وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ
(31)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا: التي لو أَنزلناها على جبلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ الله "قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا" أَيْ: فَهِمْنا ما تحتوي عليه: "لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا" وهذا من مَقالة المتصدِّين للطَعْنِ على الرسول ـ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ، ومحاجَّتِهِ، والتَشغيبِ عليه: مِنْهمُ النَضْرُ بْنُ الحارث، وطُعَيمَةُ بْنُ عَديٍّ، وعُقْبَةُ بْنُ أَبي مُعَيْطٍ. وهو عِنْدَ جمهورِ المُفَسِّرينَ النَّضرُ بْنُ الحارثِ مِنْ بَني عَبْدِ الدارِ، وإنَّما أُسْنِدَ هذا القولُ إلى الجَمْعِ لأنَّهُ كانَ رَئيسَهم والمتحدِّثَ فيهم، وكانوا يُؤيِّدونَه ويُحاكونَهُ، فقد كان صاحبَ تجارَةٍ واسِعَةٍ يَطوفُ بها على بِلادِ الرُومِ وفارس، ويَسْمَعُ قَصَصَهم وأَخْبارَ مُلوكِهم، وكان رجلاً من مردة قريش ومن المستهزئين، وكان كثيرَ الأسفارِ إلى الحِيرةِ وأَطْرافِ بِلادِ العَجَمِ في تجارَتِه، فكانَ يَلْقى بالحِيرَةِ ناساً مِنَ العِبَادِ (بتخفيف الباء اسْمُ طائفةٍ مِنَ النَصارى) فيُحَدِّثونَهُ مِنْ أَخبارِ الإنجيلِ، ويَلْقَى مِنَ العَرَبِ مَنْ يَنْقُلُ أُسْطورَةَ حُروبِ (رُسْتُم) و (أسْفندياذ) مِنْ مُلوكِ الفُرْسِ في قَصَصِهِمُ الخُرافيِّ، وكانت تِلكَ الأخبارُ تُتَرْجَمُ للعَرَبِ مشافهةً، فيَسْتَظْهِرُها قُصَّاصُهم وأَصحابُ النَوادِرِ مِنْهم، ولم يُذْكَرْ أنَّ تِلكَ الأَخبار كانت مكتوبةً بالعَربِيَّةِ، إلاّ ما ذُكِرَ في (الكشّافِ) أَنَّ النَضْرَ بْنَ الحارِثِ جاءَ بِنُسْخَةٍ مِنْ خَبرِ (رُستم) و (اسفندياذَ) ولا يبعد أن يكون بعضُ تلك الأخبارِ مَكتوباً بالعَرَبِيَّةِ كَتَبَها القَصّاصونَ مِنْ أَهْلِ الحِيرةِ والأَنْبارِ، وإنما هي أَخْبارٌ لا حِكمةَ فيها ولا مَوْعِظَةَ، وقال الفخْرُ الرازي: اشْتَرى النَضْرُ مِنْ الحِيرَةِ أَحاديثَ كَلِيلَةَ ودِمْنَةَ، وكانَ يَقْعُدُ مَعَ المُسْتَهْزِئينِ والمُقْتَسِمين وهو مِنهم فَيَقْرأُ عَليهم أَساطيرَ الأوَّلين. فلمّا سمِعَ القرآنَ الكريمَ يَقُصُّ أَخبارَ الأَنْبِياءِ والأُمَمِ السابقة قالَ: لَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ مِثْلَ هَذا. وقَدْ قَتَلَهُ النَبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، صَبْراً في جمْلةِ ثلاثةٍ مِنْ قُرَيْشٍ: عُقْبَةُ بْنُ أَبي مُعيطٍ، والمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ، والنَضْرُ بْنُ الحارِثِ وكانَ أَسيرَ المِقدادِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فلمّا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، بِقَتْلِ النَضْرِ قالَ المِقْدادُ: أَسِيري يا رَسُولَ اللهِ، فقالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اللَّهُمَّ أَعِنِ المِقْدَادَ))، فقال: هَذا أَرَدْتُ. وفِيهِ أَنْزَلَ اللهُ تَعالى الآيَةَ التي بَعْدَها.
وقد يكونُ "لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا" قولُ الذين ائْتَمَروا في شأنِ القرآنِ، ولو أنَّهم اسْتَطاعُوا ذلك ما تَأَخَّروا عَنْه أَبَداً، فقد تحدَّاهم اللهُ بِهِ، وقَرَعَ أَسماعَهم بِذَلكَ عَشْرَ سِنِينَ، فَلَم يُعارِضُوه، مَعَ أَنَفَتِهم وفَرْطِ اسْتِنْكافهم أَنْ يُغلَبوا، خصوصاً في بابِ البَيانِ, وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ ذلكَ.
وإنَّما اهْتَمُّوا بالقِصَصِ ولم يَتََبيّنُوا مَغْزاها ولا ما في القُرآنِ مِِنَ الآدابِ والحقائقِ، فلذلك قال الله تعالى عنهم {كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} الأنفال: 21. أيْ لا يَفقهون ما سمعوا.
قولُهُ: {إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} الأَساطيرُ الأَحاديثُ لا نِظامَ لها، والأَباطِيلُ، الواحدةُ أُسْطورَةٌ، بالضَمِّ، وإسْطارَةٌ بالكسر. والسَطْرُ: الصَفُّ مِنَ الشَيْءِ. يُقالُ: بَنى سَطْراً، وغَرَسَ سَطْراً. والسَطْرُ: الخَطُّ والكِتابَةُ. وجمعُ السَطْرِ أَسْطُرٌ وسُطورٌ. والسَطَرُ بالتحريكِ مثلُهُ. قالَ الشاعر الأموي الشهير جريرُ بْنُ عَطِيَّةَ الكلبي اليربوعي، التميمي:
مَنْ شاءَ بايَعْتُهُ مالي وخُِلْعَتَهُ .......... ما تُكْمِلُ التَيمُ في ديوانهم سَطَرا
والجمعُ أَسْطارٌ. قال رُؤْبَةُ بْنُ العَجَّاجِ:
إنِّ وأَسْطارٍ سُطِرْنَ سَطْراً .................. لَقائِلٌ يا نَصْرُ نَصْراً نَصْراً
ثمَّ يجمع على أَساطيرَ. وسَطَرَ يَسْطُرُ سَطْراً: كتب. واسْتَطَرَ مثلُه. وسَطَرَهُ، أي صَرَعَهُ. والمِسْطارُ، (بكسر الميم وبالصادِ أيضاً): ضربٌ من الشَرابِ فيهِ حموضَةٌ. والكلام على التشبيه، وأرادوا ما هذا إلا كقصص الأولين وحكاياتهم التي سطروها وليس كلام الله تعالى، وكأنه بيان لوجه قدرتهم على قولِ مثلِه لو شاءوا.
ومِنْ عَجيبِ بُهتانِهم أَنَّ الرَسولَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَحَدّاهم بمعارضة سُورة مِنَ القرآن، فعجزوا عن ذلك وأُفحِموا، ثمَّ اعتذروا بأنَّ ما في القُرآنِ أَساطيرُ الأَوَّلين وأَنهم قادرونَ على الإتيان بمثلِ ذلك. وهذا انْتِقالٌ إلى ذِكْرِ بُهتانٍ آخَرَ مِنْ حِجاجِ هؤلاءِ المُشْرِكين، فلم تَزَلْ آياتُ هذِهِ السُورَةِ يتخلَّلُها أخبارُ كُفْرِهم، مِنْ قولِهِ: {ويقطع دابرَ الكافرين} الأنفال: 7. وقولِهِ: {ذلك بأنهم شاقوا اللهَ ورَسُوله} الأنفال: 13. وقولِه: {فلَمْ تقتلوهم ولكن الله قتلهم} الأنفال: 17. وقوله: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} الأنفال: 21. ثم قوله: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} الأنفال: 30. وهذِهِ الجُمَلُ كلُّها عَطْفٌ على جملة: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فيهم خيراً لأَسمَعَهم} سورة الأَنفالِ، الآية: 23.
قولُهُ تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا} إذا: ظرفيَّةٌ شرطيَّةٌ، خافِضَةٌ لِشَرْطِها، مَعْمولَةٌ لِجَوابِها، أَيْ: قالوا وقتَ تِلاوَةِ الآياتِ: لو نشاء . . . إلخ.
قولُهُ: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} المخالفةُ بَين شَرْطِ "لو" وجوابها إذ جعلَ شرطها مضارعاً والجزاء ماضياً جرى على الاستعمال في "لو" غالباً، لأنها موضوعة للماضي فلزم أنْ يَكونَ أَحَدُ جزْأَيْ جملتها ماضياً، أو كلاهما. فإذا أريد التَفَنُّنُ خُولِفَ بَيْنَهُما، فالتَقديرُ: لو شِئْنا لَقُلْنا، ولا يَبْعد في مِثْلِ هذا التركيبِِ أَنْ يَكونَ احْتِباكاً قائماً مَقامَ شَرْطَيْنِ وجَزاءَيْن فإحْدَى الجملتين مُسْتَقْبَلَةٌ والأُخرى ماضيةٌ، فالتقديرُ لو نَشاءُ أنْ نَقولَ نَقُولُ، ولو شِئْنا القولَ في الماضي لَقُلْنا فيه، فذلك أَوْعَبُ للأزْمانِ، ويَكونُ هذا هُوَ الفَرْقُ بَين قولِه في سورة السجدةِ: {ولَوْ شئنا لآتينا كلَّ نفسٍ هُداها} الآية: 13. وقوله في سورة الرعدِ: {أَنْ لَو يَشاءُ اللهُ لَهَدى الناسَ جميعاً} الآية: 31. فهم لما قالوا: "لو نشاء لقلنا مثل هذا" ادَّعَوْا القُدرةَ على قولِ مثلِه في الماضي وفي المستقبلِ.