فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ
(78)
قولُهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} الرَّجْفَةُ: قِيلَ الزَلْزَلَةُ، وقيلَ الصَيْحةُ، وأَصْلُ الرجفةِ حَرَكَةٌ مَعَ صَوْتٍ، ومِنْه يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفةُ، وقيلَ كانتْ صَيحةً شديدةً خَلَعَتْ قُلوبَهم، وقال في آية أُخْرى {فأخذتْهُمُ الصَيْحَةُ} وقال في آيةٍ أُخْرى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ}، يقال: رَجَفَتِ الأرضُ تَرْجُف رَجْفاً ورَجِيْفاً ورجَفاناً. وقيل: الرَّجْفَةُ: الطامَّةُ التي يتزعزعُ لها الإِنسانُ ويضطرب، ومنه قيل للبحر: رَجَّاف لاضطرابه. وقيل: أصلُه مِنْ رجَفَ به البعيرُ إذا حرَّكه في سَيْره، قال ابنُ أَبي رَبيعةَ:
ولَمَّا رَأَيْتُ الحجَّ قد حان وقتُه ..... وظَلَّتْ جِمالَ القومِ بالحيِّ تَرْجُفُ
والإِرجافُ: إيقاعُ الرَّجْفَةِ، وجَمعُهُ الأَراجيفُ ومِنْهُ قولُهم: "الأراجيفُ مَلاقِيحُ الفِتَنِ". وقوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة} سورة النازعات، الآيةُ: 4. كَقَوْلِهِ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرضُ زِلْزَالَهَا} سورةُ الزَلْزَلَةِ: 1. ومنه قولُ الشاعر:
تُحْيي العظام َالراجفاتِ من البِلى .......... وليس لداءِ الرُّكبتين طبيبُ
وقالَ بعضُهم: الرَّجْفَةُ خَفَقانُ القلبِ واضْطِرابُهُ حتّى يَنْقَطِعَ، وجاءَ في مَوْضِعٍ آخَرَ {بالطاغية} سورةُ الحاقة: 5. ولا مُنافاةَ بَيْنَ ذلكَ فإنَّ الصَيْحَةَ العَظيمةَ الخارِقَةَ للعادَةِ حَصَلَ مِنْها الرَّجْفَةُ لِقَلوبِهم، والصَيْحَةُ مِنَ السَّماءِ فبُلوغُها أَكْبَرُ وأَبْلَغُ مِنَ الزَلْزَلَةِ. ولِعِظَمِها وخُروجِها عَنِ الحَدِّ المُعتادِ سُمِّيتْ الطاغيةُ، لأنَّ الطُغيانَ مُجاوزَةُ الحَدِّ، قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة} سورة الحاقّة، الآية: 11. ويمكنُ أنْ يكونَ المعنى أنّ الإهلاكَ كانَ بسببِ طُغيانِهم، وهوَ مَعْنى {بالطاغية} وكان هذا الأَخْذُ بعدَ ما جَرى عليهم ما جَرى مِنْ عذابٍ في الأيامِ الثَلاثِ كما تقدَمَ.
وقولُهُ: {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} قيلَ: مَيِّتينَ وقيلَ لاصقينَ بالأرضِ، قد ماتوا وذَهَبوا، فالجُثُوم: اللُّصوقُ بالأرضِ مِنْ جُثُومِ الطائرِ والأَرْنَبِ، فإنَّه يَلْصِقُ بَطْنَهُ بالأرضِ، ومِنْهُ رَجُلٌ جُثَمَةٌ وجَثَّامَةٌ، كِنَايَةً عَنِ النَؤومِ الكَسْلان، وجُثْمانُ الإِنسانِ شَخْصُهُ قاعِداً. والجُثُومُ للنَّاسِ والطَيْرِ كالبُروك للإِبِلِ. قال جريرٌ:
عَرَفْتُ المُنْتَأَى وعَرَفْتُ منها .............. مَطايا القِدْر كالحِدَأ الجُثُومِ
والقِصَّةُ في ذلك كلِّهِ واحدٌ، فجَائِزٌ أَنْ يَكونَ ذلك واحدًا، وإنِ اخْتَلَفَتْ أَلفاظُهُ، وهو عِبارةٌ عَنِ العَذابِ. وانْتَهَتْ مُهِمَّةُ صالحٍ ـ عليْهِ السَّلامُ ـ بِهذا التَبْليغِ الحَكيمِ، والنِهايَةِ المَحْتومَةِ التي انْتَهَوْا إلَيْها بِتَحَدِّيهم رَسولَهم ورَبَّهم.
قولُه تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} الفاءُ: عاطفةٌ، "أَخَذَتْ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ الظاهرِ، والتاءُ للتَأْنيثِ، والهاءُ مَفْعولٌ بِهِ والمِيمُ لِجَمْعِ الذُكورِ. "الرجفة" فاعلٌ مَرْفوعٌ. وهذه الجملَةُ ليس لها محلٌّ من الإعرابِ، لأنَّها معطوفة على جملة "عقروا الناقة" التي ليس لها محلٌّ من الإعراب.
قولُهُ: {فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ} الفاءُ: عاطفة، "أصبحوا" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ ـ ناسخ ـ مبنيٌّ على الضَمِّ لاتّصالِه بواو الجماعة،وهي ضميرٌ متّصلٌ في محلِّ رفع اسم أصبحَ، ويجوز أن يكون "أَصْبَحَ" فعلاً تامّاً فتكون الواو عند ذلك في محلِّ رفع فاعلٍ، والوجهُ الأوَّلُ أظهر، والألفُ في الحالين للتفريق. و"في دارِ" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعلِّقٌ بِـ "جاثمين"، والهاءُ: ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليه، والميمُ لجمع الذكور. "جاثمين" خبرُ أَصْبَحَ مَنْصوبٌ وعَلامَةُ نَصْبَه الياءُ لأنَّه جمع سالمٌ والنون عوضاً عن التنوين في الاسم المُفردِ. وجُملةُ "أصبحوا" لا محلّ لها من الإعرابِ لأنَّها مَعطوفةٌ على جملةِ "أخذتهم" التي ليس لها محلٌّ من الإعراب.