يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى} لا بأس مِنَ أَنْ نُذَكِّرَ بما في الخِطابِ الإلهيَّ لخاتَمِ رُسُلِهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم، ب "يا أيُّها النبيُّ" مِنَ إشارةٍ إلى عُلُوِّ مَقامِهِ عِنْدَهُ. وقد أشرنا إلى ذلكَ غيرَ مَرَّةٍ.
قولُه: {إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} فبعدَ العِتابِ للنبيِّ له ولصحبِهِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهم، لأنهم فَضَّلوا الفِدْيَةَ على الإثخانِ في قتلِ المشركين، وبعد التَرْخيصِ لهم بها وإباحتها. ومغفرةِ اللهِ لهم وعفوه عنهم، يَأَتي هذا الخطابُ اللطيفُ مِنْهُ تَعالى لِنَبيِّهِ مكلِّفاً لَهُ بِتَبْلِيغِ مَنْ عندَهم مِنَ الأَسْرى الذين أَسروهم في معركةِ بَدْرٍ الكُبرى، رسالةً مِنْهُ ـ جَلَّ وعَلا، مفادُها أنَّ اللهَ ـ تبارك وتعالى سيعوضُ عليهم بِأحسنَ مما أُخِذَ مِنْهم مِنْ مالِ الفِدْيَةِ إذا أَسْلَموا وحَسُنَ إسلامُهم وخالَطَتْ بَشاشةُ الإيمانِ قلوبهم، وقد أَسْنَدَ وُجُودَ الخيرِ في قلوبهم إلى علم الله تعالى، للإِشارة إلى أنَّ ادِّعاءَ الإِيمانِ باللِّسانِ فَقَطْ لا يَكْفُلُ لهم الحصولَ على الخيرِ الذي فَقَدوهُ، ولا يُوصِلُهم إلى مَغْفِرَتِهِ تعالى، فعلَيْهم أَنْ يُخْلِصوا للهِ في إيمانهم حتى يَنالوا فَضْلَهُ وثَوابَهُ، فهُوَ سُبْحانَه، عليمٌ بِذاتِ الصُدورِ.
وقد وَرَدَ في الآثارِ أَنَّ المَعْنيَّ بهذا الخطاب الكريمِ عَلى وَجْهِ الخُصوصِ هُوَ العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلبٍِِ، عَمِّ النبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلّمَ، وإنْ كان الخطابُ في عامّاً يَشْمَلُ جميعَ أَسْرى بدرٍ, فإنَّ العَبَّاسَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه، وقع أَسِيراً فِي أَيْدِي أُنَاسٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَتَوَعَّدُوهُ بِالقَتْلِ. فَحَزِنَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ، لِذَلِكَ. وقد بلغه قولُ أَبي حُذيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ: أَنَقْتُلُ آباءَنا وأَبناءَنا وإخْوانَنا وعَشائرَنا ونَتْرُكُ العبَّاسَ؟! واللهِ لئنْ لَقِيتُه لأَلْجُمَنَّهُ بالسَيْفِ. فقال لِعُمَرَ بْنِ الخَطابِ: ((يا أَبا حَفْصٍ" (قالَ عُمَرُ: والله إنَّهُ لأَوَّلُ يَوْمٍ كَنَّاني فيهِ رَسولُ اللهَ) أَيُضْرَبُ وَجْهُ عَمِّ رَسولِ اللهِ بالسيفِ؟)) فقالَ عُمَرُ: يا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لي فأَضْرِبُ عُنُقَهُ، فوالله لقد نافق. فَكانَ أَبو حُذَيْفَةَ يَقولُ بعدَ ذَلك: واللهِ ما آمَنُ مِنْ تِلْكَ الكَلِمَةِ التي قُلْتُ، ولا أَزالُ مِنها خائفاً، إلاَّ أَنْ يُكَفِّرَها اللهُ عَني بِشهادَةٍ. فَاستُشهِدَ يومَ اليمامَةِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. ثمَّ إنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قال: أَأَذْهَبُ إِلَيْهِمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَذَهَبَ عُمَرُ إِلَيْهِم، وَلَكِنَّهُمْ رَفَضُوا تَسْلِيمَهُ إِلَيهِ، فَقَالَ لَهُمْ أَوَلَوْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ رِضاً فِي ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ، رَضِيَ فَخُذْهُ. فَعَرَضَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ أَنْ يَفْدِي نَفْسَهُ، وَيَفْدِي ابْنَيْ أَخِيْهِ نَوْفَلاً وَعَقِيلاً، وَحَلِيفاً لَهُ. فَتَعَلَّلَ العبَّاسُ بِأَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ مَا يَكْفِي مِنَ المَالِ. فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ ـ صلى الله عليه وسلَّم: أَلَمْ تَتْرُكْ عِنْدَ زَوْجَتِكَ أُمَّ الفَضْلِ مَالاً دَفَنْتُمَاهُ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ نَعَمْ. وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ. فَدَفَعَ عِشْرِينَ أُوْقِيَّةً مِنَ الذَّهَبِ. وَقَالَ لِلرَّسُولِ كُنْتُ مسلماً. فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ: اللهَ أَعْلَمُ بِإِسْلاَمِكَ، فَإِنْ يَكُنْ كَمَا تَقُولُ، فَإِنَّ اللهَ يَجْزِيكَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ. وَيَقُولُ العَبَّاسُ: إِنَّ اللهَ آتَاهُ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْهُ مِئَةَ ضِعْفٍ، وَإِنَّهُ لَيَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ غَفَرَ لَهُ.
وفي صحيح البُخاري عن أنسٍ ـ رضيَ اللهُ عنه: أَنَّ رِجالاً مِنَ الأَنْصارِ قالوا: يا رَسُولَ اللهِ ائْذَنْ لنا فلْنَتْرُكْ لابْنِ أُخْتِنا عَبَّاس فداءَهُ. فقال ـ صلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((لا والله! لا تَذَرونَ مِنْها دِرْهما))
وأَخْرَجَ الحاكمُ وصَحَّحَهُ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ، عَنْ السيدةِ عائشةَ أُمِّ المؤمنين ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها وأَرضاها، قالتْ: (لمّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ في فِداءِ أَسْراهم. بَعَثَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وآلِه وسَلَّمَ، في فداء زوجِها (أبي العاص) قِلادَةً لها كانت أُمُّها خديجةُ ـ رضي اللهُ عنهما، قد أدخلتها بها على زوجها، فلمَّا رَآها رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمِ، رَقَّ رِقَّةً شَديدةً، وقال: إِنْ رَأَيْتُم أَنْ تُطْلِقوا لها أَسيرَها؟ قالوا نعم. وقالَ العَبَّاسُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: إني كُنْتُ مُسْلِماً يا رَسُولَ اللهِ. قال: اللهُ أَعْلَمُ بإسْلامِكَ، فإنْ تَكُنْ كَما تَقولُ فاللهُ يَجْزيكَ، فافْدِ نَفْسَكَ وابْنَيْ أَخْوَيْكَ نَوْفَلَ بْنِ الحارِثِ، وعَقيلَ بْنَ أَبي طالِبٍ، وحَليفَكَ عُتْبَةَ بْنَ عَمْرو أخي بني الحارث بن فِهْرٍ. قال: ما ذاك عِنْدِي يا رَسُولَ اللهِ. قال: فَأَيْنَ الذي دَفَنْتَ أَنْتَ وأُمُّ الفَضْلِ؟ فَقُلْتَ لها: إنْ أُصِبْتُ فإنَّ هذا المالَ لِبَنِيَّ. فقال: واللهِ يا رَسُولَ اللهِ إنَّ هذا لَشَيْءٌ ما عَلِمَهُ غَيري وغيرُها، فاحْسِبْ لي ما أَحْبَبْتُم مِني عِشْرينَ أُوقِيَّةً مِنْ مالٍ كان مَعي فقالَ: افْعَلُ. ففَدى نَفْسَهُ وابْنَيْ أَخَويْهِ وحَليفَهُ، ونَزَلَتْ: "قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم"، قال ـ رضيَ اللهُ عنه: فأَعْطاني مَكانَ العِشْرينَ أُوقِيَّةً في الإِسْلامِ عِشْرينَ عَبْداً كُلُّهم في يَدِهِ مَالٌ نُصِرْتُ بِهِ مَعَ ما أَرْجو مِنْ مَغْفِرَةِ اللهِ. ورُوي عنْه ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه، أَنَّهُ قالَ بعدَ حين: أَبْدَلَني اللهُ خَيراً مِنْ ذلكَ، ليَ الآنَ عِشرونَ عَبْداً، وإنَّ أَدْناهم لَيَضْرِبُ في عَشرينَ أَلْفاً، وأَعْطاني زَمْزَمَ وما أُحِبُّ أَنَّ لي بها جميعُ أَمْوالِ أَهْلِ مَكَّةَ، وأَنَا أَنْتَظِرُ المَغْفِرَةَ مِنْ رَبِّكم.
وأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْ أَبي مُوسى، أَنَّ العَلاءَ ابْنَ الحَضْرَمِيَّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بَعَثَ إلى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مالاً أَكْثَرَ مِنْهُ فَنُثِرَ عَلى حَصيرٍ، وجاءَ الناسُ فَجَعَلَ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، يُعْطيهم، وما كان يَوْمَئِذٍ عَدَدٌ ولا وَزْنٌ، فجاءَ العَبّاسُ فقال: يا رَسولَ اللهِ، إني أَعْطَيْتُ فِدائي وفِداءَ عَقيلٍ يَومَ بَدْرٍ، أَعْطِني مِنْ هذا المالِ، فقالَ: خُذْ، فحَثى في قَميصِهِ ثمَّ ذَهَبَ يَنْصَرِفُ فَلَمْ يَسْتَطِعِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ وقال: يا رَسُولَ اللهِ، ارْفَعْ عَلَيَّ. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وهوَ يَقولُ: أَمَّا أَخْذُ ما وَعَدَ اللهُ، فَقَدْ نَجزَ ولا أَدْري الأُخرى "قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم" هذا خَيرٌ ممّا أُخِذَ مِنّي ولا أَدْري ما يَصْنَعُ في المَغْفِرَةِ. وَمَعْنَى الآيَةِ: إِنْ يَكُنْ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرٌ يَعْلَمْهُ اللهُ، ويُعَوِّضْكُمْ خَيراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ، وَيَغْفِرْ لكم مَا كَانَ مِنْكُمْ مِنَ الكُفْرٍ والشِّرْكِ والفسقِ، وَيعفو عن كلِّ ما ارتكبتموه من السَيِّئَاتِ والذنوبِ.
وقولهُ: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} فيهِ زِيادَةٌ في حَضِّهم على الدُخولِ في الإِيمان، لأنَّ الشيطانَ إذا رأى من ابنِ آدمَ توجُّهٌ للتوبة والإنابة لربِّه ـ سبحانَه وتعالى، هجمَ عليه بوساوس كثيرةٍ ليحولَ بينه وبين ما يريد، ومن ذلك، أنَّه يذكِّره بما اقترفت يداه من آثامٍ وإجرامٍ ليقنِّطه من رحمة الله. لذلك وَعَدَهُم مَولاهم بالمغفرةِ إنْ هُمْ آمَنوا، حتى يَدْفَعُوا وَساوِسَ الشَيْطانِ عنهم، فلا يوصلِهم إلى القنوطِ من رحمته تعالى، فيَمنعُهم ذلك مِنْ الإيمان.
وقولُهُ: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تَذْييلٌ قُصِدَ بِهِ تَأْكيدُ ما قبلَهُ مِنَ الوَعْدِ بالخَيرِ والمَغْفِرَةِ لمن آمنَ منهم وتاب الله وحسُنت توبتُه. أَيْ: فاللهُ كريمٌ غَفورٌ رحيمٌ واسعُ المَغْفِرَةِ والرَحمةِ لمنِ اسْتَجابَ للحقِّ، فآمَنَ واتَّقى، وقدَّمَ العَمَلَ الصالح. وفيه مراعاةٌ للفواصلِ، إذْ خُتِمَتِ الآيةُ التي قبلَها بِ "رَحيم" والتي بعدها بِ "حَكيم" وهذِهِ إحدى مِيزاتِ هذا الكتابِ الكريم.
قولُهُ تَعالى: {يا أيُّها النبيُّ قل لمن في أيديكم من الأسرى} يا أيًّها النبي: تقدَّم إعرابُها في الآيةِ /65/ من هذه السورة، و "في أيديكم" هذا الجارُّ مُتَعَلِّقٌ بالصِلَةِ المُقَدَّرَةِ للاسمِ الموصولِ "مَنْ"،
وقولُهُ: {منَ الأسْرى} جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بحالٍ مِنَ المَوْصُولِ.
وقولُهُ: {يُؤْتِكُمْ خيراً مما} جَوابُ الشَرْطِ. والكافُ ضميرٌ متصلٌ في محلِّ نصبِ مفعولٍ به أوَّل و "خيرًا" مفعولٌ به ثانٍ. و "ممَّا" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ ب "خيرًا". وجملةُ الشَرْطِ مَقولُ القَوْلِ في محلِّ نَصْبٍ.
وقولُهُ: "خيراً ممّا" اسْمُ تَفْضيلٍ، وأَصْلُهُ: أًخْيَرَ، فاسْتُغْنِيَ عنْهُ بِ "خير"، وكذلك "شر"؛ مثلُهُ، فأصلُهُ: "أَشَرّ"، قالَ في الكافيَّةِ:
وغالباً أغناهم خيرٌ وشَرّ ................... عن قولهم: أَخيرُ مِنْهُ وأَشَرّ
قرأ العامة: {أسرى} بزِنةِ "فعلى" وقرأَ أَبو عَمْرٍو "أُسارى" بِزِنَةِ "فُعالى"، وقد عُلِمَ ما فيهما، ووافَقَ أَبا عَمروٍ قَتادَةُ، ونَصْر بْنُ عاصِمٍ، وابْنُ أَبي إسْحاقَ، وأَبو جَعْفَر. واختُلِف عَنِ الجَحْدريِّ والحَسَنِ بنِ أبي الحسن. وقرأَ ابْنُ مُحَيْصِن "مِنْ أَسْرى" بالتنكير.
وقرأ العامَّةُ: {يؤتكم} وقرأ الأَعْمَشُ: "يُثِبْكم" مِنَ الثَوابِ.
وقرأ العامّةُ: {مما أُخِذَ منكم} بالبناء للمفعول، وقَرأَ الحَسَنُ وأَبو حَيَوَةَ، وشَيبةُ بنُ نصاح، وحميدٌ: "ممَّا أَخَذَ" مَبْنِيّاً للفاعل، وهو الله تعالى.