[size=29.3333]وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ[/size][size=29.3333]. (21)[/size][size=29.3333]قولُهُ ـ سبحانَهُ وتعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} وَقاسَمَهُما: أيْ وأَقْسَمَ، وحَلَفَ لَهُما: إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ. قالَ قَتادَةُ: حَلَفَ لَهُما باللهَ ـ تَعالى ـ حتّى خَدَعَهُما ـ وقدْ يُخْدَعُ المُؤمِنُ باللهِ ـ فقالَ إنّي خُلِقْتُ قَبْلَكُما، وأَنا أَعْلَمُ مِنْكُما فاتَّبِعاني أُرْشِدْكُما، وقالَ بعضُ العُلَماءِ: مَنْ خادَعَنا باللهِ خُدِعْنا لَهُ. قالَ الحَسَنُ: قاسَمَهُما في وَسْوَسَتِهِ إيَّاهُما إنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصحينَ. وهذا يُومِئُ إلى أَنَّ آدَمَ قدْ عَلِمَ أَنَّهُ الشَيْطانُ. وقال أَبو بَكْرٍ الكِيسانيُّ: إنَّه قَدْ وَقَعَ عِنْدَ آدَمَ أَنَّ الشَجَرَةَ ـ التي نَهاهُ رَبُّه أَنْ يَتَناوَلَ مِنْها ـ هيَ المُفَضَّلةُ على جميعِ الشَجَرِ، فلَمَّا وَسْوَسَ إليْهِ الشَيْطانُ، وقالَ لَهُ ما قالَ: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}؛ فوافَقَ ظَنَّه قولُ اللَّعينِ وما دَعاهُما إلَيْهِ، ثمَّ اشْتَغَلَ فَنَسِيَ ذلكَ؛ فتَناوَلَ على النِسيانِ، والنِسْيانُ على وجْهَيْنِ: نِسْيانُ التَرْكِ على العَهْدِ، ونِسْيانُ السَّهْوِ، ولا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ آدَمُ تَرَك ذَلِكَ عَمْدًا؛ فهو على نِسْيانِ السَّهْوِ، قال تعالى في سورةِ (طه): {ولقد عهدنا إلى آدمَ من قبلُ فنسيَ ولم نجدْ لهُ عَزْماً} الآية: 115. [/size]
[size=29.3333]قولُهُ تعالى: {وقَاسَمَهُمَا}: المُفاعَلَةُ هُنا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكونَ على بابِها، وذُكِرَ القَسَمُ بِلَفْظِ المُفاعَلَةِ؛ لأنَّهُ أَقْسَمَ لَهُما وأَوْقَعَ في أَنْفُسِهِما أَنَّهُ صادقٌ في قَسَمِهِ، وأكَّدَهُ بِكُلِّ مُؤَكَّدٍ حتّى كأنَّهُما صَدَّقاهُ، وبادَلاهُ القَسَمَ، وأَكَّدَ أَنَّهُ مَنَ النّاصَحين، وذلك بِعِدَّةِ مُؤكِّداتِ وهي: أَوَّلاً بالقَسَمِ الذي شَدَّدَ فيه حتَّى وَقَعَ في أَنْفُسِهِما صِدْقُهُ، كأنَّهُما أَقْسَما مَعَهُ. وثانياً: بـ "إنَّ" المُؤكِّدَةِ، والجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ، وإدْخالِهِ في زُمْرَةِ الناصحين حتّى وَقَعا في مَغَبَّةِ تَغريرِهِ؛ قالَ الزمخشري: "كأنَّهُ قال لَهُما: أُقْسِمُ لكُما إنّي لَمِنَ النّاصحينَ، وقالا لَهُ: أَتُقْسِمُ باللهِ أنتَ إنَّكَ لَمِنَ الناصحين لَنا، فَجعَلَ ذَلِكَ مُقاسَمَةً بيْنَهم، أوْ أَقْسَمَ لَهُما بالنَّصيحةِ وأَقْسَما لَهُ بِقَبولِها، أوْ أَخْرَجَ قَسَمَ إبْليسَ على وَزْنِ المُفاعَلَةِ؛ لأنَّهُ اجْتَهَدَ فيها اجْتِهادَ المُقاسِم". وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: "وقاسمهما": أيْ حَلَفَ لهُما، وهيَ مُفاعَلَةٌ، إذْ قَبولُ المَحْلوفِ لَهُ وإقْبالُهُ على مَعنى اليَمينِ كالقَسَمِ وتَقريرِهِ، وإنْ كان بادئَ الرّأْيِ يُعطي أَنَّها مِنْ واحدٍ"، ويُحْتَمَلُ أنْ يكونَ "فاعَلَ" بمَعنى "أَفْعَلَ" كباعَدْتهُ وأبْعَدْتَهُ، وذلك أنَّ الحَلْفَ إنَّما كان مِنْ إبليسَ دونَهُما وعليْه قولُ خالدٍ بْنِ زُهَيْرٍ: [/size]
[size=29.3333]وقاسَمَها بالله جَهْداً لأنتمُ ............. ألذَّ مِنَ السَّلوى إذا ما نشورها[/size]
[size=29.3333]قوله: {لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِين} إذا كانت "ألْ" مُعَرِّفةً لا مَوْصولَةً، يَجوزُ عند أبي عثمان الجاحظ أَنْ يَتَعلَّق "لَكُما" بِما بَعدَه، أوْ كانت"لَكُما" الموصولة ولكن تُسُومِحَ في الظَرْفِ وعديلِه ما لا يُتَسامَحُ في غيرِهِما، اتِّساعاً فيهما لدوَرانِهِما في الكَلامِ، وهُوَ رَأْيُ بعضِ البَصْرِيّينَ وأُنْشِدَ للعَجّاجِ قولُه: [/size]
[size=29.3333]رَبَّيْتُهُ حتى إذا تَمَعْدَدا .................. كان جزائي بالعصا أن أُجْلدا[/size]
[size=29.3333]فـ "بالعصا" مُتَعَلِّقٌ بأُجْلَدُ، وهوَ صَلَةُ أَنْ، أوْ أَنَّ ذلكَ جائزٌ مُطْلَقاً ولو في المَفعولِ بِهِ الصَريحِ، وهو رَأْيُ الكُوفِيّينَ وأنشدوا لربيعةَ بنِ مقرومٍ الضَّبِّيِّ: [/size]
[size=29.3333]هلاّ سألتِ وخُبْرُ قوم عندهم ............ وشفاءُ غَيِّك خابِراً أن تسألي[/size]
[size=29.3333]أيْ: أَنْ تَسْألي خابِراً، أَوْ أَنَّه مُتَعَلِّقٌ بمَحْذوفٍ على البَيانِ، أيْ: أَعْني لَكُما، كقولِهم: سَقْياً لَكَ ورَعْياً، أوْ تَعلَّقَ بِمَحذوفٍ مَدْلولٍ عليْهِ بصِلَةِ "أل" أيْ: إنّي ناصحٌ لَكُما. ومِثْلُ هذِه الآيةِ الكريمةِ قولُه تعالى: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين} سورة الشعراء، الآية: 168. وقولُه: {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} سورة يوسف، الآية: 20. وجعلَ ابْنُ مالكٍ ذلك مُطَّرِداً في مسألة "أل" المَوصولةِ إذا كانتْ مَجْرورَةً بِـ "مِنْ".[/size]
[size=29.3333]والراجحُ أنْ يتعدّى الفعلُ "نَصَح" لواحدٍ، تارةً بنفسِهِ وتارَةً بِحَرْفِ الجَرِّ، ومثلُهُ: "شَكَرَ"، و"كال"، و"وزَنَ". وزَعَمَ بعضُهم أَنَّ المَفعولَ في هذِه الأفعالِ محذوفٌ وأَنَّ المَجْرورَ باللاّمِ هو المفعولُ الثاني، فإذا قلتَ: نصحتُ لِزيدٍ فالتَّقديرُ: نَصَحْتُ لِزَيْدٍ الرَّأْيَ. وكذلك شَكَر لَهُ صَنيعَه، وكِلْتُ لَهُ طَعامَهُ، ووَزَنْتُ لَهُ مَتاعَهُ. وقال الفراء: العربُ لا تكاد تقول: نصحتُك، إنَّما يَقولون نَصَحْتُ لَكَ وأَنْصحُ لكَ"، وقد يَجوزُ نصحتُك. قال النابغة: [/size]
[size=29.3333]نصحتُ بَني عَوْفٍ فلم يتقبَّلوا ....... رسولي ولم تنجحْ لديهم وسائلي[/size]
[size=29.3333]وهذا يقوِّي أَنَّ اللامَ أَصْلٌ. والنُّصْح: بَذْلُ الجُهْدِ في طَلَبِ الخَيْرِ خاصَّةً، وضِدُّهُ الغِشُّ. وأَمَّا "نَصحْتُ لِزيْدٍ ثوبَه" فمُتَعَدٍّ لاثْنَيْنِ لأَحَدِهِما بنَفْسِهِ، وللثاني بحرفِ الجَرِّ باتِّفاقٍ، وكأنَّ النُّصْحَ الذي هو بذلُ الجُهْدِ في الخَيْر مَأخوذٌ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا مِنْ نَصَحَ، أيْ أَخْلَصَ، ومنه: ناصحُ العَسَلِ، أيْ خالِصُهُ، فمعنى نَصَحَهُ أَخْلَصَ لَهُ الوُدَّ، وإمَّا مِنْ نَصَحْتُ الجِلْد والثوبَ إذا أَحْكَمْتُ خياطَتَهُما، ومِنْهُ يقالُ للخَيّاطِ الناصِحُ، والنِّصاحُ للخَيْطِ، فمَعْنَى نَصَحه أيْ: أًحْكَمَ رأيَهُ منه. ويقال: نَصَحه نُصوحاً ونَصاحَةً، قال تَعالى: {تُوبوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نُصُوحاً} التحريم: 8. بِضَمِّ النُونِ في قراءة أَبي بَكْرٍ ابنِ الأنباريِّ، وقال الشاعر [/size]
[size=29.3333]في "نَصاحة": [/size]
[size=29.3333]أَحْبَبْتُ حُبَّاً خالَطَتْه نَصاحةٌ[/size][size=29.3333] ... . . . . . . . . . . . .[/size]
[size=29.3333]وذلك كذُهوبٍ وذَهابٍ.[/size]