أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ
(49)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنُه: {أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ} إِشَارَةٌ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْفُقَرَاءِ، كَبِلَالٍ وَسَلْمَانَ وَخَبَّابٍ وَغَيْرِهِمْ، فهم المشارُ إليهم بهؤلاء. أمَّا "أقسمتم" فقالوا أنَّ الذين أَقْسَمَوا هُمْ أَهْلُ النَّارِ، أَقسَموا أَنَّ أَصحابَ الأَعْرافِ لا يَدْخُلونَ الجَنَّةَ، وإنَّما يَدْخلونَ النَّارَ، فتَقولُ لَهُمُ المَلائكةُ: "أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ"، وهذا القَسَم منهم يُحتَمَل أَنْ يَكونَ جرى في الدنيا، لأنَّ هؤلاءِ الكفّارُ كانوا يُقْسِمون بأَنَّ هؤلاءِ الفقراءَ مِنْ أَصْحابِ رسول اللهِ ـ صَلى اللهُ عليْهِ وعلى آلِهِ وصَحْبِه ـ لا يَدْخلون الجَنَّةَ، وهو كقولِ اللهِ تعالى على لسانِهم: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ}، لأنَّهم هم الذينَ نَالوا كُلَّ خَيْرٍ في الدُنيا ـ يَعنون أنفسهم ـ وبالتالي فهم مَنْ يَنالُ خيرَ الآخرةِ، غُروراً منهم أوقعهم فيه شيطانُهم، وعُجْبُهم بأنْفُسِهم، وهو كما لَبّسَ الشَيطانُ على اليَهودِ بِأنَّهم أَبْناءُ اللهِ وأَحباؤه لِيَتَمادَوْا في غيِّهم، ولِيَزدادوا ضلالاً على ضلالهم. ويُحتَمَلُ أَنْ يَكونَ قولُه: "ادْخُلُوا الْجَنَّةَ" هو خطابٌ لأهلِ الجَنَّةِ قبلَ أَنْ يَدخُلوها، و"أَقْسَمْتُمْ" فِي الدُّنْيَا. "لَا يَنالُهُمُ اللهُ" فِي الْآخِرَةِ. "بِرَحْمَةٍ"؟ وفيهِ توَبيخٌ للكُفارِ، لِيَزْدادوا غَمًّا وَحَسْرَةً.
وقال بعضُهم: إنَّ في قَولِهِ تعالى: "ادْخُلُوا الْجَنَّةَ" دَلالةٌ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ هم مَلَائِكَةٌ أَوْ أَنْبِيَاءُ، لأنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ إِخْبَارٌ عَنِ اللهِ تَعَالَى. وقالَ الحَسَنُ إنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ هُمُ الْمُذْنِبِونَ وقد كَانَ آخِرَ قَوْلِهِمْ لِأَصْحَابِ النَّارِ {وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ}، وَقال ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُما ـ إنَّ قولَهُ: "أَهؤُلاءِ الَّذِينَ" إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، هو مِنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى لِأَهْلِ النَّارِ تَوْبِيخًا لَهُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وقيل: هوَ مِنْ كَلامِ المَلائكةِ الْمُوَكَّلِينَ بِأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ، فَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ يَحْلِفُونَ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ يَدْخُلُونَ مَعَهُمُ النَّارَ فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لِأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ: "ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ". وقال أبو بكرٍ ابْنُ الأنباريِّ: "إنَّ قولَه: "أَهؤلاءِ الذين أَقْسَمْتم لا يَنالُهُمُ اللهُ برحمةٍ" مِنْ كلامِ أَصحابِ الأَعرافِ. وقولُهُ: "ادْخُلوا" مِنْ كلامِ اللهِ تعالى، وذلك على إضْمارِ قولٍ، أي: فقالَ لَهُمُ اللهُ: ادْخُلوهُ، ونَظيرُهُ قولُهُ سُبحانَه: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} سورةُ الشُعَراءِ: 35. فهذا مِنْ كلامِ المَلأِ، وقولُه: {فماذا تأمرون} مِنْ كلامِ فِرْعون، أيْ: فقال: {فماذا تَأمرون}.
وقوله: {لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} قيل: هذا تَمامُ كلامِ أَصْحابِ الأَعْرافِ، أيْ: قالوا للمُسْلِمين ادْخُلوا الجَنَّةَ، فقد انْتَفى عَنكمُ الخَوْفُ والحُزْنُ بَعْدَ الدُخول. قال حاتمٌ الأَصَمُّ: يَكونُ الحُزنُ في فَوْتِ كُلِّ مَحبوبِ، ويكونُ الخَوفُ في نيلِ كُلِّ مكروهٍ؛ كقَوْل نبيِّ اللهِ يَعقوبَ ـ عليه السلامُ: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وأَنْتُم عَنْه غافلون} سورة يوسف، الآية: 13. فذَكَرَ الحُزْنَ عِندَ فَوْتِ مَحْبُوبِهِ، وذكرَ الخوفَ عندَ حصولِ المَكْروهِ، ولكنْ عِنْدنا، الحُزنُ إنَّما يَكونُ بِفَوْتِ المَوْجُودِ مِنَ المَحْبوبِ، والخَوفُ بما سَيُصيبُهُ مِنْ المَكْروهِ.
قولُهُ تعالى: {أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ} الهمزة: للاسْتِفْهامِ، "ها" حرفُ تَنْبيهٍ، "أُولاءِ" اسْمُ إشارةٍ مَبْنِيٍّ على الكسرِ في مَحَلِّ رَفْعِ مُبْتَدَأٍ. "الذين" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ على الفتح في مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرٍ للمبتدأ "أولاء". وهذه الجملةُ استئنافيَّةٌ في حيِّز القول السابق، فليس لها محلٌّ منَ الإعراب. ويَجوزُ أَنْ تَكونَ في مَحلِّ نصبٍ بالقولِ المُتَقدِّمِ أي قالوا: ما أَغنى، وقالوا: "أَهؤلاءِ الذين".
قولُهُ: {أقسمتم} أقسم: فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السُكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ. والتاء: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ، والميم، للمذكَّرِ. وجملةُ "أقسمتم" من الفعل والفاعلِ، صلةُ الموصول "الذين" لا مَحَلَّ لها من الإعراب.
قولُهُ: {لا ينالُهُمُ اللهُ برحمةٍ} لا: حَرْفُ نَفْيٍ، "ينال" فعلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ، وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ، والهاء: ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مَفعولٍ به، والميمُ: للمذكَّر. "الله" لَفْظُ الجَلالَةِ فاعلٌ مَرْفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الضمَّةُ الظاهرةُ. "برحمة" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعَلِّقٌ بـ "يَنالُ" ، وهذه الجملةُ واقعةٌ جوابَ القَسَمِ فلا محلَّ لها من الإعرابِ كذلك.
قولُهُ: {ادخُلوا الجنَّةَ} ادخلوا: فعلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ على حذْفِ حَرْفِ النونِ لأنّهُ من الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ، والألف فارقةٌ. "الجنّةَ" مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، وعلامةُ نصبِهِ الفتحةُ الظاهرةُ. وهذه الجملةُ في محلِّ نصبِ مقولِ قوْلٍ مُقدّرٍ. أيْ: قال اللهُ لَهُم: ادْخُلوا الجَنَّةَ ... وجملة «القول المقدرّة في محلِّ رَفْعِ خبرٍ ثانٍ لاسْمِ الإشارةِ، أيْ: هؤلاءِ قالَ اللهُ لَهم ...
قولُهُ: {لا خوفٌ عليكم} لا: حرفُ نَفْيٍ مُهْمَلٍ، "خوفٌ" مُبْتَدَأٌ مَرْفوعٌ، وقد جاءَ المُبتَدأُ نَكِرَةً لأنَّهُ اعْتَمَدَ على نَفْيٍ. أوْ أنَّ "لا" عاملٌ عَمَلَ "ليس"، و"خوف" اسْمُهُ، و"عليكم" جارٌّ ومجرورٌ، مثل "عنكم" مُتَعَلِّقٌ بمَحذوفِ خَبَرٍ. وهذه الجملةُ في محلِّ نصبِ حالٍ مِنْ فاعِلِ "ادخلوا"، أي: أَدْخِلوا أَنْفُسَكم غيرَ خائفين، أو في محلِّ نَصْبٍ بِقولٍ مُقَدَّرٍ، وذلك القولُ مَنصوبٌ على الحالِ، أيْ: مقولاً لهم لا خَوْف.
قولُهُ: {ولا أنتم تحزنون} و: عاطفةٌ، "لا" زائدةٌ لِتَأْكيدِ النَفْيِ، "أنتم" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ في مَحَلِّ رَفْعِ مُبْتَدَأٍ، "تحزنون" مثل تستكبرون.
وقرأ الحَسَنُ وابْنُ سِيرينَ: "أَدْخِلوا الجَنَّةَ" أَمْراً مِنْ أَدْخَلَ وفيها تأويلان، أَحَدُهُما: أَنَّ المَأْمورَ بالإِدْخالِ الملائكةُ، أيْ: أَدْخِلوا يا ملائكةُ هَؤلاءِ. ثمَّ خَاطَبَ البَشَرَ بَعدَ خِطابِ المَلائكةِ فقالَ: "لا خوفٌ عليكم". والثاني: أَنَّ المأمورَ بذلكَ هُمْ أَهْلُ الأَعْرافِ، والتَقديرُ: أَدْخِلوا أَنْفُسَكم، فحذفَ المَفعولَ في الوَجْهيْن. ومِثلُ هذِه القِراءةِ هُنا قولُهُ تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ} سورة غافر، الآية: 46. إلاَّ أَنَّ المفعولَ هُناكَ مُصَرَّحٌ بِهِ في إحْدى القِراءتيْن. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: "دَخَلُوا الْجَنَّةَ" بِغَيْرِ أَلِفٍ وَالدَّالُ مَفْتُوحَةٌ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ "أُدْخِلُوا الْجَنَّةَ" بِكَسْرِ الْخَاءِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ.