الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} هُمُ اليَهودُ بنو إسرائيلَ الذِينَ مِنْ شأنِهم نَقْضُ العُهودُ، وهذا دَيْدَنُهم مُذْ عُرفوا، فَلا عهدَّ لهم ولا مِيثاقَ، هُمْ مَعَ العَهْدِ والميثاقِ طالما كانوا ضعفاءَ غيرُ قادرينَ على نقضِهِ وكانَ في العهدِ مصلحةٌ لهم، فإذا آنَسُوا مِنْ نَفْسِهم قُوَّةً، ورأوا أنْ لا مصلحةَ لهم بالعهدِ نَقَضُوه، ولا عَجَبَ! فمَنْ كان هذا شأنه مع عهودِ اللهِ ليس بِدْعاًً إذا ما استخفَّ بعهدِه لغيرِهِ، وقد وصفهم ربُّهم بهذا في سورة البقرة فقال: {أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} الآية: 100. فهم يَعْبُدون مَصالِحَهَم ولا يعبدونَ ربَّهم ومولاهم، وهذا دَيْدَنُهم. فكانوا كُلَّمَا عَاهُدُوا عَهْداً نَقَضُوهُ، وَكُلَّمَا أَكَّدُوه بِالأَيْمَانِ نَكَثُوهُ، وَهُمْ لاَ يَخَافُونَ عِقَابَ اللهِ عَلَى شَيءٍ مِنَ الآثَامِ ارْتَكَبُوهُ.
قولُهُ: {وهم لا يتقون} شُؤْمَ الغَدْرِ وعاقبتَه وتَبِعاتِهِ وما يجُرُّهُ عليهم في الدنيا مِنْ وَيْلاتٍ التي كان منها القتلُ والسبيُ، وْلا يخافونَ اللهَ ونُصْرَتَهُ للمُؤمنين عليهم وتَسْلِيطَهُ، وهذا عاجلُ العقوبةِ، أمّا آجلُها فسَيَكونُ أَدهى وأَمرّ، لأَنَّ نَارَ حِقْدِهِمْ أَعْمَتْهُم عَنْ رُؤْيَةِ ما فيهِ مَصْلَحَتُهم الحقيقيَّةِ في الدُنيا والآخِرَةِ.
وقد نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي نَفَرٍ مِنَ اليَهُودِ، هُمْ بَنُوا قُرَيْظةَ وزَعِيمِهِمْ كَعْبِ بْنِ الأَََشْرَفِ، وَهُوَ مِنْ طَوَاغِيتِ الكُفْرِ وَالكُرْهِ لِلإِسْلاَمِ ونبيِّه. وَكَانَ الرَّسُولُ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ، حِينَ هِاجَرَ إلَى المَدِينَةِ، عَقَدَ مَعَ اليَهُودِ عُقُوداً، أَمَّنَهُمْ فِيهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَدِينِهِمْ، على ألاّ يتعرضوا للمسلمين بأَذَى ولا يعينُ عِليهم عدواً، فَنَقَضُوا هَذِهِ العُهُودَ، وَتَآمَرُوا عَلَى الرَّسُولِ وَالمُسْلِمِينَ. فأَعانوا المُشْرِكين بالسِلاحِ يومَ أُحُدٍ، وقالوا: نَسِينا، ثمَّ عاهَدَهم ثانيةً فَنَكَثوا وتَآمَروا عليه مع مشركي قريش يومَ الخَندقِ، ورَكِبَ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ في مَلأٍ مِنْ قومِهِ إلى مَكَّةَ، فحالَفُوا المُشْرِكين عَلى حَرْبِِهِ ـ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ، ، فخَرَجَ إليهم النبيُّ وصَحْبُهُ، فقَتَلَوا مُقاتِلَتَهم وسَبوا ذَراريهم.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، عنْ مُجاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في قولِهِ تعالى: {الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم} قال: هم يهودُ بني قُرَيْظَةَ الذين مالؤوا على مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، أَعْداءَهُ يومَ غزوة الخندقِ. وكانوا قد أعانوهم على المسلمين بالسلاح يومَ غزوة أحدٍ كما تقدَّم.
قولُهُ تَعالى: {الذين عَاهَدْتَّ منهم} مَرْفوعٌ إمّا عَلى البَدَلِ مِنَ المَوْصولِ قَبْلَهُ، أوْ عَلى النَعْتِ لَهُ، أَوْ على عَطْفِ البَيانِ، أَوِ مرفوعٌ على الابْتِداءِ، وخبرُهُ قَوْلُهُ: {فإمَّا تَثْقَفَنَّ} بمعنى: مَنْ تَعاهِدُ مِنْهم، أَيْ مِنَ الكُفارِ، ثمَّ يَنْقُضونَ عَهْدَهُمْ، فإنْ ظَفِرْتَ بِهِمْ فاصْنَعْ كيْتَ وكَيْتَ، فَدَخَلَتِ الفاءُ في الخَبرِ لِشِبَهِ المُبْتَدَأِ بالشَرْطِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مَنْصوباً على الذَمِّ. و يجوزُ أَنْ يَكونَ "منهم" حالاً مِنْ عائدِ المَوصولِ المحذوفِ والتقديرُ: الذين عاهدتَهم كائنين مِنهم، فإنَّ "مِنْ" للتَبْعيضِ. وفيها ثلاثةُ أَقوالٍ أُخرى، فقيلَ: هيَ بمَعنى "مَع". وقيلَ: الكلامُ محمولٌ على مَعْناه، أَيْ: الذين أَخَذْتَ مِنْهُمُ العَهْدَ. وقيل: "من" زائدةٌ، أي: عاهَدْتَهم. لكنَّ هذِهِ الأَقْوالُ الثَلاثةُ ضَعيفَةٌ والأَوَّلُ أَصَحُّ.
فَ