قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
(70)
قولُهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} هذه هي رسالتُه التي كان يُبَلِّغُهم إياها ويدعوهم إليها وهي عبادةُ اللهِ وَحْدَهُ وتَرك عبادة ما سِواهُ، وهي في الحقيقةِ رسالة الله إلى عباده التي حملَها الأنبياءُ والمُرسلون جَميعاً ـ عليهم الصلاةُ والسلام ـ وقد عَزَّ على المشركين في كلِّ أوانٍ ترك عبادة الأوثان التي كان يعبدها أباؤهم، وقد نُشِّؤوا على عبادتِها، وأصبحَ لها كُهَّان وسَدَنَةٌ، يَبْتَزّونَ الناسَ، ويَأْكُلونَ أَمْوالهم بالباطِلِ، وصارت إليهم الزعامةُ على الناسِ والرياسةُ، وإنَّ تَرْكَهم لِعِبادةِ هذِهِ الأَوْثانِ، واتِّباعَهُمُ المُرْسَلينَ سَيُفْقِدُهم هذه الامْتِيازات، ولذلك فإنَّ هؤلاءِ مع ثُلَّةٍ مِمَّنِ اسْتَخَفُّوهم مِنَ الأَتْباعِ وضَعَفاءِ العُقولِ هُمْ مَنْ قاوَمَ رِسالاتِ السماءِ على مَرِّ العُصورِ. وأكبرُ دليلٍ على سَفَهِ أحلامِهِم وضَعْفِ عُقولَهم أَنِ اسْتَعْظَموا اتِّباعَ الرُسُل لأنَّهم مِنَ البَشَرِ، وعَبَدوا الحَجَرَ والخَشَبَ والبَقَرَ.
وقولُهم "أجئتنا" يَحتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: الأوَّلُ أَنَّ هوداً ـ عليهِ السلامُ ـ كان يَتَحَنُّثُ في مَكانٍ بَعيدٍ عَنْهم، كَما كان يَفْعَلَ الأنبياءُ في الغالِبِ ومنهم نَبِيُّنا ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ـ فقدْ كانَ قَبْلَ البِعْثَةِ قَدِ انْقَطَعَ عَنْ قَوْمِهِ يَعْبُدُ اللهَ ويَتَفَكَّرُ في مَلَكوتِهِ مُنْفَرداً في غارِ حِراءَ، والمعنى الثاني المَجيءُ مِنَ السَماءِ، أَيْ: أَنَزَلْتَ عَلَيْنا مِنَ السَماءِ؟ ومُرادُهم التَهَكُّمُ والاسْتِهْزاءُ. وسببُهُ زَعْمُهُم أَنَّ المُرْسَلَ مِنَ اللهِ يجبُ أنْ يَكونَ مَلَكاً مِنَ ملائكةِ السَّماءِ، أَوْ أنَّ قولًهُم كانَ على سبيلِ المَجازِ فإنَّ العَرَبَ تَسْتَعْمِلُ: جاءَ، وقامَ، وقَعَدَ، وذَهَبَ، تصويراً للحالِ فتَقولُ: قَعَدَ يَفْعَلُ كَذا، وقامَ يَشْتُمُني، وقَعَدَ يَقْرَأُ عليَّ، وذَهَبَ يَسُبُّني، وهكذا. فَاسْتُعِيرَ فِعْلُ الْمَجِيءِ لِمَعْنَى الِاهْتِمَامِ وَالتَّحَفُّزِ، وَفِي الْقُرْآنِ، قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} سورةُ المدّثِّرِ، الآيتان: 1، 2. وَقَولُهُ حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى} سورةُ النازعات، الآيتان: 22، 23. وَفِرْعَوْنُ لَمْ يُفَارِقْ مَجْلِسَ مُلْكِهِ وَإِنَّمَا أُرِيدَ أَنَّهُ أَعْرَضَ وَاهْتَمَّ.
وقولُهُ: {فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} دليلٌ آخرُ على ضَعفِ عقولِهم وعَدَمِ تَقديرِهِم لِعَواقِبِ الأُمورِ، ولو تدبَّروا وتفكّروا وتبصَّروا لما سألوا عذابَ ربِّهم، ولا اسْتَعْجَلوهُ.
ثمَّ إنَّ قَوْلَهمْ: "فَأْتِنا" كان لِلتَّعْجِيزِ. وَالْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ حَقِيقَتُهُ أَنْ يَجِيءَ مُصَاحِبًا إِيَّاهُ، وَيُسْتَعْمَلَ مَجَازًا فِي الْإِحْضَارِ وَالْإِثْبَاتِ كَمَا هو الأمرُ هُنَا. وَالْمَعْنَى فَعَجِّلْ لَنَا مَا تَعِدُنَا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، أَوْ فَحَقِّقْ لَنَا مَا زَعَمْتَ مِنْ وَعِيدٍ. وَنَظِيرُهُ الْفِعْلُ الْمُشْتَقُّ مِنَ الْمَجِيءِ في مِثْلِ قولِهِ: {مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ} سورةُ هُود، الآية: 53. و قولِه: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} سورة الْبَقَرَة، الآية: 71. وَقد أَسْنَدُوا الْفِعْلَ إِلَى ضَمِيرِهِ تَعْرِيضًا بِأَنَّ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ هُوَ شَيْءٌ مِنْ مُخْتَلَقَاتِهِ وَلَيْسَ مِنْ قِبَلِ اللهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مِنْهُمُ الْإِقْلَاعَ عَنْ عِبَادَةِ آلِهَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا تَتَعَلَّقُ إِرَادَتُهُ بِطَلَبِ الضَّلَالِ فِي زَعْمِهِمْ. وَالْوَعْدُ الَّذِي أَرَادُوهُ وَعْدٌ بِالشَّرِّ، وَهُوَ الْوَعِيدُ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ تَوَعَّدَهُمْ بِسُوءٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَعِيدًا ضِمْنِيًّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: {أَفَلا تَتَّقُونَ} الْأَعْرَاف: 65. لِأَنَّ إِنْكَارَهُ عَلَيْهِمِ انْتِفَاءَ الِاتِّقَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ثَمَّةَ مَا يُحَذَّرُ مِنْهُ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُعَيِّنُوا وَعِيدًا فِي كَلَامِهِمْ بَلْ أَبْهَمُوهُ بِقَوْلِهِمْ: "بِما تَعِدُنا"، وَعَقَّبُوا كَلَامَهُمْ بِالشَّرْطِ فَقَالُوا: "إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ" اسْتِقْصَاءً لِمَقْدِرَتِهِ ولِإِظْهَارِ عَجْزِهِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْعَذَابِ.
قولُهُ تعالى: {قالوا} قالوا: فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الضَمِّ لاتِّصالِه بواوِ الجماعة، والواوُ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفع فاعل. هذه الجملةُ استئنافٌ بيانيٌّ لا محلَّ لها من الإعرابِ.
قولُه: {أجِئْتَنا} الهمزة: للاسْتِفهامِ الإنْكارِيِّ؟، "جئت" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السُكونِ لاتصالِهِ بضمير رفعٍ متحرِّك، والتاءُ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفع فاعلِه، و"نا" ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مفعولِه. وهذه الجملةُ في محلِّ نصبِ مَقولِ القولِ.
قولُهُ: {لنعبُد اللهَ وحدَهُ} اللام: للتَعليلِ، "نَعْبُدَ" فعلٌ مُضارِعٌ منصوبٌ بـ "أنْ" مضمرةٍ بعدَ اللامِ، وعلامةُ نصبِه الفتحةُ الظاهرةُعلى آخرِه، وفاعلُه ضميرٌ مستترٌ وجوباً تقديرُه "نحن". "الله" لَفظُ الجَلالةِ مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، وعلامةُ نصبِهِ الفتحةُ الظاهرة. "وحده" وحدَ: حالٌ مِن لَفْظِ الجَلالةِ مَنْصوبةٌ، وعلامةُ النصبِ فتحةٌ ظاهرةٌ على آخره، وهو مضافٌ والهاء: ضميرٌ متّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليه. والمَصْدَرُ المُؤوَّلُ من "أن نعبد" في مَحَلِّ جَرٍّ باللامِ مُتَعَلِّقٌ بـ "جئتَنا". والتقديرُ: "أجئتنا لِعبادَةِ اللهِ وحدَهُ". وهذه الجملةُ صلةُ الموصولِ الحرفيِّ (أنْ المضمرة) لا محلَّ لها من الإعرابِ.
قولُهُ: {وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا} و: حرفُ عطفٍ، "نَذَرَ" فعلٌ مُضارعٌ مَنصوبٌ عطفاً على "نَعْبُدَ"، والفاعلُ ضميرٌ مستترٌ تقديرُه "نَحن"، "ما" اسمٌ موصولٌ مَبْنِيٌّ في مَحَلِّ نَصْبِ مَفعولٍ بِهِ. "كان" فِعْلٌ ماضٍ ناقصٌ من النواسخ، واسْمُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ تَقديرُهُ "هو" يَعودُ على آباءِ، وقد تَنازَعَ على لَفْظِ "آباء" الفِعلان: (كان، يعبد)، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ اسْمَ "كان" لَفظُ "آباؤنا". "يَعْبُدُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الضمَّةُ الظاهرةُ، ومفعولُهُ مَحذوفٌ، أيْ: يَعْبُدُهُ. "آباءُ" فاعلُ "يعبد" مَرفوعٌ وهو مضافٌ، و"نا" ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليْهِ. وجُملةُ "نذر" معطوفةٌ على جُملَةِ صِلَةِ المَوْصولِ الحَرْفيِّ ف لا مَحَلَّ لها أيضاً. وجملةُ "كان" صلةُ المَوْصولِ "ما" لا محلّ لها من الإعراب. وجملةُ "يَعْبُدُ آباؤنا" في مَحَلِّ نَصْبِ خَبَرِ كان.
قولُه: {فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} الفاءُ: رابطةٌ لِجَوابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، "ائْتِ" فعلُ أَمْرٍ مبني على حذفِ حرف العلَّةِ من آخره لأنّ أصلَه من أتى يأتي، والفاعلُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ تقديرُه "أنت" و"نا" ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مفعولٍ به. و"بما" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ، "ما" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ في مَحَلِّ جَرٍّ بحرف الجرِّ مُتعلِّقٌ بـ "ائت". "تَعِدُ" فعلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ، وعلامةُ رفعهِ ضمَّةٌ ظاهرةٌ على آخره، والفاعلُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ تقديرُهُ "أنت"، و"نا" ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مفعولٍ بِهِ. "إن" حَرْفُ شَرْطٍ جازِمٍ، "كنتَ" فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ من النواسخ، مَبْنِيٌّ على السُكونِ في مَحَلِّ جَزْمِ فِعْلِ الشَرْطِ، و"التاءُ" ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ اسمها. "من الصادقين" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعلِّقٌ بمحذوفِ خَبَرِ كُنْتَ. وجُمْلَةُ "ائتنا" في مَحَلِّ جَزْمِ جَوابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ أيْ: إنْ كنتَ صادقاً بِما تَقولُ فأْتِنا. وجملةُ "تَعِدُنا" صلة الموصول الثاني "ما" لا مَحلَّ لَها مِنَ الإعرابِ. وجُملةُ: "كنت من الصادقين" اسْتِئْنافِيَّةٌ لا مَحَلَّ لَها من الإعرابِ.