وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
(47)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ} إنَّما يَصْرِفُ أَبْصارَهمُ اليومَ تَقديراً عَلَيْهِم عَظيمَ المِنَّةِ التي بِها نَجاتُهم، وما لاطَفَهم بِهِ مِنَ الإيواءِ والحِفْظِ. وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ، أَيْ جِهَةَ اللِّقَاءِ وَهِيَ جِهَةُ الْمُقَابَلَةِ. يَعني وإذا صُرِفَتْ أَبْصارُ أَصْحابِ الأَعْرافِ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّار أي مُواجَهَتَهم وحِيالَهم ـ لا عَنْ قَصْدٍ مِنْهم، لأنَّ المَكروهَ لا يَنْظُرُ إليْهِ الإنسانُ قَصْداً في العادة ـ فنَظَروا إليهم وإلى سَوادِ وُجوهِ أصحاب النارِ وما هُمْ فيهِ مِنَ العَذابِ قالُوا: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، يَعْني الذين ظَلَموا أَنْفُسَهم بالشِرْكِ، وقالَ ابْنُ عبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُما: إنَّ أَصحابَ الأَعْرافِ إذا نَظَروا لأَهْلِ النَّارِ وعَرَفوهم قالوا: "رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ القَوْمِ الظالِمين" والمَعنى أَنَّ أَصْحابَ الأَعْرافِ إذا نَظَروا إلى أَهْلِ النَّارِ وما هُمْ فيهِ مِنَ العَذابِ تَضَرَّعوا إلى اللهِ ـ تعالى ـ وسَأَلوهُ أَنْ لا يَجْعَلَهم منهم.
قولُهُ: {قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أَيْ أنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ سَأَلُوا اللهَ أَلَّا يَجْعَلَهُمْ مَعَهُمْ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَجْعَلُهُمْ مَعَهُمْ، فَيكونُ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّذَلُّلِ، وهو كَقُولِ أَهْلُ الْجَنَّةِ: {رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا} وَيَقُولُونَ: الْحَمْدُ للهِ. عَلَى سَبِيلِ الشُّكْرِ للهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ لَذَّةٌ. وفي وَصْفِهم بالظُلْمِ دون ما هُمْ عَلَيْهِ حِينَئذٍ مِنَ العَذابِ وسُوءِ الحالِ الذي هو المُوجِبُ للدُعاءِ إشْعارٌ بأنَّ المَحذورَ عندَهم ليس نفس العذاب فقط، بلْ ما يُؤدي إليه مِنَ الظُلْمِ. وفي الآيةِ على ما قيل إشارةٌ إلى أَنَّه ـ سُبحانَه ـ لا يَجِبُ عليهِ شيءٌ ـ وَزَعَمَ بعضُهم أَنَّهُ ليس المقصودُ فيها الدُعاءُ بَلْ مُجَرَّدُ اسِتِعْظامِ حالِ الظالمين.
قولُهُ تعالى: {وإذا صُرِفَتْ أبصارُهم تلقاءَ أصحابِ النَّارِ} و:الواوُ
حرفُ عَطفٍ، "إذا" ظَرْفٌ للزَمَنِ المُسْتَقْبَلِ مُتَضَمِّنٌ مَعْنى الشَرْطِ في مَحَلِّ نَصْبٍ مُتَعَلِّقٌ بالجوابِ "قالوا"، "صُرِفَتْ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ للمَجْهول، مرفوعٌ، وعلامةُ رفعه الضمٌّ الظاهرُ، والتاءُ للتَأنيث. "أبصارُ" نائبُ فاعلٍ مَرفوعٌ، وعلامةُ رفعه الضمَّةُ الظاهرةُ، وهو مضافٌ، و"هم" ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرِ مُضافٍ إليه. "تلقاءَ" ظَرْفُ مَكانٍ، مَنْصوبٌ متعلّق بـ "صُرِفتْ" وَلَمْ يَأْتِ مَصْدَرٌ عَلَى تِفْعَالٍ غَيْرَ: تِلْقَاءٌ وَتِبْيَانٌ وزلزال. وَالْبَاقِي بِالْفَتْحِ، مِثْلَ تَسْيَارٍ وَتَهْمَامٍ وَتَذْكَارٍ وتَرداد وتَكرار. وَأَمَّا الِاسْمُ بِالْكَسْرِ فِيهِ فَكَثِيرٌ، مِثْلَ تِقْصَارٍ وَتِمْثَالٍ وتِمْساحٍ. وقد اسْتُخْدِمَ ظَرْفاً، وهو مصدرٌ في الأصلِ، ثمَّ جُعِل دالاً على المَكانِ، أيْ: على جِهَةِ اللِّقاءِ والمُقابَلَةِ، وقد يُسْتَعْمَلُ مَصْدَراً. وجمعُه تلاقِيّ، لأنَّ تِلْقاءَ وزنه تِفْعال ك "تِمثال"، وتِمثال وبابُه يُجمَعُ على تَفاعيل، فالتقتِ الياءُ الزائدةُ مع الياءِ التي هي لامُ الكَلِمَةِ فأُدغِمتْ فصارت تَلاقِيَّ. و"أصحاب" مُضافٌ إليْهِ مَجْرورٌ، وعلامةُ جرِّهِ الكسرةُ الظاهرةُ، وهو مضافٌ أيضاً. "النارِ" مُضافٌ إليْهِ مَجرورٌ. وجُملَةُ "صُرِفَتْ" في مَحَلِّ جَرِّ بإضافةِ "إذا" الشرطيَّةِ إليهِ.
قولُهُ: {قالوا ربّنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين} قالوا: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بِواوِ الجَماعَةِ، وهِيَ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ في مَحَلِّ رَفْعِ فاعلِهِ، "ربّ" مُنَادى مُضافٌ مَنْصوبٌ حُذِفَتْ مِنْهُ أَداةُ النِداءِ، و"نا" ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليه. "لا" حَرْفُ نَهْيٍ وجزِمٍ، "تجعل" فعلٌ مُضارعٌ للدُعاء مَجزومٌ، و"نا" ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مفعولٍ بِهِ، والفاعلُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ وُجوباً تَقديرُهُ "أَنْتَ". "مع" ظَرْفُ مَكانٍ مضافٌ مَنْصوبٌ مُتَعلِّقٌ بـ "تجعل". و"القوم" مُضافٌ إليْهِ مَجرورٌ وعلامةُ جرِّهِ الكسرةُ الظاهرةُ. و"الظالمين" صفةُ "القوم" مجرورةٌ وعلامَةُ الجَرِّ الياءُ لأنَّه جمعٌ مذكَّرٌ سالمٌ والنونُ عِوَضاً عن التنوين في الاسمِ المُفردِ. وجُملةُ "قالوا" واقعةٌ جوابَ شَرْطٍ غيرِ جازِمٍ لا مَحَلَّ لَها من الإعراب. وجُملةُ "ربّنا لا تجعلنا" في مَحَلِّ نَصْبٍ مَقولَ القَوْلِ. وجملةُ "لا تجعلنا" جوابُ النداءِ فلا مَحلَّ لَها من الإعرابِ. ويمكنُ أنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ مفعولاً به.
وقد تقدَّم خلافُ القُرَّاءِ في نَحوِ "تلقاءَ أصحابِ" بالنسبة إلى إسقاطِ إحدى الهمزتين أوْ إثباتِها أوْ تَسْهيلِها في أَوائلِ البَقَرَةِ. ويجوز عندَ السبعةِ إثباتُ هَمْزَةِ "تلقاءَ" وهمزة "أصحاب" وحَذفُ الأولى وإثبات الثانية.
وقرأَ الأَعْمَشُ: "وإذا قُلِبَتْ" وهي مخالفةٌ للسَوَادِ الأعظمِ من القرَّاءِ، كقراءةِ: {لم يدخلوها وهم ساخطون} أو {وهم طامِعُون} على أنَّ هذِهِ أَقْرَبُ.