وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
(52)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنُه: {وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ} المُرادُ بـ "كتاب" الجِنْسُ وعليه فالضميرُ "هم" يَعودُ على جَميعِ البَشَرِ، مؤمِنِهم وكافرهم، وقيل يَعودُ على الكافرين فقط، وقيلَ المَقصودُ بـ "كتابٍ" كلُّ كتابٍ أنزلَه اللهُ على رسولٍ من رُسُلِه ـ عليهمُ الصلاةُ والسلامُ. وقيلَ: بأنَّ الضميرَ "هُم" يَعودُ على مَنْ عاصَرَ النَبِيَّ محمّداً ـ عليه الصلاةُ والسّلامُ ـ وعليْه فالمُرادُ بـ "كِتابِ" القرآنُ الكريمُ، ونُكِّرَ الكتابُ ونُوِّنَ للتَفْخيمِ. و"فَصَّلْناهُ" بَيَّنَّا معانيهِ مِنَ العَقائدِ والأحكامِ والمَواعِظِ مُفَصَّلَةً حَتَّى يَعْرِفَهُ مَنْ تَدَبَّرَهُ، والتفصيلُ: جعلُ بَيانِ الحقائقِ والمَسائلِ مَفصولاً بعضُها عن بعضٍ بحيثُ لا يَبْقى فيها اشْتِباهٌ أَوْ لَبْسٌ. وَقِيلَ: "فَصَّلْناهُ" أي أَنْزَلْنَاهُ مُتَفَرِّقًا ليسهلُ تلقيه واستيعابُهُ والعملُ بما فيه. "عَلى عِلْمٍ" مِنَّا بِهِ، لَمْ يَقَعْ فِيهِ سَهْوٌ وَلَا غَلَطٌ، أو على علمٍ بالمخاطبين به وبما يَصْلُحُ لهم ويُصلحَ شأنَهم. أيْ: فَصَّلْناهُ على أَكْمَلِ وَجْهٍ وأَحْسَنِهِ حالَ كونِنا عالمين بذلك أَتَمَّ العِلْمِ. أوْ أَنْزَلَهُ مُفصَّلًا على عِلْمٍ مِنْهُ ـ تعالى ـ بِمَنْ يُصَدِّقُهُ ويَتَّبِعُهُ، وبِمَنْ يُكَذِّبُهُ ولا يَتَّبِعُهُ. وجاءَ قولُهُ: "علمٌ" نَكِرةً للتَعظيمِ.
قولُهُ: {هُدىً وَرَحْمَةً لقومٍ يؤمنون} أَيْ هَادِيًا وَذَا رَحْمَةٍ، "لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" فخَصَّ المؤمنين بالذكرِ لأنَّهم المُنْتَفِعونَ بِهِ. فهو هدىً للمؤمنين، وعَمًى على الكافرين؛ قال تعالى: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} سورة فُصِّلت، الآية: 44. وخصَّ المؤمنين بالهُدى دون أُولَئِكَ، لأنه عَمًى عليهم ورِجْسٌ؛ قال في سورة التوبة: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} الآيتان: 124 ـ 125. وقال أَبو بَكْرٍ ابنُ الأَنباريِّ: هو هُدىً للكُلِّ: للمُؤْمِنَ والكَافِرِ جَميعًا، ورَحْمَةً للمُؤمنينِ خاصَّةً. فالمُرادُ بهذِهِ الجُملةِ الكَريمةِ بيانُ أَنَّ ما في هذا القرآنِ مِنْ أَحْكامٍ وتَفصيلٍ وهدايةٍ، لم يَحْصُلُ عَبَثاً، وإنَّما حَصَلَ مَعَ العِلمِ التامِّ بِكُلِّ ما اشْتَمَلَ عَليْه مِنْ فوائدَ مُتكاثِرَةٍ، ومَنافِعَ مُتزايِدَةٍ.
قولُهُ تعالى: {وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ} و: اسْتِئْنافيَّةٌ، و"اللامُ" لامُ القَسَمِ لِقَسَمٍ مُقَدَّرٍ، و"قد" حرفُ تَحقيقٍ. "جِئْنا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ، و"نا" العَظَمَةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ، و"هم" الهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ في محلِّ نَصْبِ مَفعولٍ بِهِ، والميمُ للمُذَكَّرِ. "بكتاب" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعَلِّقٌ بـ "جئناهم"، جملةُ القَسَمِ المُقدَّر، لا محلَّ لها من الإعرابِ، وجملةُ "جئناهم" واقعة في جوابِ القَسَمِ فلا مَحَلَّ لها من الإعراب.
قولُهُ: {فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ} فصّلناه: مِثْل جِئناهم، "على عِلْمٍ" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعَلِّقٌ بحالٍ مِنَ الهاءِ ـ أَيْ مُشْتَمِلاً على عِلْمٍ ـ أوْ مِنَ الفاعِلِ، أيْ: أي: فَصَّلْناه عالمين بتفصيله، وقد نُكِّرَ للتعظيم. "هدى" حالٌ مِنْ "كتابٍ"، وجازَ ذلكَ لِتَخَصُّصِهِ بالوَصْفِ، أو من مفعولِ "فصَّلناه"، أو هو مفعولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ: فَصَّلْناه لأَجْلِ الهِدايةِ. وهو مَنْصوبٌ وعلامةُ نَصبِه فتحةُ مُقدَّرةُ على الأَلِفِ للتَعَذُّر. "و" حَرْفُ عَطْفٍ، "رحمةً" عطفاً على "هدى" منصوبٌ، "لقوم" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعَلِّقٌ بـ "هدًى ورحمةً" أوْ بِنَعْتٍ لَهُما، وجُمْلَةُ "فصّلناه" في مَحَلِّ جَرِّ نَعْتٍ لِـ "كتاب".
قولُهُ: {يؤمنون} مُضارعٌ مَرْفوعٌ، وعلامةُ رفعه ثبوت النونِ في آخره لأنَّهُ من الأفعال الخمسةِ، والواوُ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعٍ فاعلٌ. وجُملةُ "يؤمنون" في مَحَلِّ جَرِّ نَعْتٍ لِقوْمٍ.
وقرأ زيد بْنُ عليٍّ: "هدىً ورحمةٍ" بالجَرِّ، وخُرِّجَ على النَّعتِ أو البدلِ منْ "كتاب" أو البدلِ من "علم". وقُرِئَ "هدىً ورحمةٌ" بالرَّفعِ على إضْمارِ المُبْتَدأِ. وقرئَ "هُدًى ورَحْمَةٌ على تَقديرِ: هو: "هُدًى ورحمةٌ" .
وقرأ الجحدَريُّ وابْنُ مُحَيْصِنٍ: "فضّلْناه" بالضادِ المُعْجَمَةِ. أَيْ: فَضَّلْناهُ على سائرِ الكُتُبِ السَماويَّةِ عالمين بأنَّه حقيقٌ بذلك.