يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
(45)
قولُهُ ـ جلَّ جلالُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} هو خطابٌ للمؤمنين بياء النداء تنبيهاً على أهميَّةِ مضمونه ووُجوبِ الاعْتِناءِ بِهِ، و "لَقيتُمْ" أَيْ: قابَلَتُم وواجهتم، ويغلب استعمالِهِ في لِقاءِ القتالِ وهُو المُرادُ هُنا. والفِئَةُ، أَيْ: الجماعة. فهي مُشْتَقَّةٌ مِنَ الفَيْءِ بمعنى الرُجوعِ، لأنَّ بَعضَهم يَرْجِعُ إلى بَعْضٍ. وأَصْلُها فِئْوَةٌ، وهيَ مِنْ فَأوْتُ أَيْ جمعْتُ، و "الفئةُ" أيضاً الجَماعةُ أَصلُها فِئوةٌ وهي مِنْ فَأوْتُ أَيْ جمعْتُ، والمُرادُ بها هُنا: جماعَةُ المُقاتِلينَ مِنَ الكافِرينَ وأَشْباهِهم. ولم يصف اللهُ سُبْحانَهُ هذه الفئةَ وجاء بها نَكرةً لِظُهورِ أَنَّ المؤمنينَ لا يُحارِِبونَ إلاَّ الكُفَّارَ، وقيل: لِيَشْمَلَ بإطلاقِهِ لها البُغاةَ. ولا يُنافي هذا المعنى خُصوصُ سَبَبِ النُزولِ. وقولُه: "فاثْبُتوا" أيْ: لِقِتالهم وأَغْلِظوا عَليهم في النِزالِ، ولا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبارَ. ففي هذه الآيةِ المباركة يَحُثُّ اللهُ المُؤْمِنِينَ عَلَى الثَّبَاتِ عِنْدَ لِقَاءِ الأَعْدَاءِ فِي سَاحَةِ الحَرْبِ، إذا ما فُرِضَتْ عليهم ولم يكن لهم مندوحة عنها. فقد أَخْرَجَ عَبْدُ الرَزَّاقِ في مُصَنَّفِهِ، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، والطَبرانيُّ، وابْنُ مَردَويْهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوَّ، وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِنْ لَقِيتُمُوهُمْ فَاثْبُتُوا، وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا، فَإِذَا جَلَبُوا وَصَيَّحُوا، فَعَلَيْكُمْ بِالصَّمْتِ)). وهذا من جملةِ الأدبِ الذي ربّى عليه أصحابَهُ، فما كان ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ صخّاباً في شيءٍ.
وأخرجَ عبدُ الرَزَّاقِ عَنْ يَحيى بْنِ أَبي كثيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، قال: ((لا تَتَمَنّوا لِقاءَ العَدُوِّ فإنَّكم لا تَدْرونَ لَعَلَّكم سَتُبْلَوْنَ بِهِمْ وَسَلُوا اللهَ العافيَةَ، فإذا جاؤوكم يَبْرُقونَ ويَرْجُفونَ ويَصيحونَ، فالأرْضَ الأَرْضَ جُلوساً ثمَّ قُولوا: اللَّهُمَّ رَبَّنا ورَبَّهم، نَواصِينا ونَواصِيهم بِيَدِكَ، وإنَّما تَقْتُلُهم أَنْتَ، فإذا دَنَوْا مِنْكم، فَثُوروا إِلَيْهم، واعْلَموا أَنَّ الجَنَّةَ تحتَ البارِقَةِ.
وقالَ ابْنُ عبّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: يُكْرَهُ التَلَثُّمُ عِنْدَ القِتالِ. ولهذا ـ واللهُ أَعْلَمُ، كانَ يَتَسَنَّنُ المُرابِطُونَ بِطَرْحِهِ عِنْدَ القِتالِ، عَلى ضنانَتِهم بِهِ. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ عَطاءٍ بْنِ رباحٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: وَجَبَ الإنْصاتُ والذِكْرُ عِنْدَ الرَّجْفِ، ثمَّ تَلا: "واذكروا الله كثيراً". وأَخرجَ ابْنُ عَساكر عَنْ عَطاء بْنِ أَبي مُسْلِمٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: لمَّا وَدَّعَ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، عبدَ اللهِ بْنَ رَواحَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ ابْنُ رَواحَةَ: يا رَسولَ اللهِ مُرْني بِشَيْءٍ أَحْفَظُهُ عَنْكَ؟ قالَ: ((إنَّكَ قادمٌ غَداً بَلَداً السُجُودُ بِهِ قَليلٌ فَأَكْثِرِ السُجودَ)). قالَ: زِدْني. قالَ: ((اذْكُرِ اللهَ فإنَّهُ عَوْنٌ لَكَ عَلى ما تَطْلُبُ)). قال: زِدْني. قال: ((يا بْنَ رَواحَةَ فَلا تَعْجِزَنْ إِنْ أَسَأْتَ عَشْراً أَنْ تُحْسِنْ واحدَةً)). فقالَ بْنُ رَواحَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لا أَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ بعدَها. وأَخْرَجَ الحاكَمُ، وصَحَّحَهُ، عَنْ سَهْلٍ بْنِ سَعْدٍ الأنْصاري الساعدي ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((ثِنْتانِ لا تُرَدَّان، الدعاءُ عِنْدَ النِداءِ، وعندَ البأسِ حينَ يَلْحَمُ بعضُهم بَعضاً)).
وأَخرجَ الحاكمُ وصَحَّحَهُ عَنْ أَبي مُوسى الأشعريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كانَ يَكْرَهُ الصَوْتَ عِنْدَ القِتالَ)).
وأَخرَجَ ابْنُ أَبي شَيبَةَ والحاكمُ عَنْ قيس بْنِ عبَّادٍ القيسيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، قالَ: كانَ أَصحابُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، يَكْرَهونَ الصَوْتَ عِندَ القتالِ. وعنه أيضاً أَخرجَ ابْنُ أَبي شيبةَ، قال: كانَ أَصْحابُ محمَّد ـ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَسْتَحِبُّونَ خَفْضَ الصَوْتِ عِندَ ثلاثٍ: عندَ القِتالِ، وعندَ القُرآنِ، وعندَ الجَنائزِ.
وأخرج أيضاً عنِ الحَسَنِ البصريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَبيَّ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، كانَ يَكْرَهُ رَفعَ الصَوْتِ عندَ ثلاثٍ. عندَ الجَنازَةِ، وإذا التَقى الزَحْفانِ، وعندَ قراءةِ القرآنِ. وهذا أَمرٌ منه سبحانَه، بما فيهِ سببُ النَصْرِ والعِزِّة.
قولُهُ: {وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا} وعليكم مع الثبات أن تذكروا اللهَ في تلك الحال سِرَّاً داعين له، مُسْتَظْهِرين بِذِكْرِهِ على عدوِّكم، متوَجِّهين لِنَصْرِهِ، مُعْتَمِدين على حولِه وقوَّتِه، غير ذاهلين عنه بهجوم الأحوالِ وشدائدِ الأهوالِ؛ إذْ لا يَذكُر اللهَ تعالى في ذلك الحالِ إلاّ الأبطالُ مِنَ الرِجالِ. يَأمُرُهُمْ سبحانه بِذِكِرِهِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، لِتَقْوَى قُلُوبُهُمْ، وَتَثْبُتَ نُفُوسُهُمْ، ويُخلصوا له جهادَهم، فإنَّ ذكرَ اللهِ يُقَوِّي الصِلَةَ بِهِ سُبحانَه، ويِطْرُدُ وِسْواسَ الشياطين، لقولِه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((الشَّيطانُ جَاثِمٌ على قَلْبِ ابنِ آدَمَ، فإذا ذكرَ اللهَ خَنَسَ وإذا غَفَلَ وَسْوَسَ)) جامع الأصول في أحاديث الرسول: (2/446) فلا تَعودُ تُوَسْوِسُ لَهُ بالنفاق والرياءِ في جِهادِهِ طلباً لِشُهْرَةٍ أوْ سُمْعَةٍ أَوْ ذكرٍ حَسَنٍ عند الناس، أو مصبٍ أو شيء من حطام الدنيا الزائل، وهذا كلُّه مما يحبط العَمَلَ، ويبطلُ ثَوابَ اللهِ ورِضْوانَه، بَلْ يُورِدُ جَهنَّمَ، والعياذُ بالله، وقد تَقَدَّمَ غَيرَ مَرَّةٍ حديثُ أبي هريرةَ ـ رضي اللهُ عنه في الصحيحِ، ومَنْهُ: ((إنَّ أَوَّلَ الناسِ يُقضي فيهِ يومُ القيامَةِ ثلاثةٌ: رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فأُتِيَ بِهِ، فعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فعَرَفَها، فقالَ: ما عَمِلْتَ فيها؟ قال: قاتَلْتُ في سَبيلِكَ حتّى اسْتُشْهِدْتُ، قال: كَذَبْتَ، إنَّما أَرَدْتَ أَنْ يُقالَ فُلانٌ جَريءٌ، فَقَدْ قِيلَ، فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُسْحَبُ على وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ..)). وَهَذَانِ (الثباتُ وذكرُ اللهِ) مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ الفَوْزِ وَالنَّصْرِ عَلَى الأَعْدَاءِ فِي الدُّنْيا، وَمِنْ أَسْبَابِ الفَوْزِ بِالفَلاَحِ وَبِرِضْوَانِ اللهِ فِي الآخِرَةِ. وذِكْرُهُ ـ جَلَّ شَأْنُهُ، في مِثْلِ ذلِكَ المَوْطِنِ مِنْ أَقْوَى أَدِلَّةِ مَحَبَّتِهِ ـ جَلَّ وعَلا، أَلا تَرَى أنَّ مَنْ أَحَبَّ مخلوقاً فكان صادقاً في محبَّتِهِ كيف لا يني عن ذكره في أشدِِّ الظروف وأحلك الساعات؟ فهذا عنترةُ العَبْسِيُّ يِذْكُرُ محبوبَتَهُ عَبْلَةَ في مِثْلِ هَذِهِ الساعاتِ العَصيبَةِ قائلاً:
ولقد ذَكَرْتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ ....... مِنِّي وبِيضُ الهِنْدِ تَشْرَبُ مِنْ دَمِي
فوَدِدْتُ تَقبيلَ السُيوفِ لأنَّها .............. لمََعَتْ كَبارِقِ ثَغْرِكِ المُتَبَسِّمِ
وهذا الذِكْرُ المطلوبُ في الثَباتِ أَمامَ العُدوِّ في ساحِ القِتالِ هُوَ الذِكْرُ الخَفِيُّ البَعيدُ أَيْضاً عَنِ الرِياءِ وحُبِّ السُمعَةِ، لأنَّ رَفْعَ الأَصْواتِ في مَواطِنِ القِتالِ مَكروهٌ، إلاَّ إذا كانَ مِنَ الجَميعِ عِنْدَ الحَمْلَةِ على العدوِّ فَهو حَسَنٌ لأنَّه يَفُتُّ في عَضُدِ العَدُوِّ. أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، عَنْ عَطَاءٍ بْنِ رباحٍ ـ رَضِيَ اللهُُ عنهُم، قَالَ: "وَجَبَ الإِنْصَاتُ وَالذِّكْرُ عِنْدَ الزَّحْفِ، ثُمَّ تَلا قولَهُ تعالى: "إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا"، قُلْتُ: يَجْهَرُونَ بِالذِّكْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ". (السائلُ ابنُ جُرَيْجٍ والمسؤولُ عَطاءُ بْنَُ رَباح). وأخرج أيضاً عَنْ كَعْبِ الأَحْبَارِ ـ رضي اللهُ عنه، قَالَ: "مَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ، وَلَوْلا ذَلِكَ مَا أَمَرَ النَّاسَ بِالصَّلاةِ وَالْقِتَالِ، أَلا تَرَوْنَ أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ النَّاسَ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْقِتَالِ؟ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةٍ فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ".
وأَخْرَجَ أَبو نعيمٍ في الحليَةِ عَن أَبي جعفرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: أَشَدُّ الأَعْمالِ ثَلاثةٌ: ذِكْرُ اللهِ على كُلِّ حالٍ، وإنْصافُكَ مِنْ نَفْسِكَ، ومُواساةُ الأَخِ في المالِ. وأخرجَه الديلمي وابنُ أبي شيبةَ مرفوعاً، وفي روايةٍ (أسدّ) بدلاً من أشدّ.
وأخرج أبو نعيم الأصبهاني مرفوعاً عنْ عليٍّ ـ رضي اللهُ عنه، بلفظ: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: ((أَشَدُّ الأعمالِ ثلاثة: ذكرُ اللهُ على كُلِّ حالٍ، وإِنْصافُ الناسِ بعضُهُم مِنْ بَعْضٍ، ومُواساةُ الإخوان))، أخبارُ أَصبهان: (2/456)
قولُه: {لَعَلَّكم تُفلِحون} أيْ: تَظفرون بالنصر على عدوِّكم وبعظيم النوالِ. وفيهِ تَنْبيهٌ على أَنَّ العَبْدَ يَنْبَغي أَلاَّ يُشْغَلَ بشيءٍ أبداً عنْ ذكرِ اللهِ تعالى، ولو كان جهاد العدوِّ، وعليه أَنْ يَلْتَجِئَ إِلى ربِّهِ عِندَ الشدائدِ، وأَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهِ بِكليَّتِهِ، في أَحوالِهِ كلِّها، واثقاً بأنَّ لُطْفَهُ لا يَنْفَكُّ عَنْه في جميعِ الأَحْوالِ. و "تفلحون" تَنالونَ بُغْيَتِكم وتَبْلُغونَ آمالِكُمْ، قالَ لَبيد:
أَفْلِحْ بما شِئْتَ فقدْ يُبْلَغُ بالضَّـ ........... ـعْفِ وقد يُخْدَعُ الأَريبُ
قولُهُ تَعالى: {إذا لََقيتم فئةً فاثْبُتُوا} جملةُ الشَرْطِ "إذا لقيتم فئة" جوابُ النداءِ مُسْتَأْنَفَةُ، وجملة "لقيتم" في محلِّ جَرٍّ بإضافتها إلى "إذا". وجملةُ: "فاثبُتوا" جوابُ الشرط.
وقولُهُ" {واذكروا اللهَ كثيراً لعلّكم تفلحون} جملة: "اذكروا" عطف على جملة جواب الشرط "اثبتوا" و "كثيرا" نائب مفعول مطلق. وجملة "لعلكم تفلحون" مستأنفةٌ لا محل لها.