنَ الأَهميَّةِ، يَجْدُرُ بِنا أَنْ نَتَنَبَّهَ إليْهِما، وأَنْ نَقِفَ معَهُما مَلِيّاً، لأنّهُما مِنْ صُلْبِ عَقيدةِ الإيمانِ باللهِ تعالى، وهاتانِ الإشارتانِ هما:
الأُولى: في قولِهِ ـ تَبارَكَ وتَعالى: "ما استطعتم" ولم يَقُلْ ما يُكافِئُ قوَّةَ عَدوِّكم أَوْ يَزيدُ. وهذا مُرْتَبِطٌ أَوْثَقَ ارْتِباطٍ بالعَقيدةِ، لأَنَّ عَقيدَتَنا تَنُصُّ جَلِيّاً بأَنَّ نَتائجَ الأُمورِ كلِّها بِيَدِ اللهِ تَعالى، وليستْ بِيَدِ أَحَدٍ سِواهُ، هذا أوَّلاً. وثانياً: إِنَّ التَأْثيرَ الحَقيقيَّ والفِعْلَ النافِذَ هُو لِقُوََّةِ اللهِ تَعالى، وليسَ لما نُعِدُ مِنْ وسائلِ القُوَّةٍ. وإنَّما هُو ما اقْتََضَتْهُ حِكْمَةُ اللهِ تعالى أَنْ يُعلَّقَ المسبَّباتِ على الأَسْبابِ. أمَّا النتائِجُ فكُلُّها بِيَدِهِ سُبْحانَهُ، وهذِهِ عَقيدَتُنا التي يَفْرِضُها إيمِانُنا بهِ ـ جَلَّ وعَلا. أَمّا الإعدادُ والاسْتِعدادُ فإنَّما هُوَ تَنفيذٌ لأمْرِ اللهِ وَحَسْبُ، ولا اعْتِمادَ لنا عَليهِ ولا اعتدادَ بِهِ، فالاعْتِمادُ والاعْتِدادُ والتَوَكُّلُ، إنّما هو عليه سبحانه، أوّلاً وآخِراً، وإنّما نُعِدُّ القُوَّةَ تَنفيذاً لأَمرِهِ تعالى وحسْبُ، وهذا يَنْسَحِبُ على كلِّ شؤونِنا في الحياةِ. وهذا الاعتقادُ يَتْرُكُ في نَفْسِ المؤمِنِ راحةً وطُمَأْنينَةً لا حُدودَ لها، ولا تَسْتَطيعُ قُوَّةُ العَدُوِّ ـ مَهْما بَلَغَتْ، أَنْ تَنْفُذَ إليْها، أَوْ أنْ تَنالََ مِنْها، أَوْ تُؤثِّرَ فيها.
الثانية: في قولِهِ ـ عَزَّ شأنُهُ: "تُرْهِبونََ"، ولم يَقُلْ تَغْلِبونَ، أَوْ تَنْتَصِرون، إنَّما قالَ قبلَ ذَلكَ في الآيِةِ العاشِرَةِ مِنْ هذِهِ السُورَةِ: {وما النَصرُ إلاَّ مِنْ عَِنْدِ اللهِ} فَتَأَكَّدَ ما سَبَقَ بَيانُهُ والتَنْبيهُ عَليْهِ في الإشارِةِ الأُولى، وفيه أَنَّ الغايةَ مِنْ إعْدادِ القُوَّةِ إشاعةُ الرَهْبَةِ في نَفْسِ العَدُوِّ، حتّى لا يُقْدِمَ على العُدْوانِ، وفيه تَثْبيطٌ لِهِمَّتِهِ وتَأثيرٌ على مَعْنَوِيّاتِهِ، وهذا من غاياتِ الحَرْبِ النََفْسيَّةِ في الجيوشِ الحديثةِ، فلا يَسْتَطيعُ الاسْتِفادةَ مِنْ جميعِ قُواهُ وكُلَّ طاقاتِهِ في القتالِ.
وتُطْلَقُ القُوَّةُ مجازاً على شِدَّةِ تَأْثيرِ شَيْءٍ ذِي أَثَرِ، وتُطْلَقُ أَيْضاً على سَبَبِ شِدَّةِ التَأْثير. وَكُلُّ ما تُعِدُّهُ لِصَديقِكَ مِنْ خَيرٍ أَوْ لِعَدوِّكَ مِنْ شَرٍّ فَهُوَ داخلٌ في عِدَّتِكَ. وقوَّةُ الجَيشِ شِدَّةُ وَقْعِهِ على العَدُوِّ، وقوَّتُه أَيضاُ سِلاحُهُ وعَتَادُهُ، وهوَ المُرادُ هُنا، فهوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِأمرينِ. فاتِّخاذُ السُيوفِ والرِماحِ والأَقْواسِ والنِبالِ مِنَ القُوَّةِ في جُيوشِ العُصورِ الماضيةِ، واتِّخاذُ الدَباباتِ والمَدافِعِ والطائراتِ والصَواريخِ وغيرِ ذلك مما يحقَِّقُ قوَّةَ الدفعِ مِنْ قُوَّةِ الجيوشِ في هذا العصرِ. وبهذا الاعْتِبارِ يُفَسَّرُ ما رَوى الإمامُان مُسْلِمٌ، والتِرْمِذِيُّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عامرٍ ـ رضي اللهُ عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، قَرَأَ هَذِه الآيَةَ على المِنْبَرِ ثمَّ قالَ: ((أَلاَ إِنَّ القُوَّةَ الرَمْيُ، قالها ثلاثاً)) فقدَ أَخْرَجَ مُسْلِم في صَحيحِه و البَيْهَقِيِّ في السُنَنِ الكُبرى عَنْ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى الله عليه وسلمَ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُُ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُُ)). ورَواهُ الإمامُ أَحمد، وأَبو داوود، وابْنُ ماجَة، والتِرمذِيُّ وزادَ: ((أَلاَ إنَّ اللهَ سَيَفْتَحُ لَكُمُ الأَرْضَ وسَتُكْفَوْنَ المَؤنَةَ فلا يَعْجزَنَّ أَحَدُكم أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ)). والمرادُ أنَّ أَكْمَلُ أُسُسِ القُوَّة وأشَدَّها تأثيراً على العدوِّ آلةُ الرَمْيِ، وهي في ذلك العَصْرِ رَمْيُ السهامِ. وليسَ المُرادُ حَصْرَ القُوَّةِ في آلَةِ الرَمْيِ المعروفَةِ آنَذاكَ عندما قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: (والقُوَّةُ هَهُنا السِلاحُ والقِسِيُّ). لأنها كانتْ الأَكْثر فَتْكاً في ذلكَ العَصْرِ، أمّا اليومَ فلا أثرَ لها مع ما اخترع من سلاحٍ وما استحدث من وسائلَ للدفاع. فالواجبُ إذاً اتِّخاذُ الأَقوى بَينَ الأَسْلِحَةِ في كُلِّ عَصْرٍ، على قَدْرِ الاسْتِطاعَةِ.
وفي إعْدادِ النَفْسِ والمجتَمَعِ والتَدَرُّبِ عليهِ ثَوابٌ عَظيمٌ مِنَ اللهِ تَعالى، فقد جاءَ في سُنَنِ التِرْمِذِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((إِنَّ اللهَ لَيُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلاَثَةً الْجَنَّةَ، صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، وَالرَّامِيَ بِهِ، وَالْمُمِدَّ بِهِ)). وأَخْرَجَ عَبْدُ الرَزَّاقِ في المُصَنَّفِ والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإِيمانِ، عَنْ التابعيِّ حَرام بْنِ مُعاويةَ الأنصاريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: كَتَبَ إلينا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ ـ رضيَ الله عنه: (أَنْ لا يُجاوِرَنَّكم خِنْزيرٌ، ولا يُرْفَع فيكم صَليبٌ، ولا تَأْكُلوا على مائدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْها الخَمْرُ، وأَدِّبوا الخيلَ، وامْشُوا بَينَ الفِرْقَتَيْنِ.
وأَخْرَجَ البَزَّارُ والحاكِمُ، وصَحَّحَهُ، عَنْ أَبي هُريرةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: خرَجَ النَبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وقومٌ مِنْ أَسْلَمَ، يَرْمُونَ، فقالَ: ((ارْمُوا بَني اسْماعيلَ فإنَّ أَباكُم كانَ رامياً، ارْموا، وأَنا مَعَ ابْنِ الأَدْرَعِ)). فأَمْسَكَ القَوْمُ فَسَأَلَهم؟ فقالوا: يا رَسُولَ اللهِ، مَنْ كُنْتَ مَعَهُ غَلَبَ. قال: ((ارْمُوا وأَنا مَعَكُمْ كُلِّكُم)). وأَخْرَجَهُ الإمامان الجليلانِ أَحمدُ بْنُ حنبل، والبُخاريُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهم، قال: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، على قوْمٍ مِنْ أَسْلَمَ يَتَناضَلونَ في السُوقِ فقال: ((ارْموا يا بَني اسمعيلَ فإنَّ أَباكُمْ كانَ رامياً، ارْموا وأَنَا مَعَ بَني فُلان)) (لأحدِ الفَريقيْنِ) فَأَمْسَكوا بَأَيْديهم، فَقالَ: ارْمُوا ...! قالوا: يا رَسُولَ اللهِ كَيفَ نَرْمي وأَنْتَ مَعَ بَني فُلانٍ؟ قالَ: ((ارْمُوا وأَنَا مَعَكم كُلِّكم)). وأَخْرَجَه أيضاً الحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْ مُحَمَّد بْنِ إياسٍ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبيهِ عن جَدِّهِ، أنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى الله عليه وسَلَّم، مَرَّ على ناسٍ يِنْتَضِلونَ فقالَ: ((حَسَنٌ اللَّهُمَّ، (مَرَّتين أَوْ ثَلاثاً)، ارْموا وأَنَا مَعَ ابْنِ الأَدْرَعِ. فأَمْسَكَ القومُ قال: ارْموا وأَنا مَعَكم جميعاً، فلقدْ رَمُوا عامَّةَ يومِهم ذَلِكَ ثمَّ تَفَرَّقوا على السَواءِ ما نَضَلَ بَعْضُهم بعضاً)). وَقَالَ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم: ((ارْمُوا، وَارْكَبُوا، وَلأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا. كُلُّ مَا يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ بَاطِلٌ، إِلاَّ رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، وَمُلاَعَبَتَهُ أَهْلَهُ. فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْحَقِّ)). حَسَنٌ صَحيحٌ، أخرجه الترمذيُّ في سُننهِ. ومَعنى هَذا واللهُ أَعْلَمُ: أَنَّ كلَّ ما يَتَلَهَّى بِهِ الرَجُلُ ممَّا لا يُفيدُ في عاجِلِ ولا في آجِلِ فهوَ باطِلٌ، والإعْراضُ عَنْهُ أَوْلى.
وأَخرجَ أَبو الشَيْخِ، وابْنُ مَردويَهِ، عَنِ ابْنِ عباسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، في قولِهِ: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة" قال: الرَّميَ والسيوفَ والسِلاحَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحقَ، وابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ عَبَّادٍ بْنِ عَبدِ اللهِ بْنِ الزُبَيرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، في قولِهِ: "وأَعِدّوا لهم ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ" قالَ: أَمَرَهُمْ بإعْدادِ الخَيْلِ. وأَخْرَجَ أَبو الشَيخِ والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإِيمانِ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولهِ تعالى: "وأَعِدّوا لهم ما استطعتم مِنْ قوّة ومِنْ رباط الخيل" قال: القوّةُ ذُكورُ الخَيْلِ، والرِباطُ الإِناثُ. وكذلك قال مجاهدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مثله فيما أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عنْهُ. وأَخْرجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ أَبي حاتمٍ عنْ سعيدٍ بْنِ المُسَيِّبِ ـ رَضِيَ اللهُ عنُْه، في الآيَةِ قال: القُوَّةُ الفَرَسُ إلى السَهْمِ فما دُونَهُ.
وقد عَدَّ العُلَماءُ تَعَلُّمَ الفُروسِيَّةِ والدُرْبَةَ على اسْتِخدامِ الأََسْلِحَةِ فَرْضَ كِفايَةٍ، إذْ عَلى الأُمَّةِ أَنْ يَكونَ فيها ما يَكْفِي للذَوْدِ عَنْ حِياضِها والرِباطِ عَلى ثُغورِها، شأنُهُ في ذَلِكَ شَأْنَ كُلِّ ما هُوَ ضَرورِيٌّ لِبَقاءِ الأُمَّةِ قَوِيَّةً عَزيزةً كَريمةً، كَتَعَلُّمِ العُلومِ النافِعَةِ والحِرَفِ والصِناعاتِ التي تحتاجُها الأُمَّةُ، فإذا قامَ بكلِّ شَأْنٍ مِنْ هذِهِ الشُؤونِ الضَرورِيَّةِ ما يَكْفي الأُمَّةَ، ويَسُدُّ حاجتَها إليهِ، ارْتَفَعَ الإثمُ عَنِ الجَميعِ وإلاَّ فالأُمَّةُ آثِمَةٌ كلُّها.
وعَطْفُ "رِبَاطِ الْخَيْلِ" على "الْقُوَّةَ" مِنْ عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ، للاهْتِمامِ بِذلِكَ الخاصَّ. و "الرباط" صِيغَةُ مُفاعَلَةٍ أُتِيَ بها هُنا للمُبالَغَةِ لِتَدُلَّ على قَصْدِ الكَثْرَةِ مِنْ رَبْطِ الخَيْلِ للغَزْوِ، أَيْ احْتِباسِها ورَبْطِها انتظاراً للغَزْوِ عَلَيْها، كَقولِ النَبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((مَنِ ارْتَبَطَ فَرَساً في سبيلِ اللهِ كانَ رَوْثُها وبَوْلُها حَسناتٍ لَهْ" الحديث. ويُقالُ: رَبَطَ الفَرَسَ إذا شَدَّهُ في مَكانِ حِفْظِهِ، وقد سَمّوا المَكانَ الذي تُرْتَبَطُ فيهِ الخَيْلُ رِباطاً، لأنَّهم كانوا يَحْرُسونَ الثُغورَ المَخُوفَةَ راكبينَ على أَفْراسِهم، كما وصَفَ ذلكَ لَبيدُ حين قالَ:
وَلَقَدْ حَمَيْتُ الحيَّ تَحْمِلُ شِكَّتي ...... فُرُطٌ وِشاحي إِنْ رَكِبْتُ زِمامَهاإِلى أَنْ قالَ:حتّى إذا ألْقَتْ يداً في كافر ............ وأجَنَّ عوراتتِ الثغور ظَلامهاأَسْهَلْتُ وانْتَصَبَتْ كَجِذْعِ مُنيفَةٍ .......... جَرْداءَ يحْصَرُ دونها جُرَّامهاثمَّ أُطْلِق الرِباطُ على محرسِ الثَغْرِ البَحْرِيِّ. و "رِباطُ الخَيْلِ" جمعُ رَبْطٍ، كَكِلابٍ وكَلْبٍ، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ "رِباط" مَصْدراً مِنْ رَبَطَ، كَصَاحَ صِياحاً. ورِباطُ الخَيْلِ ومَرْبَطُها ومَرابِطُها: ارْتِباطُها في مُواجَهَةِ العَدوِّ. وجماعَتُهُ رُبُطٌ، ومِنْهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
أَمَرَ الإلهُ بِرَبْطِهَا لعَدُوِّهِ .................. في الحَرْبِ إنَّ اللهَ خَيْرُ مُوفِّقِ
هذا البَيْتُ لِلصَحابيِّ الجَليلِ كَعْبٍ بْنِ مالِكٍ ـ رَضِيََ اللهُ عَنْهُ، شاعِرِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، مِنْ قَصيدَةٍ لَهُ قالها في غزوةِ الأحزابِ، أو الخندقِ، ومنها:
مَنْ سَرَّه ضَرْبٌ يُرَعْبِِلُ بَعْضُهُ ............ بَعْضاً كَمَعْمَعَةِ الأَباءِ المُحْرَقِ
دَرِبوا بِضَرْبِ المُعْلَمين فَأَسْلَموا ....... مُهَجاتِ أَنْفُسِهمْ لِرَبِّ المَشْرِقِ
نَصِلُ السُيوفَ إذا قَصُرْنَ بِخَطْوِنا .......... قِدْماً ونُلْحِقُها إذا لمْ تَلْحَقِ
ونُعِدُّ للأعْداءِ كُلَّ مُقَلصٍ ................ ورْدٍ ومَحْجولِ القَوائمِ أَبْلَقِ
إلى أَنْ يَقولَ:
أَمَرَ الإلهُ بِرَبْطِها لِعَدُوِّهِ .................. في الحَرْبِ إنَّ اللهَ خَيرُ مُوَفِّقِ
ونُطيعُ أَمْرَ نَبِيِّنا ونُجيبُهُ .................... وإذا دَعا لِكَريهَةٍ لمْ نُسْبَقِ
رَعْبَلَهُ: قَطَعَهُ. والمَعْمَعَةُ: صَوْتُ الحريقِ يَنْشِبُ في القَصَبِ ونحوِهِ، وصَوْتُ الأَبْطالِ في الحَربِ. وقالَ مَكْحولُ بْنُ عَبْدِ اللهِ:
تَلومُ عَلى رَبْطِ الجِيادِ وحَبْسِها ........... وأَوْصى بها اللهُ النَبِيَّ مُحَمَّدا
ورِباطُ الخيلِ فَضْلٌ عَظيمٌ ومَنْزِلَةٌ شَريفَةٌ. فقد رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً قالَ لابْنِ سِيرينَ: إنَّ فلاناً أَوْصَى بِثُلِثِ مالِهِ للحُصونِ، فقال: هِيَ للخَيْلِ؛ أَلَمْ تَسْمَعْ قولَ الشاعرِ:
ولَقَدْ علِمْتُ عَلَى تَجَنُّبِيَ الرَّدَى ..... أَنَّ الحُصُونَ الخَيْلُ لا مَدَرُ القُرَى
البَيْتُ للأَسْعَرِ الجُعَفِيِّ وبَعْدَهُ:
يخْرُجْنَ مِنْ خَلَلِ الغُبارِ عَوابِساً ........ كَأَصابِعِ المَقْرورِ أَقْعى واصْطَلى
واسْمُ الأَسْعَرِ: هُوَ مَرْثَدُ بْنِ الحارثِ ولُقِّبَ الأَسْعَرَ لِقَوْلِهِ:
فلا يَدْعُني قومي لِسَعْدِ بْنِ مالِكٍ ........ إذا أَنَا لم أُسْعِرْ عَلَيْهم وأَثْقُبِ
وقالوا: رِباطُ الخَيْلِ: الإناثِ، كما تقدَّمَ لأَنَّها أَوْلى ما يُرْبَطُ لِتَناسُلِها ونَمَائها. ورُوِيَ أَنَّ خالدَ بْنَ الوَليدِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كانَ لا يَرْكَبُ في القِتالِ إلاَّ الإناثَ، لِقِلَّةِ صَهيلِها. ورُوِيَ أنَّ الصَّحابةَ ـ رضوانُ الله عليهم، كانوا يَسْتَحِبُّونَ ذُكورَ الخَيْلِ عِنْدَ الصُفوفِ، وإناثَ الخيلِ عندَ الشَتاتِ والغارات. والخيلُ خيرٌ وبركة ويمنٌ لقوله ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ فيما أخْرَجَ الإمامُ مُسْلمٌ وغيرُه عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رضي اللهُ عنه، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَلْوِي نَاصِيَةَ فَرَسٍ بِإِصْبَعِهِ وَهُوَ يَقُولُ: ((الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الأَجْرُ وَالْغَنِيمَةُ)). صحيح مسلم: (9/444).
وأَخْرَجَ البُخاريُّ، والنَسائيُّ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، والبيهقيُّ، عنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه، عَنِ النَبيِّ ـ صَلَّى الله عليه وسلّم، قال: ((مَنِ احْتَبَسَ فَرَساً فِي سَبِيلِ اللهِ إيمَاناً، وتَصْدِيقاً بوعدِهِ، فإنَّ شِبَعَهُ وريَّه ورَوْثَهُ، وبَوْلَهُ في مِيزانِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ)). شعب الإيمان للبيهقيِّ: (4/45) ورواهُ البخاريُّ في الصحيح عَنْ عَليٍّ بْنِ حَفْصٍ عَنِ عبدِ اللهِ ابْنِ المبارك.
وأخرجَ أَحمدُ، والنَسائيُّ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، عنْ أَبي ذَرٍّ الغفاريِّ ـ رَضيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَبيِّ ـ صَلّى اللهُ عليه وسلّم، قال: ((ما مِنْ فَرَسٍ عَرَبيٍّ إلاَّ يُؤْذَنُ لَهُ عِنْدَ كُلِّ سَحَرٍ بِدَعْوَتينِ، يَقولُ: اللَّهُمَّ كَما خَوَّلْتَني مَنْ خَوَّلْتَني مِنْ بَني آدمَ فاجْعَلْني مِنْ أَحَبِّ مالِهِ وأَهْلِهِ إلَيْهِ)).
وأَخْرَجَ أَبو عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ عَمْرٍو بْنِ العاصِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: أَصابَ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ، فَرَساً مِنْ جَدس، (وجديس حيِّ مِنَ اليَمَنِ واسمُ قبيلةٍ من قبائله انْقَرَضَتْ)، فأَعْطاهُ رَجُلاً مِنَ الأَنْصارِ وقال: ((إذا نَزَلْتَ فأنْزِلْ قَريباً مِني فإنّي أُسارُّ إلى صَهيلِهِ))، ففَقَدَهُ لَيْلَةً فَسَأَلَ عَنْهُ فقال: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّا خَصَيْناهُ. فقالَ: ((مَثَّلْتَ بِهِ))، يَقولُها ثلاثاً، ((الخيلُ معقودٌ في نَواصيها الخيرُ إلى يومِ القيامة، أَعْرافُها ادْفاؤها، وأَذْنابُها مَذابُّها، الْتَمِسوا نَسْلَها وباهُوا بِصَهيلِها المُشْركين)).
والرِّباطُ مِنَ الخَيلِ: الخَمْسُ فما فوقَها، وكان لِعُروَةَ البارِقِيِّ سَبْعونَ فَرَساً مُعَدَّة للجِهادِ. والمُسْتَحَبُّ مِنْها الإناثُ، قالَهُ عِكْرِمَةٌٌ وجماعَةٌ. وهو صَحيحٌ، فإنَّ الأنْثى بَطْنُها كَنْزٌ وظَهْرُها عِزٌّ. قالوا وفرَسُ جِبريلَ كانَ أُنْثى. وروى أئمَّةُ الحديثِ عَنْ أَبي هريرةَ ـ رَضيَ اللهُ عنْهم جميعاً، أَنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلَّمَ، قال: ((الْخَيْلُ ثَلاثَةٌ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ؛ فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ، فَذلِكمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ ثَلاثًا)). السُنَنُ الكبرى للبَيْهَقيِّ: (10/15) ورواهً البُخارِيُّ في الصَحيحِ عَنِ القَعْنَبيِّ، وأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَم.
وأًجْوَدُ الخيلِ أَعْظَمُها أَجْراً وأَكثرُها نَفعاً. وقد سُئلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى الله عليه وسلَّم: أَيُّ الرِقابِ أَفضلُ؟ فقالَ: ((أَغْلاها ثمناً وأَنْفَسُها عندَ أَهْلِها). وروى النَسائيُّ عَنْ أَبي وَهْبٍ الجُشَمِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: قالَ رسولُ اللهِ ـ صَلّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: ((تَسَمّوا بأسماءِ الأنْبياءِ، وأَحَبُّ الأسماءِ إلى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، عبدُ اللهِ، وعَبْدُ الرَحمنِ، وارْتَبِطُوا الخيلَ وامْسَحُوا بِنَواصِيها وأَكْفالِها، وقَلِّدوها، ولا تُقَلِّدوها الأوتارَ، وعَليكم بِكُلِّ كُمَيْتٍ أَغَرَّ محَجَّلٍ، أَوْ أَشْقَرَ أَغَرَّ محجَّلٍ، أَوْ أَدْهَمَ أَغَرَّ مُحَجَّل)).
ـ والأوتارُ: جمعُ وِتْرٍ (بالكسر) وهوَ الدَمُ. والمعنى: لا تَطْلُبوا عَلَيْها الأَوْتارَ التي وُتِرْتم بها في الجاهلَيَّة. وقيلَ: جمعُ وَتَرِ القَوْسِ فإنَّهم كانوا يُعلِّقونها بأَعْناقِ الدوابِّ لِدَفْعِ العَينِ.
ـ الكُمَيْتٌ، بالتصغير: هو الذي لونُه بَينَ السَوادِ والحُمْرَةِ يَسْتَوي فيه المُذكَّرُ والمؤنث.
ـ الأغرُّ: الذي في وجْهِهِ بَياضٌ.
ـ المُحَجَّلُ: الذي في قوائمِهِ بَياضٌ.
وعَنْ أَبي قَتادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قال: ((خيرُ الخيلِ الأدْهِمُ، الأقرحُ، الأرثم، ثمَّ الأقرَحُ المُحَجَّلُ طَلْقُ اليَمينِ، فإنْ لم يَكُنْ أَدْهَم فكُمَيْتٍ على هذِهِ الشِيَةِ)). ورواهُ الدارِمِيُّ أيضاً عن أبي قَتادةَ ـ رضي اللهُ عنه، أَنَّ رَجُلاً قال: يا رَسولَ اللهِ، إنّي أُريدُ أَنْ أَشْتَرِيَ فَرَساً، فأَيّها أَشْتَري؟ قال: ((اشْتَرِ أَدْهَمَ أَرْثَمَ)).
ـ الأرثم: الذي أَنْفُهُ أَبْيَضٌ وَشَفَتُهُ العُليا بيضاء.
ـ الأقْرَح: هو ما كانَ في جَبْهَتِهِ قُرْحةٌ، وهي بياضٌ يَسيرٌ في وجْهِ الفَرَسِ دونَ الغِرِّةِ.
ـ محجَّلٌ طَلْقَ اليَدِ اليُمنى: أي أنَّه ليس في يَدِه اليُمْنى بَياضٌ.
ورويَ أنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، كان يَكْرَهُ الشِكالَ مِنَ الخَيْلِ. خَرَّجَهُ مسلم عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. والشِكالُ: أَنْ يَكونَ الفَرَسُ في رِجْلِه اليُمنى بَياضٌ وفي يَدِهِ اليُسْرى، أَوْ في يَدِهِ اليُمنى ورِجْلِهِ اليُسْرى. ويُذْكَرُ أَنَّ الفَرَسَ الذي قُتِلَ عَلَيْهِ سيدُنا الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، كانَ أَشْكَلَ.
وقد خُصَّ الخيلُ والرَمْيُ بالذِكْرِ مَعَ أَنَّ قولَهُ: "وأَعِدُّوا لهم ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ" كانَ كافِياً لأنَّ الخيلَ التي عُقِدَ الخيرُ في نواصِيها، لمَّا كانتْ أَصْلَ الحُروبِ وَأْوْزارَها أَيْ: أَثقالَها مِنْ آلةِ حَرْبٍ وسِلاحٍ وغيرِهِ. ولمّا كانتْ أَقْوَى القُوَّةِ وأَشَدَّ العُدَّةِ وحُصونَ الفُرسانِ، وبها يُجالُ في الميدان، فقد خَصها بالذكر تَشريفاً، وأَقْسَمَ بِغُبارِها تَكريماً. فقال في سورةِ العاديات: {والعاديات ضَبْحاً} الآية: 1.
ولمَا كانتِ السِهامُ مِنْ أَنْجَعِ ما يُتَعاطَى في الحُروبِ والنِكايَةِ في العَدُوِّ، وأَقربها تَناوُلاً للأرواحِ، فقد خَصَّها رسولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، بالذِكْرِ لها، والتَنْبيهِ عَلَيْها. ونَظيرُ هذا في التَنْزيلِ، قولُه في سورة البقرةِ: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} الآية: 98. فخصَّ بالذكرِ جِبريلَ وميكالَ ـ عليهما السلامُ، مع أنّهما مَشْمُولين بِقولِه (ومَلائكته)، وقد نبِّه على هذا في موضِعِ هناك، لكن في الإعادة إفادة، ومِثْلُهُ كَثيرٌ.
وقد اسْتَدَلَّ بَعْضُ عُلماءِ المالكيَّةِ بهذِهِ الآيةِ على جَوازِ وَقْفِ الخَيلِ والسِلاحِ، واتخاذِ الخَزائنِ والخُزَّانِ لها عُدَّةً للأعْداءِ. وكَرِهَ أَبو حنيفةَ ـ رضيَ اللهُ عنهُ، وقفَ الحيوانِ كالخيلِ والإبِلِ لأنَّه مِنْ شِعارِ الجاهِلِيَّةِ، وصحّحهُ الشافِعِيُّ ـ رَضيَ اللهُ عنه. لهذِهِ الآيةِ، ولحديثِ ابْنِ عُمَرَ في الفَرَسِ الذي حملَ عَلَيْهِ في سَبيلِ اللهِ وقولِهِ عَليْهِ الصلاةُ والسلامُ، في حقِّ خالدٍ: (وأَمَّا خالد فإنَّكم تَظلمونَ خالداً، فإنَّهُ قد احْتَبَسَ أَدْراعَهُ وأَعْتاده في سبيلِ اللهِ)). الحديث متفقٌ عليه عن أبي هريرة. و أَعْتاده: آلات الحربِ مِنَ السِلاحِ والدَوابِّ وغيرِ ذلك. وما روي أن امرأة جعلت بعيراً في سبيل الله، فأَرادَ زَوْجُها الحَجَّ، فَسَأَلْتْ رسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فقالَ: ((ادْفعِيهِ إليهِ لِيَحُجَّ عَلَيْهِ فإنَّ الحَجَّ مِنْ سَبيلِ اللهِ)). ولأنَّهُ مالٌ يُنْتَفَعُ بِهِ في وَجْهِ قُرْبَةٍ، فجازَ أَنْ يُوقَفَ كالرِباعِ.
قولُهُ: {تُرْهِبونَ عَدُوَّ اللهِ وعَدُوَّكم} تخيفون به أعداءكم مِنَ يهودَ وقريشٍ وكُفَّارِ العَرَبَ. وإرْهابُ غيرِكَ جعلُهُ راهباً، أيْ خائفاً، فإنَّ العَدُوَّ إذَا عَلِمَ استِعدادَ عَدُوِّهِ لِقِتالِهِ خافَهُ، ولم يَجْرُؤْ عَلَيْهِ، فكانَ ذَلكَ أَمناً للمُسْلِمين مِنْ أَنْ يَغْزُوَهم أَعْداؤهم.
قولُه: {وآخرين من دونهم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} قال السُدِّيُّ: همُ الفُرْسُ والرُومُ. وقيل بأَنّهم قبائلُ مِنَ العَرَبِ كانوا يَنْتَظِرونَ ما تَنْكَشِفُ عَنْهُ عاقِبَةُ المُشْرِكينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ حَرْبِهم مَعَ المُسْلِمينَ، فقدْ كانَ ذلكَ دَأْبُ كَثيرٍ مِنَ القبائلِ كَما وَرَدَ في السِيرةِ، ولذلك ذُكِرَ "مِنْ دونِهم" بمعنى: مِنْ جِهاتٍ أُخْرى، لأَنَّ أَصْلَ "دون" أَنَّها للمَكانِ المُخالِفِ، وهذا أَوْلى مِنْ حَمْلِهِ على مُطْلَقِ المُغايَرَةِ التي هِيَ مِنْ إطلاقاتِ كَلِمَةِ "دون" لأَنَّ ذلك المعنى قَدْ أَغْنى عَنْهُ وَصْفُهم ب "آخرين". وقِيلَ: المُرادُ بِذلِكَ كُلُّ مَنْ لا تَعْرِفُ عَداوَتَهُ. وقيلَ الأَفْضَلُ أَلاَّ يُقالَ فيهم شَيْءٌ، لأَنَّ اللهَ سُبْحانَهُ قالَ: "وآخرينَ مِنْ دُونِهم لا تَعْلَمونَهمُ اللهُ يَعْلَمُهم"، فكَيْفَ يَدَّعي أَحَدٌ عِلْماً بِهِمْ، إلاَّ أَنْ يَصِحَّ حَديثٌ جاءَ في ذلكَ عَنْ سِيِّدنا رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقيلَ: هُمُ الجِنُّ. أخذَ به الطبريُ، ورويَ عَنِ ابْنِ الْمَلِيكِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم، فِي قَوْلِهِ: "وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ}، قَالَ: ((هَمُ الْجِنُّ))، وقَالَ: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَخْبِلُ وَاحِدًا فِي دَارٍ فِيهَا فَرَسٌ عَتِيقٌ)). إتحافُ الخِيَرَةِ المَهَرَةِ، بِزَوائدِ المَسانِيدِ العَشَرَةِ لأَحمد بْنِ أَبي بَكْرٍ البُوصيري: (5/109). ومُسْنَدُ الحارِثِ، وذَكَرَهُ الحافِظُ ابْنُ حَجَر العَسقلانيُّ في المَطالِبِ العَليَّةِ. والعتيق الجوادُ الأصيلُ الكريمُ، وإنَّما سُمِّيَ عَتيقاً لأَنَّهُ قدْ تَخَلَّصَ مِنَ الهَجانَةِ. ورُوِيَ: أَنَّ الجِنَّ لا تَقْرَبُ داراً فيها فَرَسٌ، وأَنَّها تَنْفُرُ مِنْ صَهيلِ الخيلِ.
قولُهُ: {وما تُنْفِقوا مِنْ شَيءٍ في سبيل الله في سبيل الله} أي: تتصدقوا به، أَوْ تُنْفِقوهُ على أنفُسِكُمْ أَوْ خَيْلِكم، فَسَبيلُ اللهِ هُوَ الجهادُ لإعلاءِ كَلِمَتِهِ.
قولُهُ: {يُوَفَّ إِليكم} في الآخِرَةِ، فالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثالِها إلى سَبْعِمِئةِ ضِعْفٍ، إلى أَضْعافٍ كَثيرَةٍ. والتَوْفيةُ: أَداءُ الحقِّ كاملاً. جعل الله ذلك الإنفاق كالقَرْضِ لهُ سبحانه، وجعلَ على الإنْفاقِ جزاءٌ، فسَمَّي جَزاءَهُ تَوْفِيَةً على طريقةِ الاسْتِعارَةِ المَكْنِيَّةِ، وتَدُلُّ التَوْفِيَةُ على أَنَّهُ يَشْمَلُ الأَجْرَ في الدُنيا مَعَ أَجْرِ الآخرَةِ، وتكونُ التَوفِيَةُ على قَدْرِ الإنْفاقِ.
قولُهُ: {وأنتم لا تظلمونْ} الظُلمُ: هنا مُسْتَعْمَلٌ في النَقْصِ مِنَ الحَقِّ، لأنَّ نَقْصَ الحَقِّ ظُلْمٌ، وتَسْمِيةُ النَقْصِ مِنَ الحَقِّ ظُلْماً حقيقةٌ.
قولُهُ تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم مِنْ قوَّةٍ}الواوُ: عاطفةٌ و "أَعِدُّوا" فِعْلُ أَمْرٍ وفاعلُهُ، ومَفعولُهُ الاسْمُ المَوصولٌ "ما"، و "لهم" عائدٌ على الذين يُنْبَذُ إليهم العَهْدُ، أَوْ على الذين لا يُعجزون، على تأويلِ مَنْ تَأَوَّلَ ذلك، أو على جميع الكُفَّارِ المأمور بحربِهم بحسْب ما تقدَّمَ من تأولٍ، و "مِنْ قُوَّةٍ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بحالٍ مِنَ المَوْصُولِ. أو من العائدِ عليه، إذِ التَقديرُ ما استطعتُموهُ حالَ كونِهِ بَعضَ القُوَّةِ، ويجوزُ أَنْ تَكونَ "مِن" لِبيانِ الجِنْسِ. وجملةُ "أعدوا" عطفٌ على ما قبلَهَ.
قولُهُ: {ترهبون بِهِ عدوَّ اللهِ وعدوَّكم وآخرين} ترهبون: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون لآنّه من الأفعال الخمسة، وفاعلُه (أنتم)، و "بِهِ" جارٌّ ومجرورٌ يَعودُ إلى الإِعداد المأخوذ من قولِهِ "وَأََعِدُّواْ". و "عَدُوَّ" مفعولُ بهُ وهو مضافٌ و "اللهِ" مضافٌ إليه، وجملةُ: "ترهبون" في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ فاعلِ "أعدوا"، أيْ: حَصِّلوا لهم هذا حالَ كَوْنِكم مُرْهِبين، ويجوزُ أَنْ يَكونَ حالاً مِنْ مَفْعولِهِ وهوَ الموصولُ، أيْ: أَعِدُّوهُ مُرْهَباً بِهِ، وجازَ نِسْبَتُهُ لِكُلٍّ مِنْهُا لأَنَّ في الجُمْلَةِ ضَميرَيْهِما، هذا إذا أَعَدْنا الضميرَ مِنْ "به" على "ما" الموصولةِ. أَمَّا إذا أَعَدْناهُ على الإِعْدادِ المَدْلولِ عَلَيْهِ ب "أَعِدُّوا"، أَوْ على الرِّباطِ، أَوْ على القُوَّةِ بِتَأْويلِ الحَوْلِ فَلا يَتَأَتَّى مَجيئُها مِنَ الموصولِ. وقيلَ: يَجوزُ أَنْ يَكونَ حالاً مِنْ الضَميرِ في "لهم"، وكيف يَصِحُّ جَعْلُه حالاً مِنَ الضميرِ في "لهم" ولا رابطَ بينَهُما؟ ولا يَصِحُّ تَقديرُ ضَميرٍ في جملةِ: "تُرْهبون" لأَخْذِهِ مَعمولاً له. و "وآخرين": اسْمٌ مَعْطوفٌ على "عدوَّكم"، والجارّ "من دونهم" مُتَعَلِّقٌ بِنَعْتٍ ل "آخرين". وجملة "لا تعلمونهم" نَعْتٌ ثانٍ ل "آخرين"، وجملة "الله يعلمهم" نعتٌ ثالثٌ.
وقوله: {وما تنفقوا من شيء} الواو مُسْتَأْنِفَةٌ، "ما" شَرْطِيَّةٌ مَفْعولٌ بِهِ، والفِعْلُ مجزومٌ، وعلامةُ جزمِه حذفُ النونِ لأنَّه من الأفعال الخمسةِ، و "من شيء" جارٌّ ومجرورٌ متعلق بِنَعْتٍ لـ "ما"، و "في سبيل" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِنَعْتٍ ل "شيء"، وجملةُ "وأنتم لا تظلمون" في محلِّ نَصْبِ حالٍ مِنَ الضَميرِ في "إليكم".
قرأ العامَّةُ: {تُرهبون} وقرَأَ الحَسَنُ ويَعقوبُ، ورَواها ابْنُ عَقيلٍ عنِ أَبي عَمرٍو "تُرَهِّبون" مُضَعَّفاً، فعدَّاهُ بالتَضعيفِ كما عدَّاهُ العامَّةُ بالهمزةِ حين جعلوا ماضيه "أَرْهَبَ"، والمفعولُ الثاني على كِلْتا القراءتين محذوفٌ لأنَّ الفعلَ قَبْلَ النَقْلِ بالهَمْزةِ أوِ بالتَضْعيفِ مُتَعَدٍّ لِواحِدٍ نحو: رَهَّبْتُ كذا، أو رهِبتُ فلاناً، والتَقديرُ: تُرَهِّبونَ عَدُوَّ اللهِ قِتالَكمْ أَوْ لِقاءَكم. وقالَ أَبو حاتمٍ أَنَّ أَبا عَمْرٍو نَقَلَ قراءةَ الحَسَنِ بِياءِ الغَيْبَةِ وتخفيفِ "يُرْهبون" وهي قراءةٌ واضِحَةٌ، فإنَّ الضَميرَ حِينَئِذٍ يَرْجِعُ إلى مَنْ يَرْجِعُ إليْهِ ضَميرُ "لهم"، فإنَّهم إذا خافوا خَوَّفوا مَنْ وَراءَهُم.
وقرأ العامَّةُ: {ومِنْ رِباطِ الخيلِِ}، وقرأَ الحسنُ، وأَبو حَيَوَةَ، ومالكُ بْنُ دينارٍ "ومِنْ رُبُطِ" بِضَمَّتَينِ، ورويَ عنِ الحَسَنِ أَيْضاً أنَّه قرأ "رُبْط" بِضَمٍّ وسُكونٍ، وذلك نحو كتابٍ وكُتُبٍ.
وقرأَ العامَّةُ: {عَدْوَّ الله} بالإِضافَةِ، وقَرَأَهُ السُلَميُّ "عدوّاً" مُنَوَّناً، و "لله" بلامِ الجَرِّ، وهُوَ مُفرَدٌ والمُرادُ بِهِ الجِنْسُ فمَعناهُ أَعْداءٌ لله. قالوا: وإنَّما جَعَله نكرةً بمعنى العامَّة، لأنَّها نَكِرَةٌ أَيْضاً لمْ تَتَعرَّفْ بالإِضافة إلى المعرفة؛ لأنَّ اسْم َالفاعِلِ بمَعنى الحالِ أَوِ الاسْتِقْبالِ، ولا يَتَعَرَّفُ ذلك وإنْ أُضيفَ إلى المعارِفِ، أَمَّا "وعدوَّكم" فيَجوزُ أَنْ يَكونَ كذلكَ نَكِرَةً، ويجوزُ أَنْ يَتَعَرَّفَ لأنَّهُ قَدْ أُعيدَ ذِكْرُهُ، ومثلُه: رأيتُ صاحِباً لَكم، فقالَ لي صاحبُكم. يَعني أَنَّ "عدوَّاً" يجوزُ أَنْ يُلْمَحَ فيه الوَصْفُ فلا يَتَعَرَّفُ وأَنْ لا يُلْمَحَ فيَتَعَرَّفَ.