الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
(3)
قولُهُ ـ سبحانَه وتعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} أيْ: الذين يُؤدّون الصلواتِ الخمسَ تامَّةً بقيامها وقراءتها برُكوعِها وسُجودها وجميعِ أَرْكانها بخُشوع وخضوعٍ وسكينةٍ وطمأنينةٍ في أَوقاتها كما أَمرَ رسول اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم. فبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ تَعَالَى إِيمَانَ المُؤْمِنِينَ وَاعْتِقَادَهُم، أَشَارَ هُنَا إلَى أعْمَالِهِمْ.
أخرج ابْنُ أَبي حاتم في تفسيرِهِ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، قَوْلُهُ: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ}، إِقَامَتُهَا: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَوَاقِيتُهَا، وَإِسْبَاغِ الطُّهُورِ فِيهَا، وَتَمَامُ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا، وَتِلاوَةِ الْقُرْآنِ فِيهَا، وَالتَّشَهُّدِ، وَالصَّلاةِ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَذَا إِقَامَتُهَا".
قولُهُ: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } والذين يكسبون المال من حلِّه وينفقونه في الوجوهِ التي حددها الشرعُ الحنيفُ، النَفَقَةَ الشَرْعيَّة المعتدلة على النَفْسِ والأهلِ ومن تلزم النفقةُ عليهم دون إسراف ولا تقتير، ويؤدُّونَ حقَّ اللهِ في مالهم للفقراء والمساكين وفي سبيل لله وابن السبيل وفي أعمال البرِّ كما أمر الشارعُ سبحانه وتعالى. فهو عامٌّ في النفقة والزَكاةِ ونَوافِلِ الصَدَقاتِ وصِلاتِ الرَحِمِ، وغيرِ ذلك مِنَ المَبارِّ المالِيَّةِ، وخَصَّ ذلك جماعةٌ مِنَ المُفَسِّرين بالزَكاةِ لاقْتِرانها بالصَلاةِ.
أخرج ابْنُ أبي حاتمٍ في تفسيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، قَوْلُهُ: "وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ"، يَقُولُ: زَكَاةُ أَمْوَالِهِمْ". وأَخْرَجَ عَنِ السُّدِّيِّ: "وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ"، فَهِيَ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ، وَهَذَا قَبْلُ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةَ". وأخرج أيضاً عَنْ قَتَادَةَ: "وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ"، فَأَنْفِقُوا مِمَّا أَعْطَاكُمُ اللهُ، فَإِنَّمَا هَذِهِ الأَمْوَالُ عَوَارِي وَوَدَائِعُ عِنْدَكَ يَا ابْنَ آدم، أَوْشَكْتَ أَنْ تُفَارِقَهَا".
قولُهُ تَعالى: {الذين يُقِيمُونَ} هذا الموصولُ مَرْفوعٌ على النَعْتِ للمَوْصُولِ الأَوَّلِ، وهو أحسَنُ الوجوه حتى تدخلَ في حيِّزِ الجزئيَّةِ فيكون ذلك إخباراً عن المؤمنين بصفاتهم الثلاث القلبيَّةِ والبَدنيَّةِ والماليَّة. ويجوزُ أن يكون رفعُه على البَدَلِ منه، أَوْ على البَيانِ لَهُ، ويجوزُ أَنْ يَكونَ مَنْصوباً على القَطْعِ المُشْعِرِ بالمَدْحِ.
وقولُهُ: {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} قدِّمَ الجارِّ والمجرورُ هنا لِيُفيدَ الاخْتِصاصَ، أَيْ: عليْهِ سبحانَه التوكُّلُ لا عَلى غَيرِهِ. وهذِهِ الجُملةُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ لها محَلٌّ مِنَ الإِعْرابِ وهُو النَصْبُ على الحالِ مِنْ مَفْعولِ "زادَتْهم" ويُحْتَمَلُ أَنْ تَكونَ مُسْتَأْنَفَةً، ويحتَمَلُ أَنْ تَكونَ مَعْطوفةً على الصِلَةِ قَبْلَها فَتَدْخُلَ في حَيِّزِ الصِلاتِ المُتَقَدِّمَةِ، وعلى هذيْنِ الوَجْهَينِ فلا محَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.