كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ
(54)
قولُهُ ـ سبحانه وتعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ودأبُ هؤلاءِ (كفَّارُ قُريْشٍ) في الكُفْرِِ والتَكْذيبِ والاسْتِمرارِ عَلى ذَلِكَ، كدأْبِ قومِ فِرْعَوْنَ والأقُوامِ الأُخُرى الذينَ سَبقوهم، وحالُ هؤلاءِ كَحالِ أُولئك. ولم يُبَيِّنْ هُنا سبحانَه، مَنْ هُمْ هؤلاءِ الذين مِنْ قبلِهم، وما هي ذُنوبُهم التي أَخَذَهُم اللهُ بها. إنّما بَيَّنَ ذلك في مَواضِعَ أُخَرَ فذَكرَ قومَ نُوحٍ، وقَومَ هُودٍ، وقومَ صالحٍ، وقومَ لُوطٍ، وقوْمَ شُعَيْبٍ؛ وذكَرَ ذُنوبَهم التي أُخِذَوا بسبَبِها وهِيَ الكُفْرُ باللهِ، وتَكْذيبُ المرسلين، وهي السِمَةُ المشتركةُ بينَهم جميعاً، ثمَّ كَانَ لكلٍّ مِنْهم مَعصيتُهُ، فثمودُ عقروا الناقةَ، وأَتى قومُ لُوطٍ الفاحِشَةَ، و قومُ شُعَيْبٍ طفَّفَوا المِكْيالَ والمِيزانَ، إلى غيرِ ذلك ممّا جاءَ مُفَصَّلاً في مواضِعِه بآياتٍ كَثيرَةٍ. ولَقدْ كَرَّرَ هُنا قَضِيَّةَ آلِ فِرْعونَ، فكانَتِ المَرَّةُ الأُوْلى لِبيانِ كُفْرِهم فأَخَذَهمُ اللهُ بالعذابِ، أَمَّا الثانيَةُ فَهِيَ أَنَّ حالَ هؤلاءِ في تغييرِ النِعَمِ كَحالِ آلِ فِرْعَوْنَ والذينَ مِنْ قَبْلِهم. فالأوَّلُ للعادَةِ في التكذيبِ، والثاني للعادة في التَغييرِ. والأوَّلُ دَأْبٌ في أَنهم هَلَكوا لمَّا كَفَروا، وهذا دَأْبٌ في أَنْ اللهَ لمْ يُغيرْ نعمتَه عليهم حتى غَيَّروها هُم، والأَوَّلُ مُتَضَمِّنٌ ذِكْرَ إجْرامِهم، والثاني متضمِّنٌ ذِكْرَ إغْراقهم، وفي الأَوَّلى ما يَنْزِلُ بهم حالَ الموتِ مِنْ عقوبةٍ، وفي الثانيةِ ما يَحُلُّ بهم في الآخرة مِنْ عَذابٍ، وجاء في الأولى بآيات الله إشارةً إلى إنكارِ ذِكْر دلائلِ الإِلهيَّة. وجاء في الثانية بآياتِ ربِّهم إشارةً إلى إنكارهم مَنْ رَبَّاهم وأَحْسَنَ إليهم. ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ الضَميرُ في "كفروا" في الآيةِ السابقةِ عائداً على قريش، وأنْ يكون الضميرُ هنا في "كذَّبوا" عائداً على آلِ فِرْعَوْنَ ومَنْ ذُكِرَ مَعَهم. وآلُ فرعونَ هم من اتبعوه على دينه من أقباطِ مصرَ فأهلكهمُ الله معه غرقاً في البحر، وقد تقدّم ذكرُ قصَّتهم في اسورَةِ الأعرافِ مفصّلة من الآية: 103 حتى الآية: 137.
قولُهُ: {كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} وكما أَنَّ دَأْبَ هؤلاءِ الكُفّارِ في إنكارهِم آياتِ اللهِ وتَغييرِ نِعَمِهِ، كَدَأْبِ آلِ فِرْعونَ والذينَ مِنْ قَبْلِهم، فإنَّ دَأْبَهم أيْضاً الاسْتِمْرارُ على تكذيبِ رسولِ اللهِ، مِثْلَ آلِ فِرعوْنَ والذينَ مِنْ قَبْلِهم، ومِنْ ثمَّ كان الشبَهُ بَينَهُم في الكُفْرِ بالآياتِ وجُحودِ الرسالات، وفي الاسْتِمْرارِ على ذلك. لهذا أَخَذَ اللهُ الجميعَ بِذُنوبهم: أُولئكَ الأمم السابقة أخذهم بالصَواعِقِ والرياحِ ونحوِها، وآل فرعون بالغَرَقِ، وهؤلاءِ بالقتل والأسرِ وتجريعهم كأسَ ذُلِّ الهزيمةِ، وهم المحاربون الأشداء، فقد كانت الهزيمة عند العربي أَشَدُّ ما يبتلى به، فهي عار يُلاحِقُهُ طَوالَ حَياتِهِ، ويستمرُّ في ذرِّيَّته، فيُعيَّرونَ بها بعد مماته. ولذلك عاقبهم اللهُ بها، وكلُّ تِلكَ الأُمَمِ كانَتْ ظَالِمَةً، فاسْتَحَقّ الجميعُ ما نَزَلَ بهم مِنْ عقابٍ حِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ ورسالاته وحاربوا رُسُلَهُ والمؤمنين بهم، فأَهْلَكَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَجَرَائِمِهِمْ، وَتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ رَبِّهِمْ وَآيَاتِهِ.
قولُهُ: {وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} وكلُّ أُولئك الكَفَرَةِ كانوا ظالمين لأنفسهم أوَّلاً بأنْ أَوْرَدوها مَوارِدَ الهَلاك وعذّبوها بأنْ أبعدوها عن مولاها، وعرضوها لسخطه، وظلموا المؤمنين باللهِ ورُسُلِهِ حين عذبوهم وآذوهم وحاربوهم وحاولوا منعهم مِنَ الإيمانِ بربهم وسلوكِ سبيل محبته ورضوانه. وجزاءُ الظالمِ أَنْ يُعاقَبَ على ظُلْمِهِ، فكان ما كان جزاءً وِفاقاً لهم من ربهم ـ سبحانه وتعالى.
قولُهُ تَعالى: {كدأب آلِ فرعونَ والذين من قبلهم كذّبوا} كدأبِ: جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بخبرٍ محذوفٍ لِمُبْتَدَأٍ محذوفٍ، والتقديرُ "دَأْبُ هؤلاءِ كائنٌ كَدَأْبِ آلِ فرعونَ". وهي جملةٌ استئنافيَّةٌ لا محلَّ لها من الإعراب. وجملةُ "كذَّبوا" تفسيرٌ للدَأْبِ، لا محَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {وكُلٌّ كانوا} جملةٌ مَعطوفةٌ على الجملة الاسْتِئْنافِيَّةِ "دأبهم كدأْب" فلا محلَّ لها من الإعراب كذلك.
قولُهُ: {وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} كُلٌّ" نُوِّنَ للتَعْويضِ عَنِ المُضافِ إليْهِ، أي: وكلُّ المذكورين، مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ والذينَ مِنْ قَبْلِهِم. وجُمِعَ الضَميرُ في "كانوا" وجُمِعَ في "ظالمين" مُراعاةً لمعنى "كُلٌّ"؛ لأنَّ "كلّ" مَتى قُطِعَتْ عَنِ الإِضافَةِ جازَ مُراعاةُ لَفْظِها تَارَةً ومَعناها أَخْرى، وإنَّما اخْتِيرَ ضميرُ الجمعِ هُنا مُراعاةً للمَعنى لأَجْلِ الفَواصِلِ، فلو رُوعِيَ اللفظُ فَقيلَ مَثلاً: وكلٌّ كانَ ظالماً لم تتَّفِقْ الفَواصِلُ، فإنَّ الفاصلةَ التي قَبْلَها هي "عَليم" وبعدَها "يؤمنون" فجاءتْ هنا "ظالمين" متَّسقةً مع ما قبلها وما بعدها مما يشكِّلُ جَرْساً يَشُدُّ السامِعَ وتَسْتَسيغُهُ أذنُه وتَرْتاحُ إليه نَفْسُهُ، وهذِهِ إحْدى مِيزاتِ هذا الكتابِ الكَريم.