وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
(16)
قولُه ـ تعالى شأنُه: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} عَدَلَ الحقُّ سبحانه، عَنْ ذِكْرِ الظَهْرِ إلى الدُبُرِ مُبالَغَةٍ في التَقْبيحِ والذَمّ، إذْ تُعَدُّ تِلكَ الحالةُ مِنَ الصِفاتِ القَبيحَةِ المذمومةِ جِدًّا، وكان العربُّ يكرهون أن يقالَ ولّى ظهره ويعدونها سُبَّةً ما بعدها سبَّةٌ، من ذلك قولِ الشاعر:
فلسنا على الأعقاب تجري كلومنا ..... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
يفخر بأنَّ جراحهم يسيل دمها على أقدامهم وليس على أعقابهم، كناية عن أنها من جهة الأمامِ لا من جهة الخلف لأنهم لا يديرون ظهورهم أبداً بغية الفرار فيطعنهم أعداؤهم من الخلف، وهذا يعني أنَّهم مقبلون على عدوهم دائماً لا يحاولون الفرارَ أبداً لذلك فإن جراحهم تسيل على أقدامهم وليس على أعقابهم، لكنَّ القرآنَ العظيم بلغ القمة التي ليس فوقها قمةٌ في البلاغة عندما استعمل لفظة الدبر بدلاً من الظهر.
قولُهُ: {إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} يقالُ: تَحَرَّفَ وانْحَرَفَ واحْرَوْرَفَ، أيْ: مالَ وعَدَلَ عن الشيءِ إلى سِواهُ، وهذا التَحَرُّفُ إمَّا بالتَوَجُّه إلى قتالِ طائفةٍ أٌخرى أَهَمّ مِنْ هؤلاءِ، وإمَّا بالفَرِّ للكَرِّ، بأنْ يُخَيِّلَ عَدُوَّهُ أَنَّهُ مُنْهَزِمٌ لِيَغُرَّهُ، فيَلْحَقَ به ليقتلَهُ فيَُخْرُجََ مِنْ بينِ أَعْوانِهِ وأَنصارهِ، حتى إذا اطمأنَّ إلى انفراده به عادَ فكَرَّ عَلَيْهِ، وحدَهُ أَوْ أَوْقَعَهُ في كَمينٍ مهيّأٍ من قبلُ، فيظفروا به، وهوَ باب من أبواب مكائدِ الحَرْبِ. و "أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ" أي: مُنْضَمَّاً إلى جماعَةِ أُخرى مِنَ المُسْلِمينَ لِيَسْتَعينَ بهم.
والتَحَيُّزُ والتَّجَوُّزُ يعني: الانْضِمامَ. وتحوَّزَتِ الحَيَّةُ: انْطَوَتْ، وحُزْتُ الشيْءَ: ضَمَنْتُهُ. والحَوْزَةُ ما يَضُمُّ الأشياءَ. ووزنُ متحيِّز: مُتَفَيْعِل، والأصل: مُتَحَيْوِز. فاجتمعت الياءُ والواوُ وسُبِقَتْ إحداهما بالسُكونِ فقُلِبت الواو ياءً وأُدْغِمتْ في الياءِ بعدَها كَ "مَيِّت". ولا يجوزُ أنْ يَكونَ وزنُه: "مُتَفَعِّلاً" لأنَّهُ لو كان كذا لكانَ مُتَحَوُّزاً، فأَمَّا مُتَحَوِّزٌ فوزنُه: "متفعِّل".
فقدْ سَمَحَ اللهُ سبحانه لِلْمُقَاتِلِ بِحُرِّيَّةِ الحَرَكَةِ أَثْنَاءِ المَعْرَكَةِ، كَأنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَكَانٍ فِي المَعْرَكَةِ إلى مَكَانٍ آخَرَ، لِنُصْرَةِ فَرِيقٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، أَوْ لِسَدِّ ثَغْرَةٍ نَفَذَ مِنْهَا العَدُوُّ، فَالمُهِمُّ هُوَ أَنْ يَكُونَ هَدَفُ المُقَاتِلِ المُسْلِمِ النَّصْرَ أَوِ الشَّهَادَةِ، وَإِطَاعَةِ أَمْرِ القِيَادَةِ. أَمَّا الذِينَ يَتْرُكُونَ المَعْرَكَةَ فِرَاراً وَهَرَباً مِنَ المَوْتِ، فَإنَّ اللهَ تَعَالَى يَتَوَعَّدُهُمْ بِالعَذَابِ الألِيمِ يَوْمَ القِيَامَةِ. وَعَدَّ رَسُولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ التَّولِيَّ يَوْمَ الزَّحْفِ مِنَ الكَبَائِرِ في الحديث الذي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ. وقد تقدَّم بيانُ ذلك مفصَّلاً في تفسير الآية السابقة لهذه الآية المباركة، لمن أراد أن يقفَ على الحكم الشرعي في هذه المسألة.
قولُهُ: {فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ} أَيْ: رَجَعَ مصحوباً بغضبِ اللهِ وسَخَطهِ والعياذُ بالله تعالى مِنْ غَضَبِهِ وعَذابِهِ. ومن غضبَ الله عليه فقد فاته خيرُ الدنيا وخيرً الآخرة، وخَسِرَ كلَّ شيء.
قولُه: {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} إيْ: إنَّ عاقبتَه هي جهنَّمُ وما يَنْتَظِرُهُ فيها مِنْ عَذابٍ في نارها، ولا مآلَ أَسَوأ مِنْ ذلك المآلِ، ولا مَصَيرِ أَفْظَع من هكذا مصير.
قولُهُ تعالى: {ومَن يوَلِّهم يومئذٍ دُبُرَه} مَنْ: اسْمُ شَرْطٍ في محلِّ رفعٍ مبتدأً، و "يومئذ" يومَ: ظَرْفُ زمانٍ مُتَعَلِّقٌ ب "يولِّهم"، و "إذٍ" اسْمٌ ظَرْفيٌّ مَبْنيٌّ عَلى السُكونِ في محلِّ جَرِّ مُضافٍ إليْهِ، والتَنوينُ للتَعْويِضِ عَنْ جمْلِةٍ تقديرها: يوم يكونُ كذا .. . و "دبُُرَهُ" مَفْعولٌ ثانٍ، وقد تقدَّم بيان ذلك في إعرابِ مثيله من الجملة السابقة.
قولُه: {إلا مُتَحرِّفاً لقتالٍ} إلاَّ: أداةٌ للحَصْرِ، و "متحرفا" مُسْتَثْنى مِنْ عُمومِ الأَحْوالِ، وهي في الأَصْلِ اسْتِثْناءٌ مِنْ حالٍ محذوفَةٍ والتقدير: وَمَنْ يُوَلِّهم مُلْتَبِساً بأَيَّةِ حالٍ إلاَّ حالَ كَذا، وإنْ لم تُقَدَّرْ حالٌ عامَّةٌ محذوفةٌ لم يَصِحَّ دُخولُ "إلاَّ" لأنَّ الشَرْطَ عِنْدَهُم واجِبٌ، والواجِبُ حُكْمُهُ أَنْ لا تَدْخُلَ "إلاَّ" فيه. و "لِقِتالٍ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ ب "متحرفا"،
قولُهُ: {فقد باء بغضبٍ من الله ومأواهُ جهنَّمُ} الفاء رابطة لجواب الشرط، و "قد" للتحقيق، و "باء" فعلٌ ماضٍ جوابُ الشرطِ وجزاؤه، وفاعلُه "هو" يَعودُ على "مَنْ"، و "بغضبٍ" جارٌ ومجرورٌ متعلقانِ ب "باء"" و "من اللهِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِنَعْتٍ ل "غضب". وجملة "مأواه جهنم" معطوفةٌ على جَوابِ الشَرطِ.
وقولُهُ: {وَبئسَ المصيرُ} الواوُ استئنافيَّةٌ، و "بئس" فعلٌ ماضٍ لإنشاء الذمِّ، و "المصير" فاعلٌ، والمخصوص بالذم محذوفٌ أيْ: جَهَنَّمُ، والجملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ.
قرأَ العامَّةُ: {دُبُرَه} بضمِّ الباءِ، وقَرَأَ الحَسَنُ بسُكونِها كقولهم "عُنْق" في "عُنُق".