إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ
(22)
قولُهُ تعالى شأنُهُ: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} إنَّ هَؤُلاَءِ الذِينَ يَقُولُونَ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَِسْمَعُونَ، هُمْ شَرُّ المَخْلُوقَاتِ التِي تَدِبُّ عَلَى سَطْحِ الأَرْضِ، وَأَشَدُّها سوءً لأَنَّهُمْ صُمٌّ لاَ يَسْمَعُونَ، وَبُكْمٌ لا يفهمون الحَقِّ ولاَ يَعْقِلُونَهُ، وَكُلُّ الدَّوَابِّ مُطِيعَةٌ لِخَالِقِهَا بالفطرةِ، بينما هَؤُلاَءِ الذينَ خَلَقَهُمُ اللهُ لِعِبَادَتِهِ وطاعتِهِ كَفَرُوا بخالقهم وعصوا أَمْرَهُ، فَهُمْ شَرٌّ مِنَ الدَّوَابّ لإبطالهم ما مُيزوا بِهِ وفُضِّلوا لأَجْلِهِ، وهُوَ اسْتِعْمالُ العَقْلِ فيما يَنْفَعُهم مِنَ التَفَكُّرِ والاعْتِبارِ.
و "الدوابُّ" جمعُ دابَّةٍ، وتَعني كلَّ ما دَبَّ على الأرضِ، ولَكِنَّها خُصَّتْ عُرْفاً بِذَواتِ الأَرْبَعِ. و "الدواب" هي القِسْمُ الثالثُ مِنَ الموجوداتِ الأربعةِ وهي: الجَمادُ، والنَباتُ، والحَيَوانُ، والإنسانُ. ويجمعُ هذِهِ الموجوداتِ الأربعةِ رِباطٌ واحدٌ، فَإنَّ أَعلى مَرْتَبَةٍ في الأَدْنى، هِيَ أَوَّلُ مَرْتَبَةٍ في الأَعْلى، فإنَّ النوعَ الأَعْلى في الجَمادِ، وهو المرجانيّات يُشْبِهُ الأَنى مرتبةً في النَباتِ، وإنَّ الأعلى في النباتِ يقترب جدّاً من الرتبة الأدنى في الحيوان كالنباتات التي تتمتَّعُ بنوعٍ مِنَ الإحْساسِ فتُغْلِقُ زَهرتُها نفسَها على ثمرَتها إذا ما لا مستها الأيدي، وأُخرى تَذبُلُ فورَ أَنْ يُلْمَسَ، أو يتوجَّهُ باتجاه الشمسِ ويدورُ معها. كما أنَّ في الحوان أنواعاً أكثر رقيّاً من غيرها، كالحيواناتِ الأليفة عموماً لا سيما الخيل والكلابُ والجمالُ، فإنها تبكي على وليدِها أو صاحبها إذا فقدتْهُ، وتتأثر بسماع الأصوات الموسيقية. ولكنْ يَبْقى كلُّ قِسْمٍ مُسْتَقِلاًّ عَنْ غيرِهِ وإن تمتّع ببعض الارتقاءِ عن باقي جنسه.
قال ابنُ قُتَيْبةَ: نَزَلَتْ هذِه الآيةُ في بَني عَبْدِ الدارِ، فإنهم جَدُّوا في القِتالِ مَعَ المُشْرِكينَ، يَعني يَومَ بَدْرٍ، وأَخْرَجَ البُخاريُّ، وابْنُ جَريرٍ الطبريُّ، وابنُ أبي حاتم، الفريابيُّ، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وعبدُ بْنُ حميدٍ، وابْنُ المنذرِ، وابْنُ مردويْهِ، عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما في قولِهِ تعالى: "إنَّ شَرَّ الدَوابِّ عندَ اللهِ" قال: هُمْ نَفَرٌ مِنْ قُريشٍ مِنْ بَني عَبْدِ الدارِ. ورويَ عن قتادة مثلُ ذلك. وأَخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: نَزَلَتْ هذِهِ الآيةُ في النَّضْرِ بْنِ الحارثِ وقومِهِ. ولكنَّ حُكْمَها عامٌّ.
قولُهُ تَعالى: {إنَّ شَرَّ الدَوابِّ عند اللهِ} إنَّ: حرف ناسخٌ مشبَّه بالفعل "شَرّ" اسمها منصوبٌ بها وهو مضافٌ، وهو اسْمُ تَفْضيلٍ، أَصْلُهُ "أَشَرُّ" فحُذِفَتْ همزتُه هنا وفي قولِهِ تَعالى في سورة المائدة: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ} الآية: 60. للتخفيفِ كما حُذِفَتْ همزةُ "أَخير" فقيل: فلانٌ "خيرٌ" من فلانٍ وهذا خيرٌ من ذاك. و "الدوابِّ" مضافٌ أليه مجرور، و "عند الله" ظرفُ مكان متعلقٌ ب "شرّ".
قولُهُ: {الصُمُّ البكم الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} الصُمُّ البكم: خبرانِ ل" "إنَّ" بمعناهما الحقيقي، و "الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ" نعت ل "الصم البكم" وقيل خبرٌ ثالثٌ ل "إنَّ" وهذا عُدولٌ عَنِ التَشْبيهِ إلى التَوصيفِ لأنَّ "الَّذِينَ" مما يُناسِبُ المُشَبَّهين إذْ هُوَ اسْمٌ مَوْصولٌ بِصِيغةِ جمعِ العُقلاءِ وهذا تخلُّصٌ إلى أَحوالِ المُشَبَّهين كما تخلَّصَ طَرْفَةُ بنُ العبدِ في قوله:
خذولٌ تُراعي رَبْرَباً بخَميلَةٍ .............. تَنَاوَلُ أَطْرافَ البَريرِ وتَرْتَدي
وتَبْسِمُ عَنْ أَلْمَى كَأَنَّ مُنَوَّراً ............ تَخَلَّلَ حُرَّ الرَّمْلِ دِعْصٍ لَهُ نَدِ
إنَّما جُمِع "الصُمُّ" وهوَ خَبرُ "شر" لأنَّه يُرادُ بِهِ الكَثْرةُ، فجُمِعَ الخَبر على المَعنى، ولو كان الأََصَمّ لكان الإِفرادُ على اللفظِ، فالمعنى على الجمع. ويجوز أنْ يكونَ "الذين" منصوباً على القطع واعتباره منصوباً على الاختصاص.
وجملة: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ .. } معترضةٌ، وسَوْقُها في هذا المَوْضِعِ تَعريضٌ بالذين {قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} بأنهم يُشْبِهونَ دوابَّ صَمَّاءَ بَكْماءَ.