وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
(167)
قولُهُ ـ تباركت أسماؤه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} وَاذْكُرْ، أيُّها الرَّسُولُ، لَهُمْ، إذْ أعْلَمَ رَبُّكَ هَؤُلاءِ القَوْمِ، مَرَّة إثْرَ مَرَّةٍ، عَلَى ألْسِنَةِ أنْبِيَائِهِمْ، أنَّهُ قَضَى عَلَيهِمْ لَيُسَلِّطَنَّ عَلَيْهُمْ ـ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ـ مَنْ يُوقِعُ بِهِم العِقَابَ الشَّدِيدَ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ وَفِسْقِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ فِي الأَرْضِ، ف "تأذن" معناها أَعْلَمَ، على وزن "تَفَعَّلَ"، قال الواحديُّ: وأكثرُ أَهلِ اللُّغةِ على أَنَّ التأذُّنَ بمعنى الإِيذان وهو الإِعلامُ. وقالَ الفارسي: آذَنَ: أَعْلَمَ، وأَذَّن: نادى وصاحَ للإِعلامِ ومِنْهُ قولُه تَعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} سورة الأعراف، الآية: 44. قال: وبعض العرب يُجْري آذَنْتُ مجرى تأذَّنْتُ، فيجعل آذن وتأذَّن بمعنى، فإذا كان أذَّن أعلم في لغة بعضهم فأذَّن: تفعَّل مِنْ هذا. وقيل: إن معناه حَتَّم وأوجب. وهي مِنْ الإيذانِ بمَعنى الإعْلامِ، كَ "تَوَعَّدَ" و "أَوْعَدَ"، أَوْ: عَزَمَ، لأنَّ العازِمَ على الشَيْءِ يُؤْذِنُ نَفْسَهُ بِفِعْلِهِ، وأُجْرِيَ مجْرى القَسَمِ ك "عَلِم اللهُ" و "شَهِدَ اللهُ". والمعنى: وإذْ حَتَّمَ رَبُّكَ، وكَتَبَ على نَفْسِهِ لَيَبْعَثَنَّ، أيْ لَيُسَلِّطَنَّ على اليَهودِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ العذابِ إلى يَوْمِ القيامَةِ، وقد بعث اللهُ تعالى عليهم بعدَ سُليمان ـ عليه الصلاةُ والسَلامُ ـ بُخْتَ نَصَّرَ فخَرَّبَ دِيارَهم، وقَتَّلَ مُقاتِلَتَهم، وسَبى نِساءَهم وذَراريهم، وضَرَبَ الجِزْيَةَ على مَنْ بَقِيَ مِنْهم، وكانوا يُؤَدُّونَ الجِزْيَةَ إلى المجوسِ، إلى أَنْ بُعِثَ محمَّدٌ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ـ فضَرَبَها عَلَيْهِم. بعد أنْ أجلاهم عن المدينة المنورةِ ودمَّرَ عليهم حصون خيبر، بسبب مكرهم به وبالإسلام والمسلمين وخيانتهم العهود والمواثيق التي قطعوها على أنفسهم، وتآمرهم المستمر على النبي وعلى المسلمين. فقد بيَّنَ سبحانه حكمه عليهم بعد أن كان ذكر فيما مضى من آياتٍ، كفرهم وعصيانهم وظلمَهم وإجرامهم.
قولُهُ: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} وَأنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ لِلأُمَمِ التِي تَفْسُقُ عَنْ أمْرِهِ، وَتُفْسِدُ فِي الأَرْضِ، لمن شاءَ سُبْحانَه أَنْ يُعاقِبَهُ في الدنيا، ومنهم هؤلاء. وقيل: في الآخرة، وَأنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ أقْلَعَ عَنْ ذَنْبِهِ، وَأنَابَ إلَيهِ وَأصْلَحَ مَا كَانَ قَدْ أفْسَدَ فِي الأرْضِ، قَبْلَ أنْ يَحِلَّ بِهِ العِقَابُ. {وَإِنَّهُ لَغَفُورُ رحيمٌ} لمنْ تابَ وآمَنَ وعملَ صالحاً.
قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} تَأَذَّن: أُجْرِيَ مُجْرى فعلِ القَسَمِ ك "عَلِمَ الله" و "شهد الله"، ولذلكَ أُجِيبَ باللامِ القَسَمِيَّةِ، كما يجابُ به القَسَمُ، وهو: "ليبعثَنَّ". وقال الطبري وغيرُه: تَأَذَّن معناه أَعْلَمَ، وهو قلقٌ مِنْ جهة التصريف إذ نسبةُ "تأذَّن" إلى الفاعلِ غيرُ نِسْبَةِ "أَعْلَمَ" ، وبين ذلك فرقٌ بين التعدي وغيرِهِ. وجملةُ "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ" منصوبٌ بمُضْمَرٍ معطوفٌ على قولِهِ سُبْحانَهُ: {واسئلهم} الآية: 163. من هذه السورة.
قوله: {إلى يَوْمِ القيامة} هذا الجارُّ متعلِّقٌ ب "يَبْعَثَنَّ". أو ب "تأذَّن" والأوَّلُ أصحُّ.