وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ} وَاذْكُرُوا: مُشْتَقٌّ مِنَ الذُكْرِ (بِضَمِّ الذالِ) وهوَ التَذَكُّرُ لا ذِكْرُ اللِّسانِ، أَيْ تَذَكَّروا. ففي هذه الآية الكريمة يُذكِّرُ ـ سبحانهُ وتَعَالَى، المُؤْمِنِينَ بحالهم في بدايةِ الدَعْوَةِ يَوْمَ كانوا قِلَّةً ضُعَفاءَ، والمُشرِكونَ كانوا يومَها كثرةً أقوياءَ، لِيَلْفِتَهم إِلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ نَّعَمِ وَفِيرَةِ، بعدَ أَنْ أَمَرَهُم فيما سبق بِِطاعةِ اللهِ ورسولِهِ، وأَمَرَهْم باتِّقاءِ المَعْصِيَةِ، أَكَّدَ ذلكَ التَكليفَ بهذِهِ الآيةِ، وذلك بأَنْ بَيَّنَ أَنَّهم كانوا قبلَ ظُهورِ الرَسولِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، في غايَةِ القِلَّةِ والذِلَّةِ، وبعدَ ظُهورِهِ صاروا في غايةِ العِزَّةِ والرِفْعَةِ، مما يُوجِبُ عَليْهِمُ الطاعَةَ وتَرْكَ المُخالَفَةِ. وقيلَ إنَّ الخطابَ في هذه الآيةِ هُو للعَرَبِ عامّةً. فقدْ أَخْرَجَ ابْنُ المُنذِرِ، وابْنُ جَريرٍ الطَبَرِيُّ، وأَبو الشَيْخِ، عنْ قَتادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، في قوله: "واذكروا إذ أنتم قليل" الآية. قال: كانَ هذا الحَيُّ أَذَلَّ النَّاسِ ذُلاًّ، وأَشْقاهُ عَيْشاً، وأَجوَعَهُ بُطوناً، وأَعْراهُ جُلوداً، وأَبْيَنَهُ ضَلالَةً، مَعْكوفين على رأسِ حَجَرٍ بَينَ فارسَ والرومِ. لا وَاللهِ ما في بِلادِهم ما يُحْسَدونَ عليه، مَنْ عاش مِنْهم عاشَ شَقِيّاً، ومَنْ ماتَ مِنْهُم رُدِّيَ في النارِ، يُؤكَلونَ ولا يَأْكُلونَ. لا وَاللهِ ما نَعْلَمُ قبيلاً مِنْ حاضِرِ الأَرْضِ يَومَئِذٍ كانَ أَشَرَّ مَنْزِلاً مِنْهم، حتى جاءَ اللهُ بالإِسْلامِ، فمَكَّنَ بِهِ في البِلادِ، ووَسّعَ بِهِ في الرِزْقِ، وجَعَلَكم بِهِ مُلُوكاً على رِقابِ النَّاسِ، وبالإِسلامِ أَعْطى اللهُ ما رَأَيْتُم، فاشْكُروا للهِ نِعَمَهُ، فإنَّ رَبَّكم مُنْعِمٌ يُحِبُّ الشُكرَ، وأَهْلُ الشُكرِ في مَزيدٍ مِنَ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ.
قولُهُ: {تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} الخطفُ: الأخذُ بسُرعةٍ، والتَخَطُّفُ: شدَّةُ الخطفِ وتكرارهُ. أيْ: تخشونَ أنْ يَعْتَدِي عَلَيْكمُ النَّاسُ بالسلبِ والتعذيبِ والأَذَى، خَائِفِينَ مِنْ مُجْرِمِي قُرَيْشٍ، فكانوا إذا خرجوا من بلدهم خافوا أنْ يَتَخَطَّفَهُمُ مُشِرِكو العَرَبِ، لِقُرْب هؤلاءِ من مشركي قريشٍ وشدَّةِ عداوتهمْ للمسلمين. فقد أَخْرَجَِ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُريْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في قولِهِ: "يتخطَّفكم الناسُ" قال: في الجاهلية بِمَكَّةَ فآواكم إلى الإِسلام. وأَخرجَ عبدُ الرزاقِ، وعبدُ بْنُ حميدٍ، وابنُ جريرٍ، وابنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، عَنْ وَهْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ: "يتخطفكم الناس" قال: الناسُ إذْ ذاكَ: فارِسُ والرُومُ. وأَخرجَ أَبو الشَيْخِ، وأَبو نُعيمٍ، والدَيْلَمِيُّ، في مُسْنَدِ الفِردَوْسِ، عنِ ابْنِ عَبِّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، عنْ رَسولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في قولِهِ: "واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس" قيلَ: يا رَسُولَ اللهِ وَمَنِ النّاسُ؟ قال: ((أَهْلُ فارِسَ)).
قولُهُ: {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} فَقَوَّاهُمْ وَآوَاهُمْ بأنْ نَّقَلَهم إلى المدينةِ المنوَّرةِ، فصاروا آمنين مِنْ شُرورِ الكفّارِ، وَنَصَرَهُمْ على مُشْركي قريشٍ يَوْمَ بدرٍ، وقريشٌ هي الأقوى في العرَبِ والأشدُّ عداوةً للمسلمين، فلمّا انْتَصَروا عليهم، وكَسَروا شَوْكَتَهم، ونالوا مِنْ هَيْبَتِهم، أَصْبَحوا مَرْهوبيَّ الجانِبِ في شِبْهِ الجَزيرةِ العربيَّةِ كلِّها، فلم يَعُدْ أحدٌ مِنَ العَرَبِ يَجْرُؤ على التعرُّضِ لأحدٍ من المسلمين بالأذى. وهذا كلُّه ما خطر ببالِ المسلمين يومَ اختاروا عيرَ قريشٍ لأنها غنيمةٌ سهلة تعود عليهم ببعض ما سَلَبَهُ كفّارُ مكّةَ من أموالهم. حين هاجروا إلى المدينة، لكنَّ حكمة الله وتدبيرَهُ قضتْ لهم بذلك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي رضي الله عنه في قوله { فآواكم } قال : إلى الأنصار بالمدينة { وأيدكم بنصره } قال : يوم بدر .
قولُه: {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} وَرَزَقَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، بِأَنْ أَحَلَّ لهمُ الغَنائِمَ بَعْدَ أَنْ كانَتْ مُحَرَّمَةً على جميعِ الأُمَمِ السابقةِ لهذِهِ الأُمَّةِ. كما أنَّ ما نَعِمُوا بِهِ مِنْ أَمْنٍ أَفْسَحَ لهمْ في المجالِ للتنقُّلِ والتَجوُّلِ والتِجارَةِ والكَسْبِ الحَلالِ. وعلى تأويل من قال إنَّ المخاطب بالآية همُ العربُ جميعاً فقد فتحت لهم كنوزُ الأرضِ وأصبحوا ملوكها، كما تقدمت الروايةُ عن قتادة.
قولُهُ: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وَكُلُّ هَذِهِ النَّعَمِ التِي أَنْعَمَ بِهَا اللهُ عَلَيْهِمْ تَسْتَحِقُّ مِنْهُمْ أَنْ يَشْكُرُوهُ عَلَيْهَا، فَاللهُ تَعَالَى مُنْعِمٌ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أنْ يشكروهُ على ما أنَعَمَ عَليهم. فَكَيْفَ يَليقُ بِكُم بعد أنَّ نقلناكم مِنَ الشِدَّةِ إلى الرَخاءِ، ومِنَ البَلاءِ إلى النَعْماءِ والآلاءِ، أَنْ تَشْتَغِلوا بالمنازَعَةِ والمخاصَمَةِ بِسَبَبِ الأَنَفالِ، بَدَلَ أنْ تَشْتَغِلوا بالشُكْرِ والطاعة؟!
قولُهُ تَعالى: {إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مستضعفون} إذ: ظرفُ زمانٍ منصوبٌ وناصبُهُ محذوفٌ تقديرُهُ: واذكروا حالكم الثابتة في وقتِ قلَّتكم. وقال الزمخشريُّ هو مفعولٌ بِهِ. أَيْ: اذْكُروا وَقْتَ كَونِكم أَقِلَّةً أَذِلةً. وفيه نظر لأنَّ "إذ" لا يُتَصَرَّف فيها إلاَّ بما ذُكِرَ فيما تَقَدَّمَ بيانُهُ، وليسَ هذا مِنْهُ. وقالَ الحوفيُّ هو ظرفٌ ل "اذكروا" وهو قولٌ فاسِدٌ، لأنَّ العاملَ مُسْتَقْبَلٌ، والظَرْفُ ماضٍ، فَكيفَ يَتَلاقيان؟ و "أنتم" مبتدأٌ وخبره "قليلٌ" وأَخْبَرَ بِ "قَلِيلٌ" وهو مُفرَدٌ عَنْ ضميرِ الجَماعَةِ "أنتم" لأنَّ قليلاً وكثيراً قدْ يَجيئانِ غير مطابَقيْنِ لما جَرَيا عَلَيْهِ. و "مستضعفون" خبرٌ ثانٍ، ويجوزُ أن يكونَ صفةً ل "قليلٌ". وجملةُ: "أَنْتُمْ قَلِيلٌ" في محلِّ جرِّ بإضافةِ "إِذْ" إليها لِيَحْصَلَ تَعْريفُ المُضاف، وجيءَ بالجُمْلَةِ اسميَّةً من مبتدأٍ وخبره للدَلالَةِ على ثَباتِ وَصْفِ القِلَّةِ والاسِتِضْعافِ فيهم.
قوله: {تَخَافُونَ} الأظهرُ أَنَّهُ خبرٌ ثالثٌ. أو أَنَّهُ صِفَةٌ ثانيةٌ ل "قَليلٌ" وقد بُدِئَ بالوَصْفِ بالمُفْرَدِ ثمَّ بالجُمْلَةِ. أوْ يكونُ حالاً مِنَ الضَميرِ المُسْتَتِرِ في "مُسْتَضْعَفُون".