وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
(61)
قولُهُ ـ تباركت أسماؤه: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} وَإِذَا مالَ الأَعْدَاءُ إِلَى السَّلْمِ، وَمَالُوا إلَى المُهَادَنَةِ وَالمُصَالَحَةِ، فَمِلْ أَنْتَ إِليها، وَاقْبلْ مِنْهُمْ ذَلِكَ، لأنَّ الحَرْبَ لَيْسَتْ غَرَضاً مَقْصُوداً لِذَاتِهِ عِنْدَكَ، وَإِنَّمَا تَقْصِدُ بِهَا أَنْتَ دَفْعَ خَطَرِهِمْ وَعُدْوَانِهِمْ، وَلأَنَّكَ أَوْلَى بِالسِّلْمِ مِنْهُمْ،
قولُه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} وَفَوِّضِ الأَمْرَ للهِ، وَلاَ تَخَفْ غَدْرَهُمْ وَمَكْرَهُمْ، ولا تخَشى مِنْهم أَنْ يَكونُوا قد أَبْطَنُوا لك خِداعاً؛ فإنَّ اللهَ تعالى، يَعْصِمُكَ مِنْ شرورِهِم وكيدِهم وأَذاهُم. وَلِذَلِكَ قَبِلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، من مشركي مكَّةَ الصُّلْحَ فِي الحُدَيْبِيَةِ لَمَّا طَلَبَهُ المُشْرِكُونَ، كما هو معلوم.
وأَخْرَجَ أَبو عُبَيْدٍ، وابْنُ المُنذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عن ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُما أنَّه قالَ: إِنَّ هَذِهِ الآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ وَقَدْ جَاءَ فِيهَا: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليومِ الآخرِ}. إلى قولِهِ: {صاغرون} الآية: 29.
وأَخرَجَ أَبُو الشَيْخِ عَنِ السِدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها" قال: نَزَلَتْ في بَني قُريْظَةَ، نَسَخَتْها {فلا تَهِنوا وتَدْعوا إلى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُم} سورةُ محمد، الآية: 35.
وأَخْرَجَ الطَبرِيُّ في تَفْسيرِهِ عنْ قَتادَةَ، قولَهُ: "وإنْ جَنَحوا للسَّلْمِ"، إلى الصلح "فاجنح لها"، قال: وكانتْ هذِهِ قبلَ سورة "براءة"، وكان نَبيُّ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يُوادِعُ القَوْمَ إلى أَجَلٍ، فإمَّا أَنْ يُسْلِمُوا، وإمَّا أَنْ يُقاتِلَهم، ثمَّ نَسَخَ ذلك بعدَ ذلك في سورةِ "براءة" فقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، وقال: {قاتلوا المشركين كافَّةً}، الآية: 36. ونَبَذَ إلى كلِّ ذي عَهْدٍ عَهدَهُ، وأَمَرَهُ بِقِتالهم حتى يَقولوا (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) ويُسْلِموا، وأَنْ لا يَقْبَلَ مِنْهم إلاَّ ذلك. وكُلُّ عَهْدٍ كانَ في هَذِهِ السُورَةِ وفي غيرِها، وكُلُّ صُلْحٍ يُصالحُ بِهِ المُسْلِمونَ المُشْرِكينَ يَتَوادَعون بِهِ، فإنَّ سورة "بَراءَة" جاءتْ بِنَسْخِ ذَلِكَ، فأُمِرَ بِقِتالهم على كُلِّ حالٍ حتى يَقولوا: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ).
وأخرج عَنْ عِكْرِمَةَ والحَسَنِ البَصْرِيِّ قالا: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها"، نَسَخَتْها الآيةُ التي في سورة "براءة" قولُه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ}، إلى قولِهِ: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} سورة التوبة: 29.
ثمَّ قال (الطبريُّ): فأمَّا ما قالَهُ قَتادَةُ ومَنْ قالَ مِثْلَ قَوْلِهِ، مِنْ أَنَّ هذِهِ الآيةَ مَنْسوخَةٌ، فقولٌ لا دَلالَةَ عَلَيْهِ مِنْ كِتابٍ ولا سُنَّةٍ ولا فِطْرَةِ عَقْلٍ. وقد دَلَّلْنا في غَيرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتابِنا هَذا وغَيرِهِ عَلى أَنَّ الناسِخَ لا يَكونُ إلاَّ ما نَفَى حُكْمَ المَنسوخِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. فأَمَّا ما كان بخِلافِ ذلك، فغيرُ كائنٍ ناسخاً. وقولُ اللهِ في (بَراءة): {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، غيرُ نافٍ حُكْمُهُ حُكْمَ قولِهِ. "وإِنْ جَنَحُوا للسَّلْمِ فاجْنَحْ لها"، لأَنَّ قولَهُ: "وإِنْ جَنَحُوا للسَّلْمِ)، إنَّما عُنيَ بِهِ بَنُو قُرَيِظَةَ، وكانوا يَهودًا أَهْلَ كتابٍ، وقدْ أَذِنَ اللهُ ـ جَلَّ ثناؤهُ للمُؤمنينَ بِصُلْحِ أَهْلِ الكِتابِ ومُتارَكَتِهِمُ الحَرْبَ على أَخْذِ الجِزْيَةِ مِنْهم. وأَمَّا قولُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} فإنَّما عُنيَ بِهِ مُشْرِكُو العَرَبِ مِنْ عَبَدَةِ الأَوْثان، الذين لا يَجوزُ قَبولُ الجِزْيَةِ مِنْهم. فليسَ في إِحْدَى الآيَتَيْنِ نَفْيُ حُكْمِ الأُخْرى، بَلْ كُلُّ واحدَةٍ مِنْهُما مُحْكَمَةٌ فيما أُنْزِلَتْ فيه.
وقد صالَحَ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسَلمَّ، كثيراً مِنْ أَهْلِ البِلادِ على مالٍ يُؤَدّونَهُ، مِنْ ذلكَ خَيبرُ، رَدَّ أَهْلَها إلَيْها بَعْدَ الغَلَبَةِ على أَنْ يَعْمَلوا ويُؤَدّوا النِصْفَ.
وكذلكَ صالحَ أَصْحابُ رسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، في زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ومَنْ بعدَهُ مِنَ الأَئِمَّةِ كَثيراً مِنْ بِلادِ العَجَمِ، على ما أَخَذوهُ مِنْهمْ، وتَرَكوهم على ما هُمْ فيهِ، وهُمْ قادِرونَ على اسْتِئْصالِهم.
واختلف العلماءُ في المدَّةِ التي كانتْ بين رَسولِ اللهِ ـ صَلّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبينَ أَهْلِ مَكَّةَ عامَ الحُدَيْبِيَةِ، فقالَ عُرْوَةُ: كانَتْ أَرْبَعَ سِنين. وقالَ ابْنُ جُريْجٍ: كانتْ ثلاثَ سِنينَ. وقالَ ابْنُ إسْحاقَ: كانتْ عَشْرَ سِنينَ. وقال الشافعيُّ ـ رضيَ اللهُ عنهم أجمعين: لا تجوزُ مُهادَنَةُ المُشركين أَكثرَ مِنْ عَشْرِ سِنينَ، على ما فعلَ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم، عامَ الحُدَيْبِيَةِ، فإنْ هُودِنَ المشركون أَكثرَ مِنْ ذلك فهيَ مُنْتَقَضَةٌ، لأنَّ الأصلَ فَرْضُ قِتالِ المشركين حتى يُؤمِنوا، أَوْ يُعْطُوا الجِزيَةَ. ونَقلَ ابْنُ حبيبٍ عَنْ مالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه: تَجوزُ مُهادَنَةُ المُشْرِكينَ السَنَةَ والسَنَتَينِ والثلاثَ، وإلى غيرِ مُدَّةٍ. وقال المُهَلَّبُ: إنَّما قاضاهمُ النَبيُّ ـ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ، هذه القضيَّةَ التي ظاهرُها الوَهْنُ على المسلمين، لِسَبَبِ حَبْسِ اللهِ ناقةَ رَسولِهِ عَنْ مَكَّةَ، حين توجَّهَ إليها فبركَتْ. وقال: ((حَبَسَها حابِسُ الفِيلِ)). على ما خَرَّجَهُ البُخارِيُّ مِنْ حديثِ المُسَوِّرِ بْنِ مخْرَمةَ. ودَلَّ على جَوازِ صُلْحِ المُشركينَ ومُهادَنَتِهم دونَ مالٍ يُؤْخَذُ مِنهُم، إذا رَأَى الإمامُ ذَلكَ وَجْهاً. ويجوزُ عِنْدَ الحاجَةِ للمُسْلِمينَ عَقْدُ الصُلْحِ بمالٍ يَبْذُلونَهُ للعَدُوِّ، لِمُوادَعَةِ النبيَّ ـ صَلّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، عُيَيْنَةَ بْنِ حُصْنٍ الفِزارِيِّ، والحارِثِ بْنِ عَوْفٍ المُرِّيِّ يومَ الأَحْزابِ، على أَنْ يُعْطِيَهُما ثُلُثَ ثَمَرِ المَدينةِ، ويَنْصَرِفا بِمَنْ مَعَهُما مِنْ غَطَفانَ ويَخْذُلا قُرَيْشاً، ويَرْجِعا بِقومِهِما عَنْهم. وكانَتْ هذِه المَقالَةُ مُراوَضَةً، ولم تَكُنْ عَقْداً. فلمَّا رَأَى رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، مِنْهُما أَنَّهُما قد أَنابا ورَضِيا اسْتَشارَ سَعْدَ بْنَ مُعاذٍ وسَعْدَ بْنَ عُبادَةَ ـ رضي اللهُ عنهُما، فقالا: يا رَسُولَ اللهِ، هذا أَمْرٌ تُحِبُّهُ فَنَصْنَعُهُ لَكَ، أَوْ شيءٌ أَمَرَكَ اللهُ بِهِ فَنَسْمَعُ لَهُ ونُطيعُ، أَوْ أَمْرٌ تَصْنَعُهُ لَنا؟ فَقالَ: ((بَلْ أَمْرٌ أصنعه لكم فإن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة" ، فقالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعاذٍ: يا رَسُولَ اللهِ، واللهِ قَدْ كُنَّا نحنُ وهؤلاءِ القومِ على الشِرْكَِ وعِبادَةِ الأَوْثانِ، لا نَعْبُدُ اللهَ ولا نَعْرِفُهُ، وما طَمِعوا قَطُّ أَنْ يَنالوا مِنَّا ثَمَرَةً، إلاَّ شِراءً أَوْ قِرىً، فحينَ أَكْرَمَنا اللهُ بالإسْلامِ، وهَدانا لَهُ وأَعَزَّنا بِكَ، نُعْطيهم أَمْوالَنا! واللهِ لا نُعْطيهم إلاَّ السَيْفَ، حتّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وبَيْنَهم. فَسُرَّ رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، بِذَلكَ وقالَ: ((أَنْتُمْ وذاك)). وقالَ لِعُيَيْنَةَ والحارِثِ: ((انْصَرِفا فَلَيْسَ لَكُما عِنْدَنا إلاَّ السَيْفَ". وتَناوَلَ سَعْدٌ الصَحيفةَ، وليسَ فيها شَهادَةُ أَنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ فَمَحاها.
قولُهُ: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أيْ: إِنَّهُ ـ جَلَّ شأنُهُ، "هُوَ السميعُ" فيَسْمَعُ ما يقولون في خَلَواتِهم مِنْ مَقالاتِ الخِداعِ، و "العليم" فيَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ، ويَطَّلِعُ على نِيَّاتِهم فلاَ يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يَأْتَمِرُونَ بِهِ مِنَ كَيْدٍ وَمكرٍ وخِدَاعٍ، وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْكَ. فسَيُؤاخِذُهم بما يفعلون، ويجازيهم بما يَسْتَحِقُّونَ، ويَرُدُّ كَيْدَهم في نُحْورِهِمْ.
قولُهُ تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ للسَّلْمِ} للسِّلْمِ: مُتَعَلِّقٌ بِ "جََنََحُوا" فقيلَ: يَتَعدَّى بها وبِ "إلى". وقيلَ: هيَ هُنا بمعنى إلى.
والجُنوحُ في اللُّغةِ: المَيْلُ، وهو مِنْ جَنَحَ يَجْنَحُ، (مثلثةُ النونِ بِفَتْحِها وضَمِّها وكَسْرِها) جُنوحاً. ويُعَدَّى بِ "إلى" و باللاّمِ، وجَنَحَتِ الإِبلُ: إذا أَمالَتْ أَعْناقَها، قالَ الشاعِرُ ذُو الرُّمَّةِ:
إذا ماتَ فوقَ الرَّحْلِ أَحْيَيْتُ رُوحَهُ ... بِذِكْراكِ والعِيسُ المََراسِيلُ جُنَّحُ
ويُقالُ: جَنَحَ الليلُ: أيْ: أَقْبَلَ. وقالَ النَضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: جَنَحَ الرَجُلُ إلى فُلانٍ ولِفُلان: إذا خَضَعَ لَهُ. وجَنَحَ الطائرُ جُنُوحاً: أَيْ كَسَرَ مِنْ جَناحَيْهِ ثمَّ أَقبَلَ كالواقِعِ اللاَّجِئِ إلى مَوْضِعٍ. وجَنَحَ الرَجُلُ يَجْنَحُ: إذا أَقبَلَ على الشَيءِ يَعْمَلُهُ بِيَدَيْهِ، وقدْ جَنَحَ إليْهِ صَدْرَهُ, قالَ الشاعرُ لَبيدُ بْنُ ربيعةَ العامريُّ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، يَصِفُ ثَوْراً مُكِبًّا على تَحْرِيكِ رَأْسِهِ:
جُنُوحَ الهالِكِيِّ على يَدَيْهِ ................... مُكِبّاً يَجْتَلي نُقَبَ النِّصالِ
الهالِكِيُّ: الصَّيْقَلُ؛ الذي يَصْقلُ النِصالَ، والنُّقَبُ: الصَّدَأُ، والبيتُ مِنْ قَصيدةٍ لَلبيدٍ مَطْلِعُها:
ألَمْ تُلْمِمْ على الدِّمَنِ الخَوالي ................ لسلْمَى بالمذانِبِ فالقفالِ
ومنها:
تحمّلَ أهلُها إلاَّ عراراً ........................ وعزفاً بعدَ أحيْاءٍ حلالِ
تحمَّلَ أهلُها وأجدَّ فيها .................. نعاجُ الصَّيْفِ أخبية َ الظِّلالِ
وقفْتُ بهنَّ حتى قالَ صحبي: ............. جَزِعْتَ وَلَيسَ ذلِكَ بالنَّوَالِ
وكنتُ إذا الهُمومُ تحضَّرتني ................ وضَنَّتْ خُلَّة ٌ بَعْدَ الوِصَالِ
صَرَمْتُ حِبالَها وصدَدْتُ عَنْها .............. بِناجية ٍ تَجِلُّ عنِ الكَلالِ
وقد نسبَهُ بعضُهم للكُمَيْتِ الأَسَدِيِّ لكنَّ لبيداً به أَوْلى فهو إلى نَسيجِهِ أَقْرَبُ. والجُنوحُ: الاتِّباع أيضاً لتضمُّن الميلِ، قال النابغةُ يَصِفُ طَيْراً يَتْبَعُ الجيشَ:
جَوانحَ قد أيقَنَّ أنَّ قبيلَه ............. إذا ما التقى الجمعانِ أولُ غالبِ
ومِنْهُ "الجَوانِحُ" للأَضْلاعِ لِمَيْلِها على حَشْوةِ الشَخْصِ، والجَناحُ مِنْ ذلكَ، لِمَيَلانِهِ على الطائرِ. ورَوى أَبو صالحٍ السَّمَّانُ عَنْ أَبي هُريرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، أَمَرَ بالتَّجَنُّحِ في الصَلاةِ، فَشَكا ناسٌ إِليهِ الضَّعْفَةَ فأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَعينوا بالرُّكَبِ. وفي روايةٍ: شَكا أَصحابُ رَسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، الاعْتِمادَ في السُجودِ، فَرَخَّصَ لهم أَنْ يَسْتَعينوا بمَرافِقِهم على رُكَبهم، قالَ شَمِرُ بْنُ حمدَوَيْهِ: التَّجَنُّحُ والاجْتِناحُ كأَنَّه الاعْتِمادُ في السُجودِ على الكَفَّيْنِ، والادِّعامُ على الراحتَيْنِ، وتَرْكُ الافْتِراشِ للذِراعَيْنِ، قالَ ابْنُ الأَثيرِ: هُوَ أَنْ يَرْفَعَ ساعِدَيْهِ في السُجودِ عَنِ الأَرْضِ ولا يَفْتَرِشُهُما، ويجافيهِما عَنْ جانِبَيْهِ ويَعْتَمِدُ على كَفَّيْهِ فيَصيرَانِ لَهُ مثلَ جَناحَيِ الطائرِ. وقد تَقدَّم الكلامُ على شيءٍ مِنْ هذِهِ المادَّةِ وعلى "السَّلْمِ" و "السِّلْمِ" في البَقَرَةِ.
قولُه: {فاجنح لها} والضَميرُ في "لها" يَعودُ عَلى "السَّلْمِ" لأنَّها تُذكَّرُ وتُؤنَّثُ. ومِنَ تَأْنيثِها قولُ عَبَّاسِ بْنِ مِرْداسٍ:
السِّلْمُ تأخذُ منها ما رَضِيْتَ بِهِ .... والحربُ يَكْفيكَ مِنْ أَنْفاسِها جُرَعُ
وقالَ عَبْدُ الجبَّارِ ابْنُ حَمْديسَ الصَقَلّي:
وأَقْنَيْتُ للحَرْبِ آلاتِها ..................... وأَعْدَدْتُ للسِّلْم أَوْزارَها
قرأ العامَّةُ: {للسَّلْم} بفتحِ السينِ وشَدّها، وقرأَ أَبو بَكْرٍ بْنُ الأَنْبارِيِّ عَنْ عاصِمٍ، هُنا بِكَسْرِ السِينِ، وكَذا في القِتالِ: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} سورةِ محمَّدٍ، الآية: 35. وافقهُ حمزةُ على ما في القتالِ. وقَرَأَ عاصِمٌ في رِوايَة بَكْرٍ "للسِّلْمِ" بِكَسْرِها وشَدِّها، وهما لُغتانِ فيها.
وقرأ العامَّةُ: {فاجْنَحْ} بفتحِ النونِ، وقَرَأَ الأَشْهَبُ العَقيليُّ "فاجْنُحْ" بِضَمِّها، وهيَ لُغَةُ قَيْسٍ، والفَتْحُ لُغَةُ تميمٍ. قال أبو الفتحُ وهذِهِ القراءةُ هي القياسُ، لأنَّ "فَعَلَ" إذا كان غيرَ مُتَعَدٍّ فَمُسْتَقْبَلُهُ: "يَفعُلُ" بِضمِّ العينِ أَقْيَسُ: ك "قَعَدَ يَقْعُدُ" أَقْيَسُ مِنْ جَلَسَ يَجْلِسُ.