أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
قولُه ـ تعالى شأنه: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} وَالمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصَّفَاتِ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقَّ الإِيمَانِ، أَخرجَ الطبرانيُّ وأَبو نُعيمٍ عن الحارثِ بْنِ مالكٍ الأنْصاريِّ. أنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ لَهُ: ((كيفَ أَصْبَحْتَ يا حارث؟)) قال: أَصْبَحْتُ مُؤمْناً حقّاً. قال: ((انْظُرْ ما تَقولُ فإنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقيقةٌ، فَما حَقيقَةُ إيمانِك))؟ فقال: عَزَفَتْ نَفْسي عَنِ الدُنْيا فأسْهَرْتُ لَيْلي، وأظْمَأْتُ نهاري، وكأَنّي أَنْظُرُ إلى أَهْلِ الجَنَّةِ يَتَزاوَرونَ فيها، وكأَنّي أَنْظُرُ إلى أَهْلِ النَّارِ يَتَضاغونَ فيها. يَعْنِي: يَصِيحُونَ، قال ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم: ((يا حارثُ عَرَفْتَ فالزَمْ ثلاثا)). إتحاف الخيرة المهرة: (7 /454)
وأخرج ابْنُ أَبي شَيْبًةَ في مُصَنَّفِهِ: (11/42) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلى اللهُ عليه وسَلَّمَ، لَقِيَ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ، فَقَالَ: ((كَيْفَ أَصْبَحْت يَا عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ))، قَالَ: أَصْبَحْت مُؤْمِنًا حَقًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً، فَمَا ذَلِكَ؟))، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: أَلَمْ أَظْلِفْ نَفْسِيَ، عَنِ الدُّنْيَا، أَسْهَرْتُ لَيْلِي وَأَظْمَأْتُ هَوَاجِرِي, وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغُونَ فِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((عَرَفْت أَوْ آمَنْت فَالْزَمْ)).
وعَن أَنَسٍ بنِ مالكٍ: أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم، قالَ لحارثةَ بْنِ النُعْمانِ: ((كيفَ أَصْبَحْتَ؟)) قال: أَصْبَحْتُ مُؤمِناً حَقّاً، قال: ((إنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقيقَةٌ فما حقيقةُ إيمانِكَ؟)) فقال: يا نبيَّ اللهِ عَزَفَتْ نَفْسي عَنِ الدُنْيا فَأَسْهَرْتُ لَيْلي وأَظمأْتُ نهاري وكأني أَنْظُرُ إلى أَهْلِ الجَنَّةِ كيفَ يَتَزاوَرونَ فيها وإلى أَهْلِ النارِ كَيْفَ يَتَعاوونَ فيها. فقال: ((أَبْصَرْتَ فالزَمْ))، ثمَّ قال: ((عَبْدٌ نَوَّرَ اللهُ الإيمانَ في قلبِهِ))، فقال: يا نَبيَّ اللهِ ادْعُ اللهَ لي بالشهادةِ، فدَعا لَهُ، قال: فَنُودِيَ يَوْماً يا خَيْلَ اللهِ ارْكَبي، فكانَ أَوَّلَ فارِسٍ رَكِبَ وَأَوَّلَ فارِسٍ اسْتُشْهِدَ أخرجَهُ العَسكَرِيُّ في الأمثال، وكنزُ العُمَّالِ، برقم: 36990. وجامع الأحاديث: (33/21).
وعَنْ أَنَس بْنِ مالكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهَ ـ صلى الله عليه وسلم، خَرَجَ يوماً فاسْتَقْبَلَهُ شابٌّ مِنَ الأَنْصارِ يُقالُ لَهُ: حارثةَ بنَ النُعمانِ فقال له: ((كيفَ أَصْبَحْتَ يا حارثةَ؟)) قال: أَصْبَحْتُ مُؤمناً حقّاً. قال: فقالَ رسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((انْظُرْ ما تَقولُ فإنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حقيقةً، فما حقيقةُ إيمانك؟)) قال: فقال: عَزَفَتْ نَفْسي عَنِ الدُُنيا، فأَسْهَرْتُ لَيْلي وأَظْمَأْتُ نهاري وكأني أَنْظُرُ إلى عَرْشِ رَبي بارِزاً، وكأني أَنْظُرُ إلى أَهْلِ الجَنَّةِ كيفَ يَتَزاوَرونَ فيها، وكأني أنْظُرُ إلى أَهْلِ النَّارِ كيفَ يَتَعادُونَ فيها. قال: فقال لَهُ النَبيُّ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((أَبْصَرْتَ فالزَمْ)) مَرَّتَينِ ((عبدٌ نَوَّرَ اللهُ الإيمانَ في قلبِهِ)) قال: فَنُودِيَ يوماً في الخيلِ يا خيلَ اللهِ ارْكَبي فَكانَ أَوَّلَ فارسٍ رَكِبَ، وأوَّلَ فارِسٍ اسْتُشْهِدَ، فجاءَتْ أُمُّهُ إلى النَبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ، فقالت: يا رَسولَ اللهِ أَخْبرْني عَنِ ابْني حارِثَةَ أَيْنَ هُوَ إِنْ يَكُنْ في الجَنَّةِ لمْ أَبْكِ ولم أَحْزَنْ، وإنْ يَكُنْ في النارِ بَكِيتُ ما عِشْتُ في الدُنيا. قال: فقال: لها رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((يا أُمَّ حارِثَةَ إنها ليست بجنَّةٍ ولكنَّها جِنانٌ, و حارثةُ في الفِرْدَوْسِ الأَعْلى)). قال: فانْصَرَفَتْ وهي تَضْحَكُ وتقولُ: بَخٍ بَخٍ لكَ يا حارِثَه). أخرجه البيهقيُّ في شُعَبِ الإيمانِ: (7/362).
وحديثُ حارثةَ المَشْهورُ هذا قدْ رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ مُرْسَلَةٍ، ورُوِيَ مُتَّصِلاً، والمُرْسَلُ أَصَحُّ وأَنَّ النَبيَّ ـ صَلى اللهُ عَليهَ وسلَّمَ، قالَ لَهُ: ((يا حارثةَ كيفَ أَصْبَحْتَ؟)) قال: أَصْبَحْتُ مُؤْمِناً حقّاً. قال: ((انْظُرْ ما تَقولُ فإنَّ لِكُلَّ قَوْلٍ حَقيقةً)) قال: يا رَسولَ اللهِ عَزَفَتْ نَفْسي عَنِ الدُنيا، فأَسْهَرْتُ لَيْلي وأَظْمأْتُ نهاري، وكأني أَنْظُرُ إلى عَرْشِ رَبي بارزاً، وكأني أَنْظُرُ أَهْلَ الجَنَّةِ في الجَنَّةِ كَيفَ يَتَزاوَرونَ فيها، وكأَني أَنْظُرُ إلى أَهْلِ النارِ كَيْفَ يَتَعاوَوْنَ فيها قالَ: ((أَبْصَرْتَ فالْزَمْ، عَبْدٌ نَوَّرَ اللهُ الإيمانَ في قَلْبِهِ)). جامع العلوم والحكم: (1/36).
ولا يمنعُ أَنْ يَكونَ السؤالُ قد تتكرَّرَ مِنْهُ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ، لعدد من أَصْحابِهِ ـ رضوانُ اللهِ تعالى عنهم، ولا يمنع أن تكون الإجابةُ قد تكرَّت أيضاً وتشابهتْ لتشابه أحوالهم ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنهم أَجمعين.
رُوِي عَنِ الثَوْرِيِّ أَنَّه قال: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُؤمِنٌ بالله تَعالى حَقّاً ثمَّ لم يَشْهَدْ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فقد آمَنَ بِنِصْفِ الآيَةِ ولم يُؤمِنْ بالنِصْفِ الآخَرِ، وهذا ظاهرٌ في أَنَّ مَذْهَبَهُ الاسْتِثْناءُ، وهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعودٍ، وتَبِعَهُ جمعٌ عظيمٌ مِنَ الصَحابةِ والتابعين، وبِهِ قالَ الشافعيُّ ونُسِبَ إلى مالكٍ وأَحمدَ، ومَنَعَهُ الإمامُ الأَعْظَمُ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُ؛ ورُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قالَ لِقَتادَة: لِمَ تَسْتَثْني في إيمانِكَ؟ قال: اتِّباعاً لإبْراهيمَ ـ عليه السلامُ، في قولِهِ تعالى: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} سورة الشعراء، الآية: 82. فقالَ لَهُ: هَلاَّ اقْتَدَيْتَ بِهِ في قولِهِ "بَلى" حينَ قِيلَ لَهُ: {أَوَ لم تُؤْمِن؟} سورة البقرة، الآية: 260؟ فانْقَطَعَ قَتادَةُ؛ قالَ الرازي: كانَ لِقَتادةَ أَنْ يُجيبَ أَبا حَنيفَةَ عَلَيْهِما الرَّحمةُ ويَقول: قولُ إبراهيمَ ـ عليْه السلام: {ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} بعدَ قولِهِ بَلى، طَلَبَاً لِمَزيدِ الطمَأْنينةِ وذلك يَدُلُّ على جَوازِ الاسْتِثْناءِ.
وفي "الكَشْفِ" للثعلبي النيسابوري أَنَّ الحَقَّ أَنَّ مَنْ جَوَّزَ الاسْتِثْناءَ إنَّما جَوَّزَ إذا سُئِلَ عَنِ الإيمانِ مُطْلَقاً أَمَّا إذا قيلَ: هَلْ أَنْتَ مُؤمِنٌ بالقَدَرِ مَثَلاً فقالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى لا يَجوزُ لا لأَنَّ التَبَرُّكَ لا مَعْنى لَهُ بَلْ للإبهامِ فيما لَيْسَ لَهُ فائدةٌ، وأَمَّا في الأَوَّلِ فلمَّا كان الإطلاقُ يَدُلُّ على الكَمالِ وهُوَ الإيمانُ المُنْتَفَعُ بِهِ في الآخرةِ عَلَّقَ بالمَشيئَة تَفاؤلاً وتَيَمُّناً، وذلك لأنَّ الكَلِمَةَ خَرَجَتْ عَنْ مَوْضوعِها الأَصْلِيِّ إلى المعنى الذي ذُكِرَ في عُرْفِ الاسْتِعْمالِ تَراهُم يَسْتَعْمِلونَها في كلِّ ما لهم اهْتِمامٌ بِحُصولِهِ شائعاً بَينَ العَرَبِ والعَجَمِ فَلا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قالَ: إنَّ مَعنى التَبَرُّكِ أَنَا أَشُكُّ في إيماني تَبَرُّكاً وذلك لأنَّ المَشيئةَ عِنْدَهُ غيرُ مَشْكوكَةٍ عندَهُ بَلْ هُوَ تَعليقٌ بما لا بُدَّ مِنْهُ نَظَراً إلى أَنَّهُ السَبَبُ الأَصْلِيُّ وأَنَّهُ تَفْويضٌ مِنَ العَبْدِ إلى اللهِ تَعالى ومَنْ فَوَّضَ كُفِيَ لا نَظَراً إلى أنَّ المشيئةَ غَيْبٌ غيرُ معلومٍ فَيَكونُ شَكّاً في الإيمانِ، وقد جاءَ: {مَنْ شَكَّ في إيمانِهِ فقد كَفَرَ)) وما أَحْسَنَ ما نُقِلَ عَنِ الحَسَنْ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ أَمُؤمِنٌ أَنْتَ؟ فقال: الإيمانُ إيمانانِ، فإنْ كُنتَ تَسْأَلُني عَنِ الإيمانِ باللهِ تَعالى ومَلائكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليوْمِ الآخِرِ والجَنَّةِ والنَّارِ والبَعْثِ والحِسابِ فأَنَا مُؤْمِنٌ، وإنْ كُنْتَ تَسْأَلُني عَنْ قولِهِ تَعالى: {إِنَّمَا المؤمنون} سورة الأَنْفال، الآية: 2 فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا؟. وهذا ونحوُهُ ما يَجْعَلُ الخِلافَ لَفْظِيّاً، وقدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ جمعٌ مِنَ المحققين عليهم من الله الرحمة.
قولُه: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} لَهُمْ دَرَجَاتٌ مِنَ الكَرَامَةِ وَالزُّلْفَى عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَلَهُمْ مَنَازِلُ وَمَقَامَاتٌ فِي الجَنَّاتِ، وحَكَى الطَبَرَيُّ عَنْ مجاهد أَنها دَرَجاتُ أَعْمالِ الدُنْيا، وقَوْلُ الجُمهورِ، بأَنَّ المُرادَ مَراتِبُ الجَنَّةِ ومَنازِلُها، ودَرَجاتها على قدر أعمالهم. وقد يُرادُ بالدَرِجاتِ العُلُوُّ المَعْنَوِيُّ، وقدْ يُرادُ بها العُلُوُّ الحِسِّيُّ.
فقد أَخْرَجَ عَبْدٌ ابْنُ حميدٍ، وابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ الضَحَّاكِ في قولِهِ: "لهم درجات" قال: أَهْلُ الجَنَّةِ بَعضُهم فوقَ بَعْضٍ، فيرى الذي هُوَ فَوْقَ فَضْلَهُ على الذي هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ، ولا يَرَى الذي هُوَ أَسْفَلَ أَنَّهُ فَضُلَ عَليهِ أَحَدٌ.
وأَخرجَ التِرْمِذِيُّ، عَنْ أَبي سَعيدٍ الخِدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُُ تعالى عَنْه؛ عَنِ النَبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم، قال: ((إنَّ في الجّنَّة مِئَةَ دَرَجَةٍ، لَوْ أَنَّ العَالَمِينَ اجتَمَعُوا في إحدَاهُنَّ لَوَسعَتْهُمُ)). وروى ابْنُ وَهْبٍ بسندِهِ عنِ الضَبيِّ، عَمَّنْ حَدَّثهُ عَنِ النَبيِّ ـ صَلى الله عليه وسلم، قال: ((إنَّ في الجنَّةِ مئةَ دَرَجَة، بَينَ كُلِّ دَرَجَتَينِ ما بَينَ السَماءِ والأَرْضِ، أَوَّلُ دَرَجَةٍ مِنْها دُورُها وبُيوتُها وأَبوابُها وسُرُرُها ومَغاليقُها، مِنْ فِضَّةٍ، والدَرَجَةُ الثانيةُ: دُورُها وبُيوتُها وسُرُرُها ومَغاليقُها مِنْ ذَهَبٍ، والدرجةُ الثالثةُ: دُورُها وبُيُوتُها وأَبْوابُها وسُرُرُها ومَغاليقُها مِنْ ياقُوتٍ ولُؤْلُؤٍ وزَبَرْجَدٍ. وسَبْعٌ وتِسْعونَ دَرَجةً، لا يَعْلَمُ ما هِيَ إلاَّ اللهُ تَعالى)).
وعَنِ الرَّبيعِ بْنِ أَنَسٍ وابنِ محيرزٍ أنَّها سَبْعونَ دَرَجَةً ما بينَ كُلِّ دَرَجَتين حَضْرُ الفَرَسِ المُضَمَّرِ سَبعين سنةً.
قولُه: {وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وَيَغْفِرُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ، وَيَشْكُرُ لَهُمْ حَسَنَاتِهِمْ، وَيَرْزُقُهُمْ رِزْقاً طَيِّباً وَافِراً كَرِيماً في الدنيا، وآخرَ أَعَدَّهُ لهم في الجنَّةِ، لا يَنْقَطِعُ مَدَدُه، ولا يَنْتَهي أَمَدُهُ، بمَحْضِ الفضلِ والكَرَمِ. أمَّا رزق الدنيا فقد تكفَّل به سبحانَهُ في أكثر من موضع من كتابه الكريم، ومن ذلك قولُه في سورة النحل: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الآية: 97. ومنه قولُه في سورةِ الطلاق: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} الآيتان: 2 ، 3. ومن الآيات التي تعهد المولى الكريم برزق المؤمنين في الآخرة قولُ في سورة الحج: {.. ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا} الآية: 58. وقولُ في سورة الطلاق: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقًا} الآية: 11.
وقالَ بَعضُ المحقِّقين: معنى كَونِ الرِزْق كَريماً أَنَّ رازِقَهُ كَريمٌ، ومِنْ هُنا وَصَفُوهُ بالكَثْرَةِ وعَدَمِ الانْقِطاعِ إذْ مِنْ عادَةِ الكَريمِ أَنْ يَجْزِلَ العَطاءَ ولا يَقْطَعْهُ فكيف بأكرَمِ الأَكْرَمين، تبارك وتعالى، وجعله نفسَهُ كريماً على الإسنادِ المجازِيِّ للمُبالَغَةِ، والكَرَمُ اسْمٌ جامِعٌ لِكُلِّ ما يُحْمَدُ ويُسْتَحْسَنُ في بابِهِ، فَلَعَلَّ وَصْفَ الرِزْقِ بِهِ هُنا حَقيقةٌ.
ولم يَذْكروا لَتَوسِيطِ المَغفرة، والظاهر كما قيلَ تقديمُها هُنا نُكْتَةٌ، ورُبَّما يُقالُ في وَجْهِ ذِكْرِ هذِهِ الأَشياءِ الثلاثةِ على هَذا الوَجْهِ أَنَّ الدَرَجاتِ في مُقابَلَةِ الأَوْصافِ الثَلاثَةِ: الوَجَلُ، والإخلاصُ، والتَوَكُّلُ، ويُسْتَأْنَسُ لَهُ بالجَمْعِ والمَغْفِرَةِ في مُقابَلَةِ إقامَةِ الصَلاةِ، ويُستأنَسُ لَهُ بما وَرَدَ في غيرِ ما خَبرٍ أَنَّ الصَلَواتِ مُكَفِّراتٌ لما بَيْنَها مِنَ الخَطايا وأَنَّها تُنَقِّي الشخصَ مِنَ الذُنوبِ كَما يُنَقّي الماءُ مِنَ الدَنَسِ، والرِزْقُ الكَريمُ بمُقابَلَةِ الإنفاقِ، والمُناسَبَةُ في ذَلِكَ ظاهرةٌ، وإلى هذا يُشيرُ كَلامُ أَبي حَيَّانَ أَوْ يُقالَ: قدَّمَ سُبْحانَهُ الدَرَجاتِ لأنَّها بمَحْضِ الفَضْلِ، وذَكَرَ بعدَها المَغْفِرَةَ لأنَّها أَهَمُّ عِنَدَهُم مِنَ الرِزْقِ مَعَ اشْتِراكِهِما في كونِهما في مُقابَلَةِ شيءٍ، ويُؤيِّدُ هذا ما أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي حاتمٍ. وأَبو الشَيْخِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قالَ في الآية: المَغْفِرَةُ بِتَرْكِ الذُنُوبِ والرِزْقُ الكَريمُ بالأَعْمالِ الصالحةِ، والله تعالى أعلمُ بأسرارِ كلامِهِ.
قولُهُ تَعالى: {حَقّاً} يجوزُ أَنْ يَكونَ قد نُصِبَ صِفَةً لمصدرٍ محذوفٍ، أَيْ: هُمُ المُؤمِنونَ إيماناً حقّاً. ويجوزُ أنْ يَكونَ مؤكِّداً لمضمون الجملةِ كقولك: هو عبد الله حقاً، والعاملُ فيه على كلا القولين مقدَّرٌ أي: أحقُّه حقاً. ويجوز وهو ضعيف جداً أن يكونَ مؤكِّداً لمضمون الجملة الواقعة بعده وهي "لهم درجات" ويكون الكلامُ قد تمَّ عند قوله: "هم المؤمنون" ثم ابتدئ بِ "حقّاً لهم درجاتٌ". وهذا إنما يجوز على رأيٍ ضعيف، أعني تقديمَ المصدرِ المؤكِّد لمضمون جملة عليها. وجُوِّزَ أَنْ تَكونَ هذه الجُملة خبراً ثانياً لأُولئكَ، وأَنْ تَكونَ مُبْتَدَأَةً مَبْنِيَّةً على سؤالٍ نَشَأَ مِنْ تَعدُّدِ مَناقِبِهم كأَنَّهُ قِيلَ: ما لهم في مُقابِلِ هذِهِ الخِصالِ؟ فقيلَ: "لهمْ دَرَجاتٌ". والتنوين للتفخيم.
قوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} يجوزُ أَنْ يكونَ مُتَعلِّقاً بِ "درجات" لأنها بمعنى "أُجُورٌ"، وأَنْ يَتَعلَّقَ بمحذوفٍ لأنها صفةٌ ل "درجات" أيْ: استقرَّتْ عندَ ربهم، وأنْ يَتَعَلَّقَ بما تَعَلَّقَ بِهِ الخَبَرُ، "لهم" أيْ: لهم مِنَ الاسْتِقرار. وفي إضافَتِهِ إلى الرَبِّ المُضافِ إلى ضميرِهم مَزيدُ تَشْريفٍ لهم ولُطْفٌ بهم وإيذانٌ بأنَّ ما وَعَدَهم مُتَيَقِنُ الثبوتِ مأمونُ الفَوات.