فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ
(83)
يَقُولُ ـ تَعَالَى شأنُهُ: {فَأَنْجَيْنَا لُوطًا وَأَهْلَهُ} أي: ومَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ المُؤمنين، سواءً كانوا مِنْ ذوي قَرابَتِهِ ـ عليهِ السَّلامُ ـ أَمْ لا. فقد أَخْبَرَ الهُِ ـ سبحانه ـ أنَّه أَنْجَاه وأَهْلَهُ المُؤمنين بِهِ، فقيلَ المُرادُ بِأَهْلِهِ المُتَّصِلون بِهِ بِسَبَبِ النَّسَبِ، والمُرادُ ابْنَتاهُ، واسْتَثْنى امْرَأَتَهُ مِنْ الأَهْلِ لِكونِها لَمْ تُؤمِنْ بِهِ، وقيلَ: ابْنَتاهُ البكر وهُما: "رِيثا" و"يَغوثا"، من زَوْجِهِ الأُوْلى، أَمّا ابنتاه من زوجه الثانية فقد هللكتا مع زوجيهما، فقد وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ أنَّهُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ كانَ لَهُ ابْنَتَانِ مُتَزَوِّجَتَانِ امْتَنَعَ زَوْجَاهُمَا مِنَ الْخُرُوجِ مَعَه فَهَلَكَتَا مَعَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ. وقيل اسْمُ امْرَأَتِهِ ـ عليه السلامُ ـ "واهِلَة" وقيل: "والهة". وللأَهْلِ مَعانٍ، فالأهلُ عِندَ الإمامِ الأعظَمِ ـ رضيَ اللهُ تَعالى عَنْهُ ـ الزوجة، لِقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ القَصَصِ عَنْ سَيِّدِنا مُوسى ـ عليه السلامُ: {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} و{قَالَ لأهْلِهِ امْكُثوا}. الآية: 29. ولم يَكُنْ يَصْحَبُهُ غَيْرُ زَوْجِهِ وهو عائدٌ من مَدْيَن. وأَهْلُ الرَّجُلِ عِنْدَ الإمامَيْنِ: مالك والشافعي ـ رضي الهُِ تعالى عنهُما ـ كُلُّ مَنْ في عِيالِهِ ونَفَقَتِهِ غيرُ مَمالِيكِهِ وَوَرَثَتِهِ. وَقيل لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ قومِهِ سِوَى أَهْلِ بَيْتِهِ فَقَطْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى في سُورَةِ الذاريات: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المُسْلِمين} الآيتان: 35 ـ 36.
قولُهُ: {إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ} إلاَّ امرأتَه: استُثنيتْ من الناجين معه لأنَّهَا لَمْ تُؤْمِنْ بِهِ، بَلْ كَانَتْ عَلَى دِينِ قَوْمِهَا تُمَالِئُهُمْ عَلَيْهِ، وَتُعْلِمُهُمْ بِمَنْ يَقْدَمُ عَلَيْهِ مِنْ ضِيفَانِهِ بِإِشَارَاتٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ، وَلِهَذَا لَمَّا أُمِرَ لُوطٌ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ لِيَسْرِي بأَهْلِهِ أُمِرَ أَنْ لا يُعْلِمْها وَلَا يُخْرِجَهَا مِنَ الْبَلَدِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلِ اتَّبَعَتْهُمْ، فَلَمَّا جَاءَ الْعَذَابُ الْتَفَتَتْ هِيَ، فَأَصَابَهَا مَا أَصَابَهُمْ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الْبَلَدِ وَلَا أَعْلَمَهَا لُوطٌ بَلْ بَقِيَتْ معهم، وقَدْ أَخْبَرَ اللهُ عَنْهَا هُنَا أَنَّهُ لَمْ يُنَجِّهَا، فَهَلَكَتْ مَعَ قَوْمِ لُوطٍ، وَذُكِرَ فِي سُورَةِ هُودٍ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهَا لَمْ تَمْتَثِلْ مَا أَمَرَ اللهُ لُوطًا ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ به من أَنْ لَا يَلْتَفِتَ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ الْخَارِجِينَ مَعَهُ إِلَى الْمُدُنِ حِينَ يُصِيبُهَا الْعَذَابُ فَالْتَفَتَتِ امْرَأَتُهُ فَأَصَابَهَا الْعَذَابُ، وَذُكِرَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ أَنَّ امْرَأَةَ لُوطٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ كَانَتْ كَافِرَةً. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَتْ تُسِرُّ الْكُفْرَ وَتُظْهِرُ الْإِيمَانَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ سَبَبُ الْتِفَاتِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ غَيْرَ مُوقِنَةٍ بِنُزُولِ الْعَذَابِ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مَعَ لُوطٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ وَأَنَّ قَوْلَهُ: {إِلَّا امْرَأَتَكَ} فِي سُورَةِ هُودٍ 81، اسْتِثْنَاء مٍنْ بِأَهْلِكَ لَا مِنْ {أَحَدٌ}. ولَعَلَّ امْرَأَةَ لُوطٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ (سَدُومَ) تَزَوَّجَهَا هُنَالِكَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ، فَإِنَّهُ أَقَامَ فِي (سَدُومَ) سِنِينَ طَوِيلَةً بَعْدَ أَنْ هَلَكَتْ أُمُّ بَنَاتِهِ وَقَبْلَ أَنْ يُرْسَلَ، وَلَيْسَتْ هِيَ أُمُّ بِنْتَيْهِ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ لَمْ تَذْكُرْها إِلَّا فِي آخِرِ الْقِصَّةِ.
وَمَعْنَى "مِنَ الْغابِرِينَ" مِنَ الْهَالِكِينَ، أيْ بَعْضاً مِنْهُمْ، فالتَذْكيرُ للتَغْليبِ ولِبَيانِ اسْتِحْقاقِها لِما اسْتَحَقَّهُ المُباشِرون للفاحِشَةِ. وَالْغَابِرُ يُطْلَقُ عَلَى الْمُنْقَضِي، وَيُطْلَقُ عَلَى الْآتِي والباقي، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ، كما في (الصحاح) وغيرِهِ، وَأَشْهَرُ إِطْلَاقَيْهِ هُوَ الْمُنْقَضِي، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: غَبَرَ بِمَعْنَى هَلَكَ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا: أَيْ كَانَتْ مِنَ الْهَالِكِينَ، أَيْ هَلَكَتْ مَعَ مَنْ هَلَكَ مِنْ أَهْلِ (سَدُومَ). ومن مجيءِ الغابِرِ بِمَعنى الباقي قولُ الهُذُليِّ:
فغَبَرَتْ بَعْدَهُمْ بِعَيْشٍ نَاصِبٍ ............... وإخَالُ أَنِّي لاحِقٌ مُسْتَتْبَعُ
وقد فَسَّرَ الحَسَنُ وقَتادةٌ ـ رَضِيَ الهَُ عنهُما ـ الغُبورَ ـ هُنا ـ بالبَقاءِ في عَذابِ اللهِ تعالى.
ومِنْ مَجيئهِ بمعنى الماضي والذاهِبِ قولُ الأَعْشى:
عَضَّ بِمَا أبْقَى المَوَاسِي لَهُ ................... مِنْ أمِّهِ فِي الزَّمَنِ الغَابِر
والغَبْراءُ أيضاً الأَرْضُ. قالَ طَرَفَةُ:
رأيتُ بَنِي غَبْراءَ لا يُنْكِرونَنِي ......... ولا أَهْلَ هذاكَ الطِرَافِ المُمَدَّدِ
وقولُهُ تعالى في سورةُ "عَبَسَ": {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ}، الآية:
40. محمولٌ على أنَّهُ تَخْيِيلٌ لِتَغَيُّرِها واسْوِدادِها.
قولُه تعالى: {فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ} فأنجيناهُ: الفاءُ عاطفةٌ على جُمْلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ مُقَدَّرَةٍ، أي: أَرادوا بِهِ سُوءً فأنْجيْناهُ، أو هَمُّوا بإخْراجِهِ فأنْجيناهُ. و"أنجينا" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السُكونِ لاتصالِهِ بضمير رفعٍ متحرِّكٍ، و"نا" العَظَمَةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مَفعولِهِ. "إلا" للاسْتِثْناءِ، "امرأة" مُسْتَثْنى بـ "إلّا" مَنْصوبٌ، والهاءُ: ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جَرِّ مُضافٍ إليْه. وهذه الجُمْلَةُ معطوفةٌ على جُمْلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ فهي مثلُها ليس لها محلٌّ من الإعرابِ.
قولُهُ: {كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ} كانت: فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ من النواسخ، والتاءُ: للتأنيث، واسُمُ "كان" ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ تَقديرُهُ: "هي". "من الغابرين" جارٌّ ومَجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ خَبَرِ "كان"، وعلامةُ الجَرِّ الياءُ لأنَّ من الأسماء الخَمْسةِ، والنونُ عوضاً عن التنوين في الاسمِ المفرد. وهذه الجملةُ استئناف بيانيٌّ فلا مَحَلَّ لها من الإعراب أيضاً.