إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ
(81)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنُه: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ} هو بيانٌ لقوله: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وهو أبلغ إنْكاراً وأشدُّ توبيخاً منه ـ عليه السلامُ ـ لقومِهِ، والمعنى: إنَّكم إيُّها القَوْمُ المَمْسوخون فى طَبائِعِكم، حيثُ تَأْتونَ الرِّجالَ الذين خَلَقَهُمُ اللهُ لِيَأْتوا النِّساءَ، ولا حاملَ لَكمْ على ذَلكَ إلَّا مُجَرَّدُ الشَهْوَةِ الخَبيثَةِ القَذِرَةِ. والإتيانُ: كِنايَةٌ عَنِ الاسْتِمتاعِ والجِماعِ. وهو مِنْ أَتى المَرأَةَ إذا غَشِيَها. وفي ذكرِ "الرجال" دون الغِلْمانِ والمُرْدانِ ونَحْوَهُما، مُبالَغَةٌ في التَوبيخِ والتَقْريعِ والتشنيعِ عليهم.
وقولُهُ: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} أيْ: مجافونَ أوامرَ اللهِ تعالى مَتَجاوزون لِحدودِهِ، لأنكم إنَّما تضعون الشهوة في غير مكانها المناسبِ فإنَّ اللهَ غرسها فيكم لتجامِعوا النِساءِ وتُنْجِبوا الأولادَ والذريَّةَ فتعمروا الأرضَ حَسْبَما أَرادَ اللهُ خالِقُكم ومولاكم. وأفادَ قولُهُ: "بل" الإضرابَ عَنِ الإنْكارِ والتَوبيخِ إلى الإخْبَارِ عَنْ حالِهِمُ التي أَدَّتْ بِهم إلى ارْتِكابِ هذِهِ المَعْصيةِ وأَمْثالِها، فقد اعْتَادُوا الإسْرافَ في كُلِّ شيءٍ حتّى أَضحى لَهم طَبْعاً وتَحَقَّقَ بِهم وصْفاً، فتَجاوزوا الحَدَّ في كلِّ شَيْءٍ.
قولُهُ تعالى: {إنَّكم لَتَأْتونَ الرجالَ شَهْوةً مِنْ دونِ النِّساءِ} "إنَّكم" إنّ: حَرْفٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ ـ من النواسخ ـ والكاف: ضميرٌ متَّصلٌ في مَحَلِّ نَصْبِ اسْمِ "إنّ" والميمُ علامة جمع الذكور. "لَتَأْتونَ" اللامُ: المُزَحْلَقَةِ للتوكيدِ و"تأتونَ" فعلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ، وعلامةُ رفعهِ ثبوتُ النونِ في آخره لأنَّه من الأفعال الخمسةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ. {الرجالَ} مَفْعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ به وعلامة نصبِهِ الفتحةُ الظاهرة على آخره. "شهوةً" مَفْعولٌ لأجْلِهِ مَنْصوبٌ، وعلامةُ نصبِه الفتحُ الظاهرُ على آخره، أوْ هو مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحَالِ، أيْ مُشْتَهينَ، وإذا قُدِّرَ "تأتون" بمعنى "تشتهون" فيَكونُ "شهوة" مَفْعولاً عَنِ المَصْدَرِ، فهوَ اسْمُ مَصْدَرٍ. "من دونِ" جارٌّ ومَجرورٌ في مَحَلِّ نَصْبِ حالٍ مِنَ الرِّجالِ أيْ مُتَجاوَزين بِفَتْح الواوِ، أوْ مِنَ الفاعِلِ أيْ مُتَجاوِزينَ بِكَسْرِ الواوِ، ويمكن أنْ يكونَ المتَعَلَقُ صِفَةً لـ "شهوةً" والتقدير: شهوةً كائنةً من دونِ النَّساءِ، ويقالُ: شَهِيَ يَشْهى شَهْوة، وشَها يَشْهو شهوةً قال الشاعر:
وأَشْعَثَ يَشْهى النومَ قلت له ارتحِلْ...إذا ما النجومُ أعرضَتْ واسْبَكَرَّتِ
وقد تقدَّم ذلك في سورة آلِ عمران. و"دون" مضافٌ. "النساءِ" مَضافٌ إليهِ مَجْرورٌ. جملةُ "إنّكم" استئنافٌ بيانيٌّ فلا محلَّ لها من الإعراب. وجملة "تأتون" في مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرِ "إنّ".
قولُهُ: {بل أنتم قومٌ مسرفون} بل: حرْفُ ابْتِداءٍ وإضْرابٍ إضرابَ انْتِقالٍ مِنْ قِصَّةٍ إلى قِصَّةٍ، إمَّا عنْ مَذكورٍ، وهو الإِخبارُ بِتَجاوُزِهِمْ الحَدَّ بهذه الفاحشةِ، أوْ هو انتقالٌ عنْ تَوبيخِهم وتقريعِهم والإِنْكارِ عليهم. أو هو للإِضْرابِ عَنْ شيءٍ مَحْذوفٍ، قدَّرَهُ بعضهم بـ (ما عَدَلْتُم بَلْ أَنْتُم قومٌ مسرفون). وقيل التقديرُ: (لا عُذْرَ لَكم بَلْ أنتم قومٌ مسرفون). "أنتم" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ فِي مَحَلِّ رَفْعِ مُبْتَدَأٍ. "قومٌ" خَبَرُهُ مَرفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ ظاهرةٌ على آخره. "مسرفون" نَعْتُ "قَوم" مَرْفُوعٌ مثله وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأنَّه جمعٌ سالمٌ. وجاء هُنا بِصِفَةِ القومِ اسْمَ فاعلٍ "مُسْرفون)؛ لأنَّه أَدَلُّ على ثُبوتِهم في الإسْرافِ، مِنْ جهةٍ، ولِمُوافَقَةِ رُؤوسِ الآيِ، من جهةٍ أخرى، فإنَّها هنا أَسْماءٌ. أمَّا في سورة النَمْلِ فقد قالَ {تَجْهَلُون} دَلالةً على أَنَّ جَهْلَهم يَتَجَدَّدُ كُلَّ وَقْتٍ ولِمُوافَقَةِ رُؤوسِ الآيِ هناك فإنَّها جاءت هناك أَفعالٌ. وهذه الجُملةُ استئنافيَّةٌ لا مَحَلَّ لَها من الإعراب.
قَرَأَ الجُمهورُ: "أَئِنَّكم" بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى لَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَحَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا قبلَهُ وبَعْدَهُ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ.
وقَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ "إِنَّكُمْ" عَلَى الْخَبَرِ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مَكْسُورَةٍ، تَفْسِيرًا لِلْفَاحِشَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَلَمْ يَحْسُنْ إِدْخَالُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ مَا بَعْدَهُ مِمَّا قَبْلَهُ. وَاخْتَارَه أَبُو عُبَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وغيرُهما، واحْتَجُّوا بقولِهِ تعالى سورةِ الأنبياء: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ} الآية: 34. وَلَمْ يَقُلْ أَفَهُمْ. وَقَالَ في سورة آلِ عمران: {أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ} الآية: 144. وَلَمْ يَقُلْ أَنْقَلَبْتُمْ. وَهَذَا منهما غَلَطٌ فاحشٌ لِأَنَّهُمَا شَبَّهَا شَيْئَيْنِ بِمَا لَا يَشْتَبِهَانِ، لأنَّ الشَرْطَ وجوابُهُ بِمَنْزِلَةِ شيءٍ وَاحِدٍ كَالْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا اسْتِفْهَامَانِ. فَلَا يَجُوزُ: أَفَإِنْ مِتَّ أَفَهُمْ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَزَيْدٌ أَمُنْطَلِقٌ. وَقِصَّةُ لُوطٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ فِيهَا جُمْلَتَانِ، فَلَكَ أَنْ تَسْتَفْهِمَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. وهَذَا قولُ سيبويْهِ، وقَوْلُ الْخَلِيلِ ابنِ أحمدٍ الفراهيديِّ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ وَمَكِّيٌّ وَغَيْرُهُمَا.
المزاج
الإثنين مايو 19, 2014 10:35 am