ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ
(14)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ} إِنَّ هَذا العِقَابَ الذي نَزَلَ بِكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، أَيُّهَا الكَافِرُونَ المُشَاقُّونَ للهِ وَرَسُولِهِ: مِنِ انْكِسَارٍ وَذِلَّةٍ وَ خِزْيٍ، إِنَّمَا هُوَ عِقَابُ الدُّنْيَا الذِي عَجَّلَهُ اللهُ لَكُمْ فِيهَا، فإنَّهُ تعالى لمّا بَيَّنَ أَنَّ مَنْ يُشاقِقِ اللهَ ورَسُولَهُ فإنَّ اللهَ شَديدُ العِقابِ، بَيَّنَ مِنْ بَعْدِ ذلك صِفَةَ عِقابِهِ، وأَنَّه قدْ يَكونُ مُعَجَّلاً في الدُنيا، وقدْ يَكونُ مُؤَجَّلاً في الآخِرَةِ، ونَبَّهَ بِقَوْلِهِ: "ذلكم فَذُوقُوهُ" عَلى أَنَّ ذَلكَ يَسيرٌ بالنِسْبَةِ إلى المؤجَّلِ في الآخِرَةِ، لذلك فقد سَمَّاهُ ذَوْقاً، لأنَّ الذَوْقَ إنّما يَكونُ لليَسيرِ لِيُعْرَفَ بِهِ حالُ الكَثيرِ، فعاجِلُ ما حَصَلَ لهم مِنَ الآلامِ في الدُنيا هو من هذا الباب. وقولُهُ: "فَذُوقُوهُ" يَدُلُّ من جهة ثانيةٍ على أَنْ الذوقَ يَحْصُلُ بِطريقٍ آخَر سِوى الطريق الذي تُدرَكُ به الطُعومُ المَخْصوصَةُ. وهو هنا كما هو في قولِهِ تبارك وتعالى في سورة الدخان: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيزُ الكَريمُ} الآية: 49. وكان ـ عَلَيْه الصَلاةُ والسَلامُ، يَقولُ: ((أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُني ويَسْقيني)) حسنٌ صحيح غريب، خرجه أَحمدُ والتِرْمِذيُّ، وابنُ ماجة، والبزار، والحاكم عن أبي هريرة. مما يُثبِتُ أنَّ الذَوْقَ والأَكْلَ والشُرْبَ يحصُلُ قد يكونُ رُوحانياً أَيْضاً.
وقولُهُ ـ عََزَّ وجَلَّ في سورة النحل: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجُوعِ والخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} الآية: 112.
والجوعُ سَلْبُ الطَعامِ، فَكيفَ تَكونُ إذاقَةُ الجُوعِ؟ الجُوعُ ليسَ ممَّا يُذاقُ، ولا اللِّباسُ، فنَفهمُ من هذه الآية أَنَّ الإذاقَةَ هِيَ الإحساسُ الشَديدُ بالمَطْعومِ، واللباسَ يَعُمُّ البَدَنَ، فكأَنَّ الإذاقَةَ تَعُمُّهُ أَيضاً. حتى تَتَذَوَّقُ الأناملُ، والأرجُلُ، والصَدَرُ والعُنُقُ؛ وكأنَّ الجُوعَ قدْ صارَ محيطاً بالإنسان كُلِّهِ.
إذاً فالعذابُ الذي رَآهُ الكُفّارُ على أَيْدي المؤمنين مُجَرَّد ذَوْقٍ هَيِّنٍ جِدًا بالنِسْبَةِ لما سَوْفَ يَرَوْنَهُ في الآخِرَةِ مِنَ عِقابٍ شديدٍ وعذابٍ أَليمٍ، فالشِبَعُ مِنَ العَذابِ إنما يكون في الآخرَةِ، وقد بيَّنَ سبحانهُ السبَبَ فقال: "ذلك بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب".
قولُهُ: {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} وَاعْلَمُوا أَنَّ لَكُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابَ النَّارِ، إِنْ أَصْرَرْتُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ، وَهُوَ أَشَدُّ وَأَدْهَى مِنْ عَذَابِ الدُّنْيا. فإنَّ النارَ المعروفةَ في حياتِنا تَحْرُقُ أَيَّ شَيْءٍ تُدْخِلُهُ فيها، لكنَّ نارَ الآخِرَةِ تَخْتَلِفُ اختلافاً كبيراً فقد قال عنها الحقُّ سُبحانَه: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذابَ} سورة النساء، الآية: 56.
قولُهُ تعالى: {ذلكم فَذُوقُوهُ} يجوز في "ذلكم" أربعةُ أوجه أحدها: أن يكونَ مرفوعاً على خبر ابتداء مضمر أي: العقاب ذلكم أو الأمر ذلكم. الثاني: أن يرتفعَ بالابتداء والخبرُ محذوفٌ أي: ذلكُ العقابُ. وعلى هذين الوجهين فيكون قولُه: "فذوقوهُ" لا تَعَلُّق لها بما قبلها مِنْ جهة الإِعراب. والثالث: أن يرتفع بالابتداء، والخبرُ قوله: "فذوقوه"، وهذا على رأي الأخفش فإنه يرى زيادة الفاء مطلقاً أعني سواءً تضمَّن المبتدأ معنى الشرط أم لا، وأما غيرُه فلا يُجيز زيادتها إلا بشرط أن يكون المبتدأ مشبهاً لاسم الشرط، وقد قَدَّمْتُ تقريرَه غير مرة. واستدلَّ الأخفش على جواز ذلك بقول الشاعر:
وقائلةٍ خولانُ فانكِحْ فتاتَهُمْ ........... وأُكْرومَةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كما هيا
وخرَّجه الآخرون على إضمار مبتدأ تقديره: هذه خولان. الرابع: أن يكون منصوباً بإضمار فعل يُفَسِّره ما بعده، ويكون من باب الاشتغال . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون نصباً على "عليكم ذلكم" كقوله: زيداً فاضربه. قال الشيخ: ولا يَصِحُّ هذا التقدير لأنَّ "عليكم" من أسماء الأفعال، وأسماءُ الأفعالِ لا تُضْمَر، فتشبيهُه بقولك: "زيداً فاضرِبْه" ليس بجيد، لأنهم لم يُقَدِّروه ب "عليك زيداً فاضربه" وإنما هذا منصوبٌ على الاشتغال، قلت: يجوز أن يكون نحا الزمخشري نَحْوَ الكوفيين، فإنهم يُجرونه مُجْرى الفعل مطلقاً، وكذلك يُعْملونه متأخراً نحو: {كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} النساء: 24.
وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون في موضع نصب، أي: ذوقوا ذلكم، ويُجْعَلَ الفعلُ الذي بعده مفسِّراً له، والأحسن أن يكون التقدير: باشروا ذلكم فذوقوه لتكون الفاءُ عاطفةً. وظاهرُ هذه العبارةِ الثانية أن المسألةَ لا تكون مِن الاشتغال لأنه قَدَّر الفعلَ غيرَ موافقٍ لما بعده لفظاً مع إمكانه، وأيضاً فقد جَعَلَ الفاءَ عاطفةً لا زائدةً، وقد تقدَّمَ تحقيقُ الكلام في هذه الفاء عند قوله في سورة البقرة: {وَإِيَّايَ فارهبون} الآية: 40. وجملة: "فذوقوه" اعتراضٌ وُسِّط بين المعطوفَيْن للتهديد، والضميرُ على الأوَّلً لِنَفْسِ المُشارِ إليه وعلى الثاني لما في ضمنه.
قوله: {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار} الجمهور على فتح "أنَّ" وفيها تخريجات، إحداها: أَنَّها وما في حَيِّزها في محلِّ رَفْعٍ على الابْتِداءِ، والخبرُ محذوفٌ تقديره: حَتْمٌ استقرارُ عذابِ النار للكافرين. والثانيةُ: أنها خبر مبتدأ محذوف أي: الحتم أَوِ الواجِبُ أَنَّ للكافرين، أَوْ الوَاجِبُ أنَّ للكافرين عذابُ النار. الثالثة: أَنْ تَكون عطفاً على "ذلكم" في وجهَيْه، قالَهُ الزمخشريُّ، ويَعني بقولِهِ "في وجهيه"، أَيْ: وجهي الرَفْعِ وقد تَقدَّما. الرابعةُ: أنْ تَكونَ في محلِّ نصب على المعيَّة، قال الزمخشري: أو نصب على أن الواو بمعنى مع، والمعنى: ذوقوا هذا العذابَ العاجلَ مع الآجل الذي لكم في الآخرة، فوضَع الظاهرَ موضعَ المضمر "يعني بقوله وَضَع الظاهرَ موضعَ المضمر" أنَّ أصْلَ الكلام: فذوقوه وأَنَّ لَكم، فوَضَعَ "للكافرين" موضعَ "لكم" شهادةً عليهم بالكفر ومَنْبَهَةً على العلة. الخامسةُ: أَنْ يَكونَ في محلِّ نَصْبٍ بإضْمارِ اعْلَموا، قالَ الشاعر:
تسمع للأَحْشاء منه لَغَطَاً ...................... ولليدين جُسْأَةً وبَدَدا
أي: وترى لليدين بَدَداً، فأضمر "ترى"، كذلك فذوقوه: واعلموا أنَّ للكافرين. وأنكره الزجاج أشدَّ إنكارٍ وقال: لو جاز هذا لجاز: "زيد قائم وعمراً منطلقاً"، أي: وترى عمراً منطلقاً، ولا يُجيزه أحد. وقرأ زيد بن علي والحسن بكسرها على الاستئناف.