[size=29.3333]وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ [/size]
[size=29.3333](9)[/size]
[size=29.3333]قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنًهُ: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ} أيْ عَلَتْ كَفَّةُ أَعْمالِهِمْ لِخِفَّتِها، بسبب تَضييعِ فِطرةِ الإسلامِ التي ما مِنْ مَوْلودٍ إلاَّ يُولَدُ عَلَيْها، أوْ بتضييعِ فِطْرَةِ الخيرِ الذي هو أَصلُ الجِبِلَّةِ. وظاهرُ النَظْمِ الكَريمِ أنَّ الوزنَ ليس مُخْتَصّاً بالمُسلِمين، بَلْ الكُفَّارُ أَيضاً تُوزَنُ أَعْمالُهم، و ذَهَبَ بعضهم. إلى أنَّ الصَحيحَ أَنَّه يُخَفَّفُ بها عذابهم وإن لم تكن راجحةً كما وَرَدَ في حَقِّ أَبي طالِبٍ. وذَهَبٌ الكثيرُ إلى أَنَّ الوَزْنَ مُخْتَصٌّ بالمُسْلِمين. وأَمَّا الكُفَّارُ فَتُحْبَطُ أَعْمالُهم كيفما كانَتْ، وقد تقدم لنا إيضاح هذا، وهو أَحَدُ الوجهين في قولِه تعالى: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} الكهف: 105. ولا يُخَفَّفُ بها عنهم مِنَ العذابِ شيءٌ، وما وَرَدَ مِنَ تَّخفيفِ العذاب عَنْ أَبي طالبٍ، أو أبي لهبٍ، فإنَّ المُعْتَمَدَ أَنَّهُ خْاصٌّ بِهِما، وعلى هذا فلا بُدَّ مِنِ ارْتكابِ خلافِ الظاهرِ في الآيَةِ، وهي على كِلا التَقديريْنِ ساكتةٌ عن بَيانِ حالِ مَنْ تَساوَتْ حَسَناتُه وسَيِّئاتُه، وهُمْ أَهْلُ الأَعْرافِ على قولٍ. ومِنْ هُنا اسْتَدَلَّ بها بعضُهم على عدمِ وُجودِ هذا القِسْمِ، ورُدَّ بأنّه قد يُدْرَجُ في القِسْمِ الأَوَّلِ لِقولِه ـ سبحانَه: {خَلَطُواْ عَمَلاً صالحا وَآخَرَ سَيِّئاً *عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} التوبة: 102. وعسى من الله تعالى تحقيقٌ كما صَرَّحُوا بِهِ، وفيه نظر.[/size]
[size=29.3333]وجاء في خبرٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي الدُنيا والنُمَيْرِيُّ عنْ عبدِ اللهِ أيْضاً قال: إنَّ لآدمَ ـ عليه السلامُ ـ مِنَ اللهِ ـ عزَّ وجَلَّ ـ موقفاً في فُسَحٍ مِنَ العَرْشِ عَلَيْهِ ثوبان أَخضران كأنَّهُ نَخْلةٌ سَحُوقٌ يَنْظُرُ إلى مَنْ يُنْطَلَقُ بِهِ مِنْ وَلَدِهِ إلى الجَنَّةِ، ومَنْ يُنْطَلَقُ بِهِ إلى النارِ. فبَيْنا آدمُ على ذلكَ إذْ نَظَرَ إلى رَجُلٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ يُنطَلَقُ بِهِ إلى النارِ، فيُنادي آدمً ـ عليه السلامُ ـ يا أحمدُ يا أَحمدُ، فيقولُ عليْه الصلاةُ والسَلامُ: لَبَيْكَ يا أَبا البَشَرِ، فيقولُ: هذا رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِكَ يُنْطَلَقُ بِهِ إلى النّارِ. قال ـ صلى الله عليه وسلَّم: فأَشُدُّ المِئْزَرَ، وأُسْرِعُ في أَثَرِ المَلائكةِ فأَقولُ: يا رُسُلَ رَبِّي قِفوا، فيقولون. نحنُ الغِلاظُ الشِدادُ الذين لا نَعْصي اللهَ ـ تعالى ـ ما أَمَرَنا ونَفْعَلُ ما نُؤمَرُ، فإذا أَيِسَ النَبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ قَبَضَ على لِحْيَتِهِ بِيَدِهِ اليُسْرى، واسْتَقْبَلَ العَرْشَ بِوَجْهِهِ، فيقول: يا رَبِّ قد وعَدْتَني أَنْ لا تُخْزِيني في أُمَّتي، فيأتي النِداءُ مِنْ قِبَلِ العَرْشِ: أَطِيعوا مُحَمَّداً، ورُدّوا هذا العَبْدَ إلى المَقامِ. فيُخْرِجُ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ بطاقةً بَيْضاءَ كالأُنْمُلَةِ فَيُلْقيها في كَفَّةِ المِيزانِ اليُمْنى وهو يَقولُ: بِسْمِ اللهِ، فتَرْجَحُ الحَسَناتُ على السيِّئاتِ، فيُنادي المُنادي: سَعُدَ وسَعُدَ جدُّه، وثَقُلَتْ مَوازينُهُ، انْطَلِقوا بِهِ إلى الجَنَّةِ، فيَقولُ: يا رُسُلَ رَبّي: قِفُوا حتّى أَسْأَلَ هذا العَبْدَ الكَريمَ على رَبِّه، فيَقول: بأبي أَنْتَ وأُمّي ما أَحْسَنَ وجْهِكَ وأَحْسَنَ خَلْقِكَ مَنْ أَنْتَ؟ فقدْ أَقَلْتَني عَثْرَتي ورَحِمْتَ عَبْرَتي، فيَقولُ ـ عليهِ الصلاةُ والسّلامُ. أَنَا نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ، وهذِه صَلاتُكَ التي كُنْتَ تُصَلِّي عليَّ وفَيْتُكَها أَحْوَجَ ما تَكونُ إليها. ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. وَذَكَرَ أَنَّ الْبِطَاقَةَ (بِكَسْرِ الْبَاءِ) رُقْعَةٌ فِيهَا رَقْمُ الْمَتَاعِ بِلُغَةِ. أَهْلِ مِصْرَ. وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: الْبِطَاقَةُ الرُّقْعَةُ، وَأَهْلُ مِصْرَ يَقُولُونَ لِلرُّقْعَةِ بِطَاقَةٌ.[/size]
[size=29.3333]ولَعَلَّ فعلَ مِثْلِ هذا إذا صَحَّ الخَبَرُ مُبالَغَةٌ في إظهارِ كَرامَةِ النَبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ على ربِّه ـ عزَّ وجَلَّ ـ بين الأوَّلينَ والآخِرين. [/size]
[size=29.3333] قولُه: {فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} كما أنَّ الفريق الأوَّل الذين ذكروا في الآية السابقةِ لهذه الآيةِ، أَفْلحوا في الآخِرَةِ ونَجَحوا بالنجاةِ مِنْ غَضَبِ اللهِ ـ تعالى ـ ودُخولِ جَنَّتِه لِثِقَلِ مِيزانِ حَسناتِهم، فإنَّ هؤلاءِ الذين خفّتْ موازينُ حَسَناتِهم، فرَجَحتْ سَيِّئاتُهمُ، خَسِروا الجَنَّةَ، وعُوقِبوا بِدُخولِ النَّارِ فخَسِروا الخُسْرانَ المُبينَ الذي لا رِبْحَ بَعْدَهُ ولا فَلاحَ. قالَ أَهلُ التأْويلِ: "فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ)، أي: غُبِنوا؛ ذلك لأنَّهُ ما مِنْ أَحَدٍ، مُؤمِنٍ أو كافِرٍ إلاَّ ولَهُ في الجَنَّةِ منزلٌ وأَهْلٌ، وله في النارِ منزلٌ وأهلٌ، فَيَرِثُ المؤمنُ المَنْزِلَ الذي كانَ للكافِرِ في الجَنَّةِ، ويَرِثُ الكافِرُ المَنزلَ الذي للمُؤمِنِ في النارِ؛ فذلك هو الخُسْرانُ، لكنْ من غير المحتمل أنْ يَجعلَ اللهُ للكافِرِ في الجَنَّةِ مَنْزِلًا وأهلًا لسابق عِلْمِهِ بأنَّهُ لا يُؤمِنُ، ويُحْتَمَلُ أن يكونَ الخُسْرانُ الذي ذُكِرَ هُوَ أَنَّهم خَسِروا في الدنيا والآخِرَةِ لِما فاتَهم من النِعَمِ التي كانتْ لَهم في الدُنْيا، ولَم يَصِلوا إلى نَعيمِ الآخِرَةِ، فذَلِكَ هُوَ الخُسْرانُ المُبينُ في الدنيا والآخرة. [/size]
[size=29.3333]قوله تعالى: {بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ} بما: متعلق بخسروا، وما مصدريَّةٌ، و"بآياتِنا" متعلِّقٌ بـ "يُظْلَمون"؛ وقُدِّمَ عليْهِ لمراعاة الفواصلِ، وعدَّى الظُلْمَ بالباءِ لِتَضَمُّنِهِ معنى التَكذيبِ أوْ الجُحودِ، والجَمْعُ بيْن صِيغَتَيْ الماضي والمُضارِعِ للدَّلالَةِ على اسْتِمرارِهم بالظُلْمِ في الدُنْيا وبقائهم عليه. [/size]