إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ
(9)
قوله ـ تعالى شأنُه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} تَسْتَجيرونَ بِهِ مِنْ عَدُوِّكُمْ وتَطْلُبونَ مِنْهُ الغَوْثَ والنَصْرَ. والاستغاثة: طلبُ الغَوْث وهو النصرُ والعَوْن وقيلَ: الاستغاثةُ سَدُّ الخَلَّة وقتَ الحاجَةِ. وقيل: هي الاستجارةُ. ويقالُ: غَوْثٌ وغُواث وغَواث، والغيثُ مِنَ المَطَرِ، والغَوْثُ مِنَ النُصْرَةِ، فعلى هذا يَكونُ "استغاث" مُشْتَرَكاً بَيْنَهُما، ولكنَّ الفَرقَ بَيْنَهُما في الفِعْلِ فيُقالُ: اسْتَغَثْتُهُ فأغاثني مِنَ الغَوْثِ، وغاثَني مِن الغَيْثِ.
قولُه: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} أيْ: مُرِْسِلٌ إليكم مَدَداً، والإِردافُ: الإِتباعُ والإِرْكابُ وراءَ. وأَرْدَفْتُ الرَجُلَ جئتُ بعدَهُ. ومِنْهُ قولُهُ تعالى في سورة النازعات{تَتْبَعُهَا الرادفة} الآية: 7، ويُقالُ: رَدِفَ وأَرْدَف. واخْتَلفَ اللُّغويّون فقِيلَ: هما بمعنى واحِدٍ، وقيلَ: رَدِفْتُ الرَجُلَ وأَرْدَفْته إذا ركبْتَ خلْفَهُ، وأُنْشِدَ على ذلك قولُ الشاعر خزيمةَ بْنِ مالِكٍ من بَنِي نهدٍ:
إذا الجوزاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ................... ظنَنْتُ بآل فاطمةَ الظُّنونا
يَعْني فاطِمَةَ بِنْتَ يَذْكُرَ بْنِ عَنَزَةَ بْنِ أَسَدٍ بْنِ رَبيعَةَ بْنِ نِزارٍ، أَحَدُ القارظيْن، وكلاهما مِنْ عَنَزةَ فالأَكْبَرُ مِنْهُما يَذْكُرُ بْنُ عَنَزةَ كانَ لِصُلْبِهِ، والأَصْغَرُ هُوَ رُهْمُ بْنُ عامرٍ مِنْ عَنَزةَ، والقارِظُ هو الذي يجمع ورق شَجَرِ القَرْظِ لِدِباغَةِ الأدَمِ، وبعدَه:
ظَنَنْتُ بها وظَنُّ المَرْءِ حُوْبٌ ............. وإنْ أوْفى وإنْ سَكَنَ الحَجُوْنا
وحالَتْ دُوْنَ ذلكَ من هُمومي ............. هُمُوْمٌ تُخْرِجُ الدّاءَ الدَّفِيْنا
أَرَى ابْنَةَ يَذْكُرٍ ظَعَنَتْ فحلَّت ........... جَنوبَ الحَزْن يا شَحَطا مُبينا
وقد كان خزيمةُ يهوى فاطمةَ ابْنَةَ يَذْكُرَ فخَطَبَها مِنْ أَبيها فَلَمْ يُزَوِّجْهُ إيَّاها فمَكَثَ زَماناً، ثمَّ إنَّ خُزيمةَ قالَ لِيَذْكُر بْنِ عَنْزَةَ أُحِبُّ أَنْ تَخْرُجَ مَعِيَ حتى نَأْتي بِقَرْظٍ، فَمَرّا بِقَليبٍ فاسْتَقَيا، فَسَقَطَتِ الدَلْوُ فَنَزَلَ يَذْكُرُ لِيُخْرِجَها، فلمّا صارَ إلى البِئْرِ مَنَعَهُ خُزيمةُ الرِشاءَ، وقيل فَمَرّا بهُوَّةٍ في الأَرْضِ فِيها نَحْلٌ فنَزَلَ يَذْكُرُ لِيَشْتارَ عَسَلاً، ودَلاّهُ خُزيمَةُ بَحَبْلٍ، فلَمَّا فَرَغَ قالَ لخُزَيمَةَ: أَمْدِدْني حتى أَصْعَدَ، فقال خُزيمةُ: لا واللهِ حتّى تُزَوِّجَني ابْنَتَكَ فاطِمَةَ، فقالَ: أَعَلى هذِهِ الحالِ؟ لا يَكُونُ ذَاكَ أَبَداً، فَتَرَكَهُ خُزيمَةُ فيها حتى ماتَ. فلَمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ أَهْلُهُ قالَ: لستُ أَدْري فارَقَني وما أَدْري أَيْنَ سَلَكَ، ولم يَصَحَّ عَلى خُزيمَةَ عَِنْدهمْ شَيْءٌ يُطالِبونَ بِهِ حتى قالَ خُزَيْمَةُ:
فتاةٌ كأَنَّ رُضابَ العَبيرِ ....................... بِفِيها يُعَلُّ بِهِ الزَنْجَبيلُ
قتلْتُ أَبَاها عَلى حُبِّها ...................... فتبخلُ إنْ بَخِلَتْ أَوْ تُنيلُ
فكانَ في ذلكَ شَرٌّ بَيْنَ قُضاعَةَ ونِزار ابْنَيْ مَعْدٍ, ووقَعتْ الحَرْبُ بينهما، وهيَ أَوَّلُ حَرْبٍ وَقَعَتْ بَيْنَهمْ، جَلَتْ بعدها قُضاعَةُ عَنْ مَنَازِلهم مِنْ تِهامَةَ. وإيَّاهما أَرادَ أَبو ذُؤيْبٍ الهُذليُّ بقولِه:
وحتى يَؤوبَ القارِظانِ كِلاهما .......... ويُنْشَرَ في القَتْلَى كُلَيْبٌ لِوائِلِ
وخبرَ كُليبٍ بْنِ رَبيعَةَ مَعْلوم. والثُرَيَّا تَطْلُعُ قبلَ الجَوزاءِ، رِدْفِها.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رضي اللهُ عنهم، قَالَ: (لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ، نَظَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاثُمِئَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلا ، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِنِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ لا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَألْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ كَذَاكَ مُنَاشَدَتَكَ رَبِّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: "إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلائِكَةِ" قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ وَهُوَ سِمَاكٌ الْحَنَفِيّ (أحدُ رجال سندِ هذا الحديث): فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ، وَصَوْتَ الْفَارِسِ، يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، إِذْ نَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ، فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجَهُهُ كَضَرْبَةِ السَّيْفِ، فَجَاءَ الأَنْصَارِيُّ، فَحَدَّثَ ذَاكَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: صَدَقْتَ ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ، وَأَسُرُوا سَبْعِينَ). وهذا حديثٌ صحيحٌ أخرجه الإمامُ مُسلِمٌ في الجِهادِ والسِيْرِ، بابِ الإمْدادِ بالملائكةِ في غَزْوَةِ بَدْرٍ. وأَخرَجَه الإمامُ أحمد، وأَبو داوودَ. والتِرمِذِيُّ وغيرُهُم. وقيل فِي معنى هذا الحديث، ومناشدةِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقولِ أَبُي بَكْرٍ: حَسْبُكَ يا رَسُولَ اللهِ فإنَّهُ سَيُنْجِزُكَ ما وَعَدَكَ: ليسَ لأنَّ حالَ أَبِي بَكْرٍ فِي الثِقَةِ بِرَبِّهِ كانَ أَرْفَعَ، ولا يَجوزُ لأَحَدٍ أَنْ يَظُنَّ ذلك، والمعنى فيهِ الشَفَقَةُ مِنْهُ ـ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، على قلوبِ أَصحابِهِ، إذْ كان ذلكَ أَوَّلَ مَشْهَدٍ شَهِدَوهُ، وكان عددُ أعدائهم أَضْعافَ عددهم، فابْتَهلَ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فِي الدُعاءِ والمَسْأَلَةِ يُسَكِّنُ بِذلِكَ ما فِي نُفوسِهِم، إذْ كانوا يَعْلَمونَ أَنَّ دَعْوَتَهُ مُستجابَةٌ، فلمّا قَالََ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: حَسْبُكَ كَفَّ مِنَ الدُعاءِ إذْ عَلِمَ أَنَّهُ قد اسْتُجيبَ دُعاؤُهُ بما وَجَدَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي نَفْسِهِ مِن القوَّةِ، حتى قَالَ هذا القول، يَدُل عَلى ذلك قولُهُ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، على أَثَرِ ذلك: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}، واللهُ أَعْلَمُ.
يُروى أَنَّهُ نَزَلَ جِبْريل ُفي خمسِمئةٍ وميكائيلُ في خمسِمئةٍ في صورةِ الرِجالِ على خيلٍ بُلْقٍ عَلَيْهم ثيابٌ بيضٌ وعلى رُؤوسِهم عَمائِمُ بِيضٌ، قدْ أَرْخَوْا أَطْرافَها بَينَ أَكْتافِهم)) أَخْرَجَهُ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما.
ورُوِيَ أَنَّ النَبيَّ ـ صَلّى اللهُ عليْهِ وسَلمَ، لمّا ناشَدَ رَبَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، وقالَ أَبو بَكْرٍ ـ رضي اللهُ عنه: إنَّ اللهَ مُنْجِزٌ لَكَ ما وَعَدَكَ فَخَفَقَ رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، خَفْقَةً وهُو في العَريشِ ثمَّ انْتَبَهَ، فقالَ: ((يا أَبا بَكْرٍ أَتاكَ نَصْرُ اللهِ، هذا جِبْريلُ آخِذٌ بِعِنانِ فَرَسٍ يَقودُهُ على ثَناياهُ النَقْعُ".
وعن ابنِ عبّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهما: أنَّ النَبيَّ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ، قال يومَ بدر: ((هذا جبريل آخذٌ برأسِ فرسِهِ عليْهِ أَداةُ الحَرَبِ)). أَخْرَجَه البُخاري في المغازي، بابُ شُهودِ الملائكة بَدراً: 7/312. وقال عبدُ اللهِ بْنُ عبّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُما: (كانت سيما الملائكة يومَ بَدْرٍ عمائمُ بِيضٌ ويومَ حُنينٍ عَمائمُ خُضْرٌ، ولم تُقاتِلْ الملائكةُ في يَومٍ سِوى يَومِ بَدْرٍ مِنَ الأَيامِ، وكانوا يَكونونَ فيما سِواهُ عدداً ومَدَداً) رَواه الطَبرانيُّ مَوْقوفاً على ابْنِ عبَّاسٍ. ورُوي عَنْ أَبي أُسَيْدً مالك بنِ رَبيعةَ قَدْ شَهِدَ بَدْراً أَنَّه قال بعدَما ذَهَبَ بَصَرُهُ: (لو كنتُ معكمُ اليومَ بِبَدْرٍ ومَعِيَ بَصَرِي لأَرَيْتُكم الشِعْبَ الذي خَرَجَتْ مِنْهُ الملائكةُ) عَزاهُ السيوطيُّ لابْنِ مَرْدَوَيْهِ وللبَيْهَقِيِّ في الدَلائل.
قولُهُ تَعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} إذ: مَنْصوبٌ بفعلٍ مُضمرٍ تقديرُهُ "اذكر"، وعليه فهو مستَأنفٌ، أَيْ: مَقْطوعٌ عَمَّا قَبْلَهُ. وقيلَ هو منصوبٌ ب {يُحِقُّ}، أَيْ: يُحِقُّ الحَقَّ وقتَ اسْتِغاثَتِكم. وقيل هو غَلَطٌ، فإنَّ "ليًحِقَّ" مُسْتَقْبَلٌ لأنه مَنْصوبٌ بإضْمارِ "أَنْ"، و "إذ" ظَرْفٌ لما مَضَى، فكيفَ يَعْمَلُ المُسْتَقْبَلُ في الماضي؟ وأَجِيبَ بِأَنَّ ذَلكَ مَبْنيٌّ عَلى ما ذَهَبَ إليْهِ بَعضُ النُحاةِ كابْنِ مالِكٍ مِنْ أَنَّ "إِذْ" قد تَكونُ بمعنى "إذا" التي للمُستَقْبَلِ كما هي في قولِهِ تَعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِم} سورة غافر، الآيتان: 70 ، 71.
وقدْ يُجْعَلُ مِنَ التَعبيرِ عنِ المُسْتَقْبَلِ بالماضي لِتَحَقًّقِهِ. وقالَ بعضُ المُحَقِّقينَ في الجوابِ: إنَّ كونَ الإحْقاقِ مُسْتَقْبَلاً إنَّما هُوَ بالنِسْبَةِ إلى زَمانِ ما هُوَ غايةٌ لَهُ مِنَ الفِعْلِ المُقَدَّرِ لا بالنِسْبَةِ إلى زَمانِ الاسْتِغاثَةِ حَتى لا يَعْمَلَ فيهِ بَلْ هما في وَقْتٍ واحدٍ، وإنَّما عَبَّرَ عَنْ زَمانِها ب "إذ" نَظَراً إلى زَمَنِ النُزولِ. وصيغةُ الاستقبالِ في "تَسْتَغِيثُونَ" لحكايَةِ الحالِ الماضيةِ لاسْتِحْضارِ صُورَتِها العَجيبَةِ، وقيلَ: هُو مُتَعَلِّقٌ بُمُضْمَرٍ مُسْتَأْنَفٍ، أيْ: اذْكُروا، وقيل: هو متعلِّقٌ بِ {تَوَدُّون} مِنَ الآيةِ: 7. وليسَ بِشَيْءٍ وفيه بُعْدٌ لطولِ الفصل. وقيل هو بدلٌ من "إذ" الأُولى، وقد تقَدَّمَ أَنَّ العاملَ في "إذ" الأُولى "اذْكُرْ" مُقَدَّراً. وقال الطبريُّ والحوفيُّ هو مَنْصوبٌ بِ {يَعِدُكم}. ويتعدَّى "استغاث" بِنَفْسِهِ وبالباء، فتقولُ: استغاثّه واستغاث به. وأَنْشَدوا على تَعَدِّيه بالحرفِ قولَ زهير بن أبي سُلْمى:
حتى استغاثَ بماءٍ لا رِشَاءَ له ............ من الأباطحِ في حافَاتِه البُرَكُ
مُكَلَّلٌ بأصولِ النَّبْتِ تَنْسُجُهُ ........... ريحٌ خَرِيقٌ لضاحي مائِه حُبُكُ
كما اسْتَغاثَ بِسَيْءٍ فَزُّ غَيْطَلَةٍ ....... خافَ العيونَ ولم يُنْظَرْ به الحَشَكُ
فدَلَّ على أَنَّهُ يَتَعَدَّى بالحَرْفِ كما اسْتَعْمَلَهُ سِيبوَيْهِ وغيرُه، أما في القرآن الكريم فإنَّهُ لم يردْ إلا متعدياً بنفسه.
قولُهُ: {أَنّي مُمِدُّكُمْ} أَيْ بِأَنّي فحُذِفَ الجارُّ، وفي كِوْنِ المُنْسَبِكِ بَعدَ الحَذْفِ مَنْصُوباً أَوْ مجْروراً خلافٌ تقدَّمَ بيانُه.
وقولُهُ: {مُرْدَفِينَ} بِفَتْحِ الدالِ صفةٌ ل "أَلْفٍ"، أَيْ أَرْدَفَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ. ويجوزُ أنْ يكونَ حالاً مِنْ ضَمير المُخاطَبين في "يُمَدُّكم"، والأولُ أَظْهَرُ.
قرأَ العامَةُ: {أَنِّي} [فتحِ الهْمزةِ، بِتَقديرِ حذْفِ حَرْفِ الجَرِّ، أيْ: فاستجابَ بِأَنّي. وقرأ عيسى بنُ عُمر، ويُروى عَنْ أَبي عَمْرٍو أَيْضاً "إني" بكسرها. وفيها مذهبان: مذهَب البصريين أنه على إضمار القول أي: فقال إني ممدُّكم. ومذهب الكوفيين أنها محكيَّةٌ باستجاب إجراءً له مُجْرى القولِ لأنه بمعناه.
قرأ العامةُ: {بِأَلْفٍ} على التَوحيدِ. وقرأَ الجحدريُّ: "بآلُفٍ" بِزِنَةِ "أَفْلُس". وعَنْهُ أَيْضاً وعَنِ السُدِّيّ "آلاف" بِزِنَةِ "أَحْمال". وفي الجمع بين هاتين القراءتين وقراءةِ الجُمهور: أَنْ تُحْمَلَ قراءةُ الجمهورِ على أَنَّ المُرادَ بالأَلْفِ هُمُ الوُجوهُ، وباقيهم كالأتْباعِ لهم، فلِذلِكَ لم يَنُصَّ عليهم في قراءةِ الجُمهورِ ونَصَّ عَلَيْهِم في هاتين القراءتين. أو تُحْمَلُ الأَلْفُ على مَنْ قاتَلَ مِنَ المَلائكةِ دُونَ مَنْ لم يُقاتِلْ فلا تَنافِيَ حينئذٍ بين القراءات.
قرأ العامةُ: {مُرْدِفين} بِكَسْرِ الدالِ، أيْ: مُتُتابِعينَ بَعْضُهم في إثْرِ
بعضٍ، وقرأَ أَهْلُ المدينةِ ويَعقوبُ "مُرْدَفين" بِفَتْحِ الدالِ، أَيْ: أَرْدَفَ اللهُ المُسْلِمين وجاءَ بِالملائكةِ مَدَداً للمسلمين. وهما واضِحَتان لأنَّه يُروَى في التَفْسيرِ أَنَّه كان وراءَ كُلِّ مَلِكٍ مَلَكٌ رَديفاً لَهُ. فقراءةُ الفَتْحِ تُشْعر بأنَّ غيرَهم أَرْدَفَهم لِرُكوبهم خَلْفَهم، وقراءةُ الكَسْرِ تُشْعِرُ بأنَّ الراكِبَ خَلْفَ صاحِبِهِ قد أَرْدَفَه، فصَحَّ التَعبيرُ باسْم الفاعلِ تارةً وباسْمِ المفعولِ أُخرى. وجَعَلَ أبو البقاء مفعولَ "مُرْدِفين" (بالكسر) محذوفاً أيْ: مُرْدِفين أَمْثالَهم. وجَوَّزَ أَنْ يكونَ معنى الإِرْدافِ المجيءَ بعدَ الأوائِلِ، أَيْ: جُعِلوا رِدْفاً للأوائلِ. وقال في سورة آل عُمرانَ: {بخمسَةِ آلافٍ} الآية: 125. وقال هُنا "بأَلْفٍ" والقِصَّةُ واحِدَةٌ. والجوابُ: أَنَّ هذِهِ الأَلْفُ مُرْدِفَةً لِتِلْكَ الخَمْسَةِ فيَكونُ المجْموعُ سَتَّةَ آلافٍ، ويَظْهَرُ هذا ويَقُوَّى في قِراءةِ "مُرْدِفين" بِكَسْرِ الدالِ. وقال الربيع بن أنس: أَمَدَّ اللهُ المُسلمين بأَلْفٍ ثمَّ صاروا ثلاثةَ آلافٍ، ثمَّ صاروا خمسةَ آلاف. وقال مجاهد، وعِكرمةُ، والضحّاكُ، وغيرُهم في قوِلِ في سُورَةِ آلِ عُمْرانَ: {بخَمْسَةِ آلافٍ} كان ذلك الوعدُ يومَ أُحُدٍ، لكنْ لم يَحْصُلْ الإِمداد بالخَمْسَةِ الآلافِ ولا بالثلاثة، لأنَّ المُسْلِمين يَومَئِذٍ فَرُّوا. وقدْ تقدَّم بيانُ ذلك هُناكَ، واللهُ أَعْلَمُ.
وقد أَنْكرَ أبو عُبيدٍ أَنْ يَكون الملائكةُ أَرْدَفَتْ بعضَها، أَيْ: رَكَّبَتْ خلفَها غيرَها مِنَ المَلائكَةِ. وقال الفارسيُّ: "مَنْ كَسَرَ الدالَ احْتَمَلَ وجْهَيْنِ، أَحَدُهما: أَنْ يَكونوا مُرْدِفين مِثْلَهم كَما تَقولُ: "أَرْدَفْتُ زَيْداً دابَّتي" فيَكونُ المفعولُ الثاني محذوفاً، وحَذْفُ المفعولِ كثيرٌ. والوَجْهُ الآخَرُ: أَنْ يكونوا جاؤوا بَعْدَ المُسْلِمين. وقالَ الأَخْفَشُ: "بَنو فُلان يَرْدِفونَنا" أيْ: يجيئونَ بَعْدَنا"، وقال أَبو عُبَيْدَةَ: "مُرْدِفين: جاؤوا بعدُ، ورَدِفني وأَرْدَفني واحد". قالَ أبو عليٍّ الفارسيُّ: "هذا الوجه كأنّه أَبْيَنُ لقولِهِ تعالى: "إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ"، قولُه: "مُرْدِفين" أَيْ: جائين بَعدُ لاسْتِغاثتِكم. ومَنْ فتحَ الدالَ فهُم مُرْدَفون على: أُرْدِفوا الناسَ، أيْ: أُنْزِلوا بَعْدَهم".
وقرأ بعضُ المَكِّيينَ فيما حكاه الخليلُ "مُرَدِّفين" بفتحِ الراءِ وكَسْرِ الدّالِ مُشدَّدَةً، والأصلُ: مُرْتَدِفين فأُدْغِمَ. وقال أبو البقاءِ: "إنَّ هذه القراءةَ مأخوذةٌ مِنْ رَدَّفَ بتَشديدِ الدالِ على التَكْثيرِ، وإنَّ التَضْعيفَ بَدلٌ مِنَ الهَمزَةِ كأَفْرَحْتُهُ وفَرَّحْتُهُ" وجَوَّزَ الخليلُ بْنُ أَحمدٍ الفراهيديُّ ضَمَّ الراءِ إتْباعاً لِضَمِّ الميمِ كما في قولهم: مُخُضِم بضَمِّ الخاء، وقَدْ قُرِئَ بها شُذوذاً.
وقُرئ "مُرِدِّفين" بِكَسْرِ الراءِ وتَشْديدِ الدالِ مَكْسورةً. وَكَسْرُ الراءِ يَحْتَمِلُ وَجْهَين: إمَّا لالْتِقاءِ الساكِنينِ وإمَّا للإِتْباعِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: "ويجوزُ على هذِهِ القراءةِ كَسْرُ الميمِ إتباعاً للراءِ، ولا أَحْفَظُهُ قِراءةً"، وكذلك الفتحةُ في "مُرَدِّفين" في القراءةِ التي حَكاها الخليلُ تحتمِلُ وجَهَين. أَحَدُهما: أَنّها حَرَكةُ نَقْلٍ مِنَ التاءِ حينَ قَصَدَ إدْغامَها إلى الراءِ، وهو الظاهر. والثاني: أَنَّها فُتِحَتْ تخْفيفاً، وإنْ كانَ الأَصْلُ الكَسْرَ على أَصْلِ الْتِقاءِ الساكِنَيْنِ كما قَدْ قُرِئَ بِهِ. وقُرِئ "مِرْدِفين" بِكَسْرِ الميمِ إتْباعاً لِكَسْرَةِ الراءِ.
وقيل: بَلْ بَيْنَهُما فَرقٌ، فقال الزَجّاجُ: "يُقالُ: رَدِفْتُ الرجلَ: رَكِبْتُ خلفَه وأَرْدَفْتُه: أَرْكَبْتُهُ خَلْفي" وهذا يُناسِبُ قوْلَ مَنْ يُقَدِّرُ مَفْعولاً في "مُرْدِفين" بِكَسْرِ الدالِ، وأَرْدَفْتُه "إذا جِئْتَ بعدَهُ أَيْضاً، فَصارَ أَرْدَفَ على هذا مُشْتَرَكاً بَينَ مَعْنَيَينِ. وقالَ شمر: "رَدِفْتُ وأَرْدَفْتُ إذا فَعَلْتَ ذلك بنفسك، فأمَّا إذا فَعَلْتَهما بغيرَِك فَأَرْدَفْتُ لا غير".