وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ} يخبرُ
ـ عزَّ وجلَّ، بأنَّ عدمَ سمعِهم سماعَ التَفَكُّرِ والتَدَبُّرِ والفَهْمِ والاهْتِداءِ الذي سبق الحديث عنه في الآيتين السابقتين، إنما هُو بما عَلِمَهُ اللهُ مِنْهُم في سابق علمِهِ وسَبْقِ قضائه عليهم، وتقريرُ الكلامِ: أنَّه لو حَصَلَ فيهم خيرٌ، لأَسمَعَهُمُ اللهُ الحجج والمواعِظ سماعَ تَعليمٍ وتَفهيم، ولو أَسمعَهم بَعدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّه لا خيرَ فيهم لم ينتفِعوا بها. وقد سَبَقَ أَنْ بيَّنا بأَنَّ العلمَ ـ أَيَّ عِلْمٍ ـ هُوَ كاشِفٌ للحَقائقِ وليسَ مُجْبِراً عَلى الأَفْعَالِ، فأَنْ تَعْلَمَ بِأَنَّ فُلاناً من الخلقِ فَعَلَ كذا وعَمِلَ كذا، لا يَعني أَيَّ كَسْبٍ لكَ في ذلك البتَّةَ، أَوْ أَيَّ تأثيرٍ فيه، والفَرْقُ بينَ عِلْمِنا وعِلْمِ اللهِ ـ جَلَّ جلالُه، أَنَّ عِلْمَنا حادِثٌ ويَعْتَمِدُ على الحواسِ الخَمْسِ، فما لا تُعطينا إيَّاهُ هذِهِ الحواسُّ فلا سَبيلَ لَنا لإدْراكِهِ، ومِنْ ثمَّ فإنَّنا لا نَسْتَطِيعُ العِلْمَ بالشَيْءِ إلاَّ بَعْدَ حُصولِهِ، أَمّا عِلْمُ اللهِ تَعالى فإنَّه قديمٌ أَزَليٌّ، مُطْلَقٌ لا يحتاجُ إلى حاسَّةٍ ولا إلى واسِطَةٍ، ولا يَحدُّه زَمانٌ ولا مَكانٌ، لِذلكَ فإنَّه يَعْلَمُ حَقائِقَ الأَشْياءِ قَبْلَ وُجودِها وبعدَه. وقد خرَّجَ ذلكَ كلَّه في عِبارَةٍ بَليغَةٍ بديعة في ذِمِّهم بِقَوْلِهِ: "ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم" والمُرادُ أَسمعَهم الحُجَجَ والمواعِظَ سماعَ تَفهيمٍ وهدايةٍ، وقيلَ لأسمَعَهم كلامَ الذي طَلَبُوا إِحياءَهُ وهو قُصَيِّ بْنِ كِلابٍ وغيرِهِ يَشْهدونَ بِنُبُوَّتِه ـ صلى الله عليه وسلَّمَ، وقدْ تقَدَّم أَنَّهم طَلَبُوا ذلكَ مِنْه ـ صلى الله عليه وسلَّمَ، على سبيلِ المُعانَدَةِ والتَعْجيزِ. أَوْ لأسمعَهم جَوابَ كلِّ ما يَسْأَلونَ عَنْهُ. أَخْرَجَ ابْنُ إسْحقَ، وابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزَبَيرِ ـ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُما، في قولِهِ: "وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فيهم خيراً لأَسمَعَهم" أَيْ: لأَعَدَّ لهم قولَهم الذي قالوا بِأَلْسِنَتِهم ولكنَّ القُلوبَ خالفَتْ ذلك مِنْهم.
قولُه: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} فقد عَلِمَ منهم، سبحانَهُ، أنَّهم لن يكفُّوا عن كفرهم وعنادهم ولن يَسْلُكوا سبيلَ الرشدِ والهدايةِ حتى ولو أنَّهُ تعالى أسمعهم سمعَ الفَهْمِ، وذلك لأنهم مُتَّصِفون بالتَكَبُّرِ على خَلْقِ اللهِ من الفقراءِ والمَساكينِ، وهُمْ يُحِبّون أَنْفُسَهم ويقدِّمون مَصالحَهم، والدينِ الحَنيفِ يُساوي بينَهم وبين غيرِهم مِنْ عِبادِ اللهِ بما فيهم الفُقَراءُ والمساكينُ والعبيدُ، وهذا ما تَأباهُ أَنْفُسُهم المُتَكَبِرةِ المُتَجَبِّرَةِ. وهكذا كانت نفسُ إبليس حين تكبّر على آدم ـ عليه السلام، فباء بغضب مولاه ولم ينفعْه علمُه ولا فهمُه. لذلك فإنهم ولو فهموا مَقاصِدَ التَشْريعِ الإلهيِّ، فلن يَلْتَزِمُوا بِها، بَلْ سَيُديرونَ لها ظهورَهم ويَبتَعِدونَ عَن طريق الهداية. عَلِمَ اللهُ ذلكَ مِنهم بِسابِق عِلمِه فتَرَكَهم لهوى نُفوسِهم ولِسَقيمِ فَهْمِهِم.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ: "ولو أسمعهم" بعدَ أَنْ يَعْلَمَ أَنْ لا خَيْرَ فيهم ما نَفَعَهم بَعْدَ أَنْ يَنْفُذَ عِلْمُهُ بأَنِّهم لا يَنْتَفِعونَ بِهِ.
وأَخرجَ أَبو الشَيخِ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ، في الآيةِ قالَ: قالوا: نحنُ صُمٌّ عَمَّا يَدْعُونا إلَيْهِ محَمَّدٌ، لا نَسْمَعُهُ، بُكْمٌ لا نُجيبُه فيه بتَصديقٍ، قتلوا جميعاً بِأُحُدٍ، وكانوا أَصْحابَ اللواءِ يَومَ أُحُدٍ.
قولُه تعالى: {لَوْ} وُضِعَتْ للدَلالَةِ على انْتِفاءِ الشيءِ لأَجْل ِانْتِفاءِ
غيرِهِ، فإذا قلتَ: لو جِئْتَني لأَكْرَمْتُكَ، أَفادَ أَنَّهُ ما حَصَلَ المجيءُ، وما حصلَ الإكرامُ. ومِنَ الفُقَهاءِ مَنْ قال: إنَّهُ لا يُفيدُ إلاَّ الاسْتِلزامِ، فأما الانْتِفاء لأجلِ انْتِفاءِ غيره، فلا يُفيدُهُ هذا اللَّفْظُ، والدليلُ عَليْهِ الآيةُ والخَبرُ، أَمَّا الآيةُ، فهي هذِهِ الآية، وتقريرُهُ: أَنَّ كلمةَ "لَوْ" لو أَفادتْ ما ذَكَروهُ لكانَ قولُهُ: "وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ" يَقْتَضي أَنَّه تَعالى ما عَلِمَ فيهِمْ خَيْراً وما أَسمَعَهم. ثمَّ قال: "وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ" فيَكونُ معناهُ: أَنَّهُ ما أَسمَعَهم وأَنهمْ ما تَوَلَّوْا لَكنَّ عدمَ التَولّي خَيرٌ مِنَ الخيراتِ، فأَوَّلُ الكَلامِ يَقْتَضي نَفْيَ الخَيرِ، وآخِرُهُ يَقْتضي حُصُولَ الخيرِ، وذلك متناقض. فَثَبَتَ أَنَّ القولَ بِأَنَّ كَلِمَةَ "لَوْ" تُفيدُ انْتِفاءَ الشيءِ لانْتِفاءِ غيرِهِ يُوجِبُ هذا التَنَاقُضَ، فوَجَبَ أَنْ لا يُصارَ إلَيْهِ. وأَمَّا الخَبرُ فقولُهُ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((نِعْمَ الرَّجُلُ صُهَيْبٌ لو لم يَخَفِ اللهَ لَمْ يَعْصِهِ)) فلو كانت لَفْظَةُ "لو" تُفيدُ ما ذَكَروهُ لَصارَ المعنى أَنَّهُ خافَ اللهَ وعَصاهُ، وذلك متناقض. فثَبتَ أَنَّ كلِمَةَ "لَوْ" لا تُفيدُ انْتِفاءَ الشيءِ لانْتِفاءَ غيرِهِ، وإنَّما تُفيدُ مُجَرَّدَ الاسْتِلْزامِ.
قولُه: {وَهُم مُّعْرِضُونَ} هذه الجملةُ حالٌ مُؤَكّدَةٌ مَعَ اقْتِرانها بالواوُ.