أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ
(68)
قولُهُ ـ جَلَّ شأنُه: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي} هي وظيفتُه ووظيفةُ سِواهُ مِنَ المُرْسَلين، ـ صلواتُ اللهِ وسَلامُهُ عليهم أَجْمعين ـ التَبْليغُ عن ربِّ العالمين رسالاتِهِ أيْ إرشاداتِه وتوجيهاته وشرائعه وأحكامه وتعاليمه، ونظامه الذي ارتضاه لهم لأنَّ فيه مصلحتهم في الدنيا والأخرى، وهو العليم به لأنه هو الذي خلقهم، ليسيرَ الخلق على هداهُ في كلِّ الأمورِ.
قولُهُ: {وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ} وأنا ناصح لكم في كلِّ ما آمُرُكم بِهِ مِنْ عِبادةِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَ ـ أَمِينٌ على تَبْليغِ الرِسالةِ وأَداءَ الأمانةِ أَمانَةِ النُصْحِ، والأمينُ الموثوقُ به على ما ائتُمِنَ عليه.
وَالْأَمَانَةُ حَالَةٌ فِي الْإِنْسَانِ تَبْعَثُهُ عَلَى حِفْظِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حَقٍّ لِغَيْرِهِ، وَتَمْنَعُهُ مِنْ إِضَاعَتِهِ، أَوْ جَعْلِهِ لِنَفْعِ نَفْسِهِ، وَضِدُّهَا الْخِيَانَةُ. وَهي مِنْ أَسمى أَوْصَافِ الْبَشَرِ، وخلقٌ كريمٌ من أَخْلَاقِ الْمُسْلِمِ، وَفِي صحيح ابْنِ خزيمَة ومسندِ أحمد وغيرُهما من أئمَّةِ الحديثِ عن أنسٍ بنِ مالكٍ ـ رضي الله تعالى عنهم: ((لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَ لَهُ، ولا دينَ لِمَنْ لا عهدَ لَهُ)). الجامع الكبير للسيوطي: (1 / 17642). وَوأخرج الشيخان عن حذيفةَ بْنِ اليماني ـ رضي اللهُ عنه ـ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ: حَدَّثَنَا: ((أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ)) وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ: ((يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ المَجْلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ)) وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَيَّ الإِسْلاَمُ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ، فَأَمَّا اليَوْمَ: فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلَّا فُلاَنًا وَفُلاَنًا. صحيح البخاري (8/ 104). فَذَكَرَ الْإِيمَانَ فِي مَوْضِعِ الْأَمَانَةِ. وَالْكَذِبُ مِنَ الْخِيَانَةِ، وَالصِّدْقُ مِنَ الْأَمَانَةِ، لِأَنَّ الْكَذِبَ الْخَبَرُ بِأَمْرٍ غَيْرِ وَاقِعٍ فِي صُورَةٍ تُوهِمُ السَّامِعَ وَاقِعٌ، فَذَلِكَ خِيَانَةٌ لِلسَّامِعِ، وَالصِّدْقُ إِبْلَاغُ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ كَمَا هُوَ فَهُوَ أَدَاءٌ لِأَمَانَةِ مَا عَلِمَهُ الْمُخْبِرُ، فَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ أَمِينٌ وَصْفٌ يَجْمَعُ الصِّفَاتِ الَّتِي تَجْعَلُهُ بِمَحَلِّ الثِّقَةِ مِنْ قَوْمِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ إِبْطَالُ كَوْنِهِ مِنَ الْكَاذِبِينَ. وإنَّما قال هودٌ: "وأنَا لكم ناصِحٌ أَمينٌ" فمَدَحَ ـ عليه السلامُ ـ نفسَه بأعظمِ صِفاتِ المدْحِ، مع أنَّه من غيرِ اللائقٍ بالعقلاءِ مدحُ أنفُسهم، لأنَّهُ كان يَجِبُ عليهِ إعلامُ قومِهِ بذلِكَ حتَّى يَثِقوا بِهِ، ويَتَّبعوا دِعْوَتَهُ، لمّا قالوا لَهُ: {وإنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين} فَردَّ التهمةَ عن نفسِهِ، ووَصَفَ نَفْسَهُ بأنَّه أمينٌ في تبليغِ ما أُرْسِلَ بِهِ مِنْ عندِ اللهِ، وفي ذلك تقريرٌ للنبوّةِ والرِسالةِ، وفيه أيضاً دليلٌ على جَوازِ مَدْحِ المرءِ نَفْسَه عندَ الضَرورةِ. وقدْ فعَلَهُ غيرُه مِنَ الأنْبياءِ، عندما دَعَتِ الضرورةُ، وإنَّما يكون ذلك منهم ـ عليهمُ الصلاةُ والسلامُ ـ تحدُّثاً بنعمةِ اللهِ حالَ شهودِهم نِعْمَةَ اللهِ وفَضْلَه عليهم، أنْ جَعَلَهم يَمشونَ في الناسِ بما أَلْبَسَهم مِنْ نفيسِ اللباسٍ، وما خلعَ عليهم مِنْ حُلَلِ الكَمالِ وما زيّنهم به من مَكارمِ الأخلاقِ، وهو داخلٌ تحتَ قولِهِ ـ تعالى ـ في آخرِ سورةِ "الضحى": {وأَمّا بِنِعْمَةِ ربِّكَ فحدِّثْ} وهو معنىً مِنْ مَعانيها، كما نصَّ العلماءُ على أنّه جائزٌ لِغَيْرِهم مِنَ المُؤنين، ولَسَوفَ نتحدَّثُ عن ذلك بالتفصيلِ إن بلَّغنا اللهُ ذلك، وقد أَجازوهُ بِشَرْطِ أَلاَّ يكونَ فيهِ أَيُّ حَظٍ مِنْ حُظوظِ النَفْسِ، وإنَّما هو شهودٌ مَحْضٌ لِفَضْلِ اللهِ عَلَيْهم وتَحَدُّثاً بنعمتِهِ ـ سبحانَّهُ وتعالى ـ فإنَّ الفضلَ كلَّهُ للهِ. وقد أَكْرَمَني اللهُ، بهذا الشُهودِ وتفضَّلَ عليَّ بهذه المؤانَسَةِ ساعةَ قُلْتُ:
أوليتني الفضلَّ لا عَدٌّ ولا حصْرُ .......... والحُبَّ أَلْهَمْتَني والبِرَّ يا بَرُّ
صَدْرٌ تَغَشَّيْتَهُ أُنْساً ومَعْرِفةً ......... ورَحْمَةً، كيفَ لا يَسْتَأْنِسُ الصَدْرُ؟
وقال هودٌ هنا "ناصحٌ" بصيغة اسْمِ الفاعِلِ، وقالَ نُوحٍ من قبلُ:
"أَنْصَحُ لكم" بِصيغةِ الفِعلِ، التي تَدُلُّ على تجدُّدِ النُصْحِ ساعةً بعدَ ساعَةٍ، لأنَّ نوحاً كان دائمَ الدَعوةِ لِقومِهِ ليلاً ونَهاراً كما أَخْبَرَ عنْه ربُّه. بينما كان هودٌ ـ عليهِما السلامُ ـ يدعو قومَهُ ويفتُرُ ثمَّ يدعوهم ويفتُرُ، وهذا ما تُفيدُهُ صيغةُ اسْمِ الفاعلِ.
قولُهُ تعالى: {أَبَلِّغُكم رِسالاتِ رَبّي} تَقَدَّمَ إعْرابُها في الآيةِ: 62، من هذه السورة. وجُملَةُ "أَبَلِّغُكم" في مَحَلِّ رَفْعِ نَعْتٍ ثانٍ لـ "رسول" في الآية السابقة. ويجوزُ أن تكونَ حالاً مِنه، كما يَجوزُ أَنْ تَكونَ مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {وأَنَا لَكمْ ناصِحٌ أمينٌ} و: حاليَّةٌ، "أنا" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحلِّ رَفْعِ مُبْتَدَأٍ، "لكم" اللام: حَرْفُ جَرٍّ، والكاف: ضَميرٌ متَّصلٌ في مَحَلِّ جَرٍّ بحرفِ الجرِّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "ناصح" وهوَ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، مَرْفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الضمُّ الظاهرُ. "أمينٌ" خَبَرٌ ثانٍ مَرْفوعٌ. وجملةُ "أنا لكم ناصح" في مَحَلِّ نَصْبِ حالٍ مِنَ الضَميرِ المُسْتَتِرِ في: "أُبَلِّغُكم". أو معطوفة على جملة: {لَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ العالمين}.