قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ
(38)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} أَمْرٌ مِنَ الله تعالى لِرَسُولِهِ محمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، بأنْ يبلغَ الكافرين أَنَّ الله سبحانَه، يَتَجاوَزُ عَمَّا سَلَفَ مِنْ كُفْرِهم به ومعصيتِِهم له، إِنْ هُمْ أَقْلعَوا عَنِ الكفر. ونلاحظُ أنَّه استَعْمَلَ صَيغَةَ الغائبِ في حينِ أنَّ سياقَ الكلامِ كان يقتضي صيغَةَ الخِطاب، فيُقال: (قل للذين كفروا إنْ تَنْتَهوا يُغفرْ لكم ما قدْ سَلَفَ)، وهذا لِيَشمَلَ كُلَّ مَنْ يُمْكِنُ أَنْ يُوجَّه إليْهِ مِثْلُ هَذا الكلامُ مِنْ أَيْ مُؤمِنٍ، في أي زمانٍ ومكانٍ لِيَقْطَعَ المعاذيرَ. ومثلُهُ قولُهُ تَعالى، في سورةِ الأَحْقاف: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} الآية: 11. وكان السياقُ يَقتَضِي أيضاً أَنْ يُقال: (لو كانَ خيراً ما سَبْقْتُمونا إليه)، فإنَّ هذِهِ العبارَةَ قالها أَكْثَرُ مِنْ كافرٍ لأكثر من مؤمنٍ في أزمنة مختلفةٍ وأَمكِنَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ. فأَرادَ اللهُ سبحانَهُ، أَنْ يَلْفِتَنا إلى ذلك، فعَمَّمَ حَتّى يَشْمَلَ جميعَ الحالاتِ. وغنيٌّ عن البيان أَنَّ ما يغفره اللهُ تعالى هي الذُنوبُ التي تتعلَّقُ بحقوقِهِ تعالى، أمَّا ما يَتَعلَّقُ بحقوقِ الناسِ، فعليه أو على وَرَثَتِهِ أَداؤه. جاء ذلك بعد أنَّ بيَّنَ الله صلاتَهم في عِباداتِهم البدنِيَّةِ، بأنها تصديةٌ وصفيرٌ، وإنفاقَهم لصَدِّ الناسِ عَنْ دِين الله فأرْشِدَهم إلى طريقِ الخلاصِ. والمعنى: أنَّ هؤلاءِ الكُفَّارَ إنْ انْتَهَوا عَنِ الكُفْرِ وعداوةِ الرَسولِ، ودَخَلوا الإسلام والتَزَموا شرائعِهُ غَفَرَ اللهُ لهم بعد كلِّ تلك المعاصي والعداوةِ التي أبدوها.
قولُهُ: {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} وعيدٌ منه سبحانَهُ لأولئك المشركين بأنهم إذا لم ينتهوا عن كفرهم بالله ومعصيتهم له، ولم يَكُفّوا عن الكيدِ لِرَسولِهِ، بعد كلِّ ما حلَّّ بهم من غضب وما أذاقهم اللهُُ من ذل وخزي في بدرٍ، وعادوا لحربهم لرسول اللهِ ولدينه، فإنَّ سُنَّةَ الله في خلقه بأنْ يدمِّرهم إذا كذّبوا رسُله سوف تمضي فيهم وتحقُّ عليهم. وقد بيَّن اللهُ سُنَّتَه في خلقه في غير موضع من كتابه العزيز، ومن ذلك قولُهُ في سورة المُجادلة: {كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي} الآية: 21. ومن ذلك قولُه في سورة الأنبياء: {ولقد كتَبْنا في الزَبورِ مِنْ بَعْدِ الذِكْرِ أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} الآية: 105. وهذا وعيدٌ لهم بالهزيمةِ ووعدٌ للمؤمنين بالنصر.
والسُنَّةُ هيَ الطَريقةُ أَوِ الكَيْفِيَّةُ أَوِ الحالةُ التي يَكونون عَلَيْها ولذلكَ يقولُ الحقُّ سًبحانَهُ وتَعالى: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً} سورة الأحزاب، الآية: 62. أَيْ: الطريقة التي اختارها اللهُ لمُعالجةِ الأُمورِ بالحَقِّ والعدلِ، ومعنى قولِهِ تَعالى: "مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ" أَيْ الطَريقةُ التي عَرَفْتُمُوها وعالجَ بها اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ أَمْرَ مَنْ عانَدَ الرُسُلَ ووقَفَ مِنْهم مَوْقِفَ المُنازَعَةِ والمُعارضَةِ. وقَدْ عايَنْتُم ذلكَ في بَدْرٍ، فإنّ َمَنْ يَقِفُ أَمامَ دَعْوَةِ اللهِ ومِنْهَجِهِ لا بُدَّ أَنْ يَتَعَرَّضَ للهَلاكِ كَما حَدَثَ مَعَ كُلِّ مَنْ قاوَمَ الأَنْبياءَ، وأَنْتم تَعرِفونَ ما صَنَعَهُ اللهُ بِقَوْمِ هُودٍ وقومِ عادٍ وقومِ ثمود وقومِ فرعون. وسمِعتم بذلك كُلِّه منْ قبلُ لكنَّكم ما اتعظتم ولا اعتبرتم بغيركم.
وقد احتجَّ أَصْحابُ أَبي حَنيفَةَ النعمان بهذه الآيةِ على أَنَّ الكُفّارَ لَيْسوا مخاطَبين بِفُروعِ الشَرائع، قالوا لأنَّهم لو كانوا مخاطبين بها، لَكانَ إمَّا أَنْ يَكونوا مخاطَبين بها مَعَ الكُفْرِ أوْ بَعدَ زَواله. والأوَّلُ باطلٌ بالإجماع، والثاني باطلٌ لأنَّ هذِهِ الآيةَ تَدُلُّ على أَنَّ الكافِرَ لا يُؤاخَذُ بِشَيْءٍ ممّا مَرَّ عَليْه في زَمانِ الكُفْرِ بعدَ إسلامِهِ وإيجابُ قَضاءِ تِلْكَ العِباداتِ يُنافي ظاهرَ هَذِهِ الآيَةِ. يُؤكِّدُ ذلكَ قولُه عليهِ الصلاةُ والسلام: ((الإسلامُ يَجُبُّ ما قَبْلَهَ)). وأَخْرَجَ أَحمدُ ومُسْلِمٌ عنْ عَمْرٍو بْنِ العاصِ، رَضيَ اللهُ عنهُ، قال: لما جَعَلَ اللهُ الإِسلامَ في قَلبي، أَتَيْتُ النَبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ فقُلتُ: ابْسُطْ يَدَكَ فَلأُبايِعْكَ. فَبَسَطَ يَمينَهُ فَقَبَضْتُ يَدِي. قال: ((مالك . . . ؟!)) قلتُ: أَرَدْتُ أَنْ أشْتَرِطَ. قال: قال: ((تَشْتَرِطُ)) قلت: أنْ يُغْفَرَ لي. قال: ((أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلامَ يَهْدِمُ ما كانَ قَبْلَهُ، وأَنَّ الهِجْرَةَ تَهْدِمُ ما كانَ قبلَها، وأَنَّ الحَجَّ يَهْدِمُ ما كانَ قَبْلَه)).
قولُهُ تعالى: {لِلَّذِينَ كفروا} اللامُ للتَبْليغُ، أَمَرَ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ مَضمونَ هذِهِ الجُملةِ المَحْكيَّةِ بالقولِ، ويجوزُ أنْ تكونَ للتَعليلِ.
قولُهُ: {إن ينتهوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} جملة "ينتهوا" مَقولُ القولِ في محلِّ نَصْبٍ، و "ما" اسْمٌ مَوْصولٌ نائبُ فاعلٍ.
قرأ العامَّةُ: {يَنْتَهوا} بضمير الغائبِ، وقرأ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ "ينتهوا" بصيغة الخطاب.
وقرأ العامةُ: {يُغفر} بالبناء للمفعولِ وقُرئ "يَغْفِر" مبنياً للفاعلِ، وهُوَ ضَميرُ يَعودُ على الله تعالى.