وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ
(182)
قولُه ـ جلَّ شأنُه: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} أيْ: المشركون الملحدونَ بأَسمائنا الكافرون بأنعمنا والذين لم تَنفَعْهم هِدايةُ الهادينَ، ككُفَّارِ مَكَّةِ وغَيرِهِمْ، سنَسوقُهم إلى الهلاكِ شيئًا فشيئًا. وذلك بأَنْ تتواترَ النِعَمُ عليهم، فيظنّوا أَنها لُطْفٌ مِنَ اللهِ بهم، فيَزْدادوا بَطَرًا وانهِماكًا في الغَيِّ، حتى تحِقَّ عليهم كلمةُ العذابِ عليهم. والاستدراج: التقريبُ منزلةً منزلةً، والأَخْذُ قَليلاً قليلاً، وهو مِنَ الدَّرَجِ لأنَّ الصاعِدَ يَرْقى دَرَجَةً دَرَجَةً وكذلك النازِلُ.
أخرج ابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشيخِ عَنِ السُدِّيِّ قولَه: "سنستدرجهم": (سَنَأْخُذُهم) و "مِنْ حَيْث لا يَعْلَمون" قال: هو عَذابُ يومِ بَدْرٍ.
وأَخرجَ أَبو الشَيْخِ عَنْ يَحيىَ بْنِ المُثنى قولَه في: "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" قال: كلَّما أَحدَثوا ذَنْباً جَدَّدْنا لهم نِعْمَةً تُنْسيهمُ الاسْتِغْفَارَ.
وأَخرجَ ابْنُ أَبي الدُنيا وأَبُو الشَيْخِ والبَيْهَقِيُّ في (الأسماءِ والصِفاتِ) عَنْ سُفيانَ الثوريِّ في قوله: "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" قال: نُسْبِغُ عَليهِمُ النِعَمَ ونَمْنَعُهم شُكْرَها.
وقالَ الكلبيُّ: نُزّيِّنُ لهم أَعمالهم فَنُهلِكُهم. وقالَ الضَحَّاكُ: كلَّما جَدَّدوا لَنا مَعْصِيَةً جَدَّدْنا لهم نِعْمَةً.
وقال الشَيْخ زَرّوقُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه: الاسْتِدْراجُ: هُوَ كُمُونُ المحنَةِ في عَينِ المِنَّةِ. فالاسْتِدْراجُ ليسَ خاصًّا بالكُفَّارِ، بَلْ يَكونُ في المؤمنين؛ خواصِّهم وعَوامِّهم. قال في الحِكَمِ: خَفْ مِنْ وُجودِ إِحْسانِهِ إليْكَ، ودوامِ إساءتِكَ مَعَهُ، أَنْ يَكونَ ذلك اسْتِدْراجًا لَكَ؛ وقال سَهْلٌ بْنُ عبدِ اللهِ التستُريُّ ـ رضيَ اللهُ عنْهُ: نُمِدُّهم بالنِعَمِ، ونُنْسيهمُ الشُكْرَ عليها، فإذا رَكَنُوا إلى النِعْمَةِ وحُجِبوا عَنِ المُنْعِمِ: أُخِذوا. وقالَ ابنُ عطاءٍ السكندريُّ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُ: كُلَّما أَحْدَثُوا خَطيئَةً جَدَّدْنا لهم نِعْمَةُ، وأَنْسَيْناهُمُ الاسْتِغفارَ مِنْ تِلْكَ الخَطيئَةِ. وقالَ الشَيْخُ ابْنُ عَبَّادٍ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُ: الخوفُ مِنَ الاسْتِدْراجِ بالنِعَمِ مِنْ صِفَةِ المؤمنين، وعَدَمُ الخوفِ مِنْهُ مَعَ الدوامِ على الإساءَةِ مِنْ صِفَةِ الكافرين. يُقالُ: مِنْ أَماراتِ الاسْتِدراجِ: رُكوبُ السَيِّئَةِ والاغْتِرارُ بِزَمَنِ المُهْلَةِ، وحمْلُ تَأْخيرِ العُقوبةِ على اسْتِحْقاقِ الوَصْلَةَ، وهذا مِنَ المَكْرِ الخَفِيِّ.
ويُقالُ: دَرَجَ الصبيُّ، إذا قارَبَ بَينَ خُطاهُ، ودَرَجَ القومُ: ماتَ بَعْضُهم إثْرَ بَعْضٍ.
وقيل: هو مأخوذ من الدَّرْج وهو الطيُّ ومِنْه: دَرَجَ الثوبَ: إذا طواه، ودَرَجَ الميتَ، مثلُه. والمعنى: تُطْوَى آجالهُم. وقالَ الخَليلُ بْنُ أَحمدَ الفراهيديُّ: سَنَطْوي، وإنَّ أَعْمارَهم في اغْترارٍ مِنْهم. وقالَ الخَليلُ بْنُ أَحمدَ الفراهيديُّ: سَنَطْوي، وإنَّ أَعْمارَهم في اغْترارٍ مِنْهم.
وقد استعملَ الأعْشى الاستدراجَ في مُطْلَقِ مَعْناهُ فقال:
فلو كنتَ في جُبٍّ ثمانين قامةً ........... ورُقِّيْتَ أسبابَ السماءِ بسُلَّمِلَيَسْتَدْرِجَنْكَ القولُ حتى تَهِرَّهُ ............ وتَعْلَمَ أنِّي عنكمُ غيرُ مُلْجَمِقولُه: {مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} أيْ: لا يَشْعُرونَ بذلك، وهُوَ أَنْ يُلْقي في أَوْهامِهم أَنَّهم على شيءٍ، ولَيْسُوا كَذلِكَ، يَسْتَدْرِجُهم في ذلك شيئًا فشيئًا، حتى يَأْخُذَهُم بَغْتَةً، كما قالَ تَعالى في سورة الأنعامِ: {فلما نَسُوا ما ذُكِّروا بِهِ}؛ إشارةً إلى مخالَفَتِهم وعِصْيانِهم، بَعدَما رَأَوْا مِنَ الشِدَّةِ، {فتحنا عليهم أبوابَ كلِّ شيْءٍ} أي: فَتَحْنا عَلَيْهم أَسْبابَ العوافي وأَبْوابَ الرفاهِيَةِ، {حتى إذا فرحوا بما أُوتوا} مِنَ الحُظوظِ الدُنْيَوِيَّةِ، ولم يَشْكُروا عَلَيْها بِرُجوعِهم مِنْها إليْنا، {أخذناهم بغتةً} أيْ: فجأةً، {فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} سورة الأنعَامِ الآية: 44؛ أيْ: آيِِسُونَ قانِطونَ مِنْ الرَحمةِ. وقد تقدمَ في هذا تفصيلٌ أكثر في محلِّهِ هناك.
قوله تعالى: {والذين كَذَّبُواْ} الذين: الأَظْهَرُ في هذا الموصولِ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ جُمْلَةُ سَنَسْتَدْرِجُهم. ويجوزُ أنْ يكونَ مَنصوباً على الاشتِغالِ بِفِعلٍ مُقَدَّرٍ والتقديرُ: سَنَسْتَدْرِجُ الذين كذَّبوا.
قولُهُ: {بآياتِنا} أَضافَ الآياتِ إلى ضَميرِ العَظَمَةِ لِتَشْريفِها واسْتِعْظامِ الإقدامِ على تَكْذيبِها.
قولُه: {سنستدرجهم} السين والتاء في فعل الاستدراج للطلب، أي طلب منه أن يَتَدَرَّجَ، والكلامُ تمثيلٌ لحالِ القاصِدِ إبْدالَ حالٍ إلى غيرِها بِدونِ إشعارِ صاحبها، وهو تمثيلٌ بَديعٌ يَشْتَمِلُ على تَشْبيهاتٍ كثيرةٍ فإنَّهُ مَبْنيٌّ على تَشبيهِ حُسْنِ الحالِ بِرِفْعَةِ المَكانِ، وضدِّهِ بِسَفالَةِ المكانِ، والقرينةُ تَعيينُ المَقصود من انتقال إلى حالٍ أَحْسَنَ أَوْ أَسْوأَ. وعُلِّقَ بِفْعْلِهِ مجرورٌ ب "مِنْ" الابتدائيَّةِ، أيْ: مُبْتَدِئاً اسْتَدراجَهم مِنْ مَكانٍ لا يَعلَمونَ أَنَّه مُفْضٍ بهم إلى المَبْلَغِ الضَارِّ.
قولُه: {من حيث لا يعلمون} والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بمُضْمَرٍ قُدِّرَ صِفَةً لمَصدرِ الفِعْلِ المَذكورِ، أيْ: سَنَسْتَدْرِجُهمُ اسْتِدْراجاً كائناً مِنْ حيثُ لا يَعلمون. ف "حَيْثُ" هُنا للمَكانِ عَلى أَصْلِها، أَيْ: مِنْ مَكان لا يَعْلَمونَ ما يُفْضي إليْهِ، وحُذِفُ مَفعولُ يَعلَمونَ لِدَلالَةِ الاسْتِدْراجِ عَلَيْهِ، والتَقْديرُ: لا يَعلمون تَدَرُّجَهُ، وهذا مُؤْذِنٌ بأنَّهُ اسْتِدْراجٌ عَظيمٌ لا يُظَنُّ بالمَفْعولِ بِهِ أَنْ يَتَفَطَّنَ لَهُ.
قرأ العامَّةُ: {سنستدرجُهم} بضمير المتكلِّمِ، وقرأَ النُخَعيُّ، وابْنُ وَثّابَ: "سَيَسْتَدْرِجُهم" بالياءِ، فيُحتَمَلُ أنْ يَكونَ الفاعلُ البارئَ تَعالى، فيكونَ الْتفاتاً مِنَ التَكَلُّمِ إلى الغيبةِ، ويحتملُ أنْ يَكونَ الفاعلُ ضميرَ التَكذيبِ المفهومَ مِنْ قولِهِ "كذَّبوا".