يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ
(31)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنُه: {يَا بَنِي آدَمَ} خطابٌ لِجميعِ بَني آدَمَ، وإنْ كانَ وارداً عَلى سببٍ خاصٍ، الْمَقْصُودُ بِه مَنْ كَانَ يَطُوفُ مِنَ الْعَرَبِ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا، فالاعْتِبارِ بعمومِ اللَّفظِ لا بِخصوصِ السَّبَبِ، والزينةُ ما يَتَزَيَّنُ بِهِ النّاسُ مِنَ المَلْبوسِ، وقيلَ: المقصودُ بـ "زينتكم" ثِيابكم لِمُواراةِ عَوْراتِكُمْ لأنَّ المُسْتَفادَ مِنَ الأَمْرِ الوُجوبُ، والواجِبُ إنَّما هُوَ سَتْرُ العورة، وحَمَلَ بَعضُهم الزينَةَ على لِباسِ التَجَمُّلِ لأنَّهُ المُتَبادِرُ منه، ونُسِبَ هذا للباقِرِ ـ رَضيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، ورُويَ عَنِ الحَسَنِ السِبْطِ ـ رضيَ اللهُ تعالى عَنْهُ ـ أَنَّه كان إذا قامَ إلى الصَلاةِ لَبِسَ أَجْوَدَ ثِيابِهِ، فقيلَ لَه: يا بْنَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ لِمَ تَلْبَسُ أَجْوَدَ ثِيابِكِ؟ فقال: إنَّ اللهَ تعالى جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالِ، فأتَجَمَّلُ لِرَبِّي وهو يقول: "خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ" فأُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَ أَجْمَلَ ثِيابي، ولا يَخفى أَنَّ الأَمْرَ حِينَئِذٍ لا يُحْمَلُ على الوَجوبِ لِظُهورِ أَنَّ هذا التَزَيُّنَ مَسْنونٌ لا واجِبٌ، وقيلَ: إنَّ الآيَةَ على الاحْتِمالَ الأَوَّلِ تُشيرُ إلى سُنِّيَّةِ التَجَمُّلِ لأنَّها لَمَّا دَلَّتْ على وُجوبِ أَخْذِ الزِينَةِ لِسَتْرِ العَوْرَةِ، عندَ ذلكَ فُهِمَ مِنْهُ في الجُمْلَةِ حُسْنُ التَزَيُّنِ بِلِبْسِ ما فيهِ حُسْنٌ وجَمالٌ عِنْدَهُ، فقد أُمِروا بالتَزَيُّن عِنْدَ الحُضورِ إلى المساجِدِ للصَّلاةِ أو الطَوافِ، فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ لِلصَّلَاةِ. لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْعُمُومِ لَا لِلسَّبَبِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الطَّوَافَ، لِأَنَّ الطَّوَافَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَالَّذِي يَعُمُّ كُلَّ مَسْجِدٍ هُوَ الصَّلَاةُ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ مَقَاصِدُ الشَّرِيعَةِ. ورُويَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي اللهُ عنه ـ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: ((خُذُوا زِينَةَ الصَّلَاةِ))) قِيلَ: وَمَا زِينَةُ الصَّلَاةِ؟ قَالَ: ((الْبَسُوا نِعَالَكُمْ فَصَلُّوا فِيهَا)). وقالَ بعضُ العارفين: على لِسانِ العِلْمِ: يَجِبُ سَتْرُ العَوْرة في الصلاةِ، وعلى موجِبِ الإشارَةِ: زِينَةُ العَبْدَ بِحُضورِ الحَضْرَةِ، ولُزومِ السُّدَّةِ، واسْتِدامَةِ شُهودِ الحَقيقةِ. ويقال زينةُ نفوسِ العابدينَ آثارُ السُجودِ، وزينةُ قلوبِ العارفين أنوار الوجود. وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ سَتر العورةِ فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ. وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتُرَهَا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا. وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ ـ لِلْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ: ((ارْجِعْ إِلَى ثَوْبِكَ فَخُذْهُ وَلَا تَمْشُوا عُرَاةً)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَذَهَبَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي إِلَى أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضًا فِي الصَّلَاةِ لَكَانَ الْعُرْيَانُ لَا يجوزُ لَهُ أَنْ يُصلِّي، لأنَّ كلَّ شيءٍ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، أَوْ بَدَلَهُ مَعَ عَدَمِهِ، أَوْ تَسْقُطُ الصَّلَاةُ جُمْلَةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ فَسَقَطَ ثَوْبُ إِمَامٍ فَانْكَشَفَ دُبُرُهُ وَهُوَ رَاكِعٌ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَغَطَّاهُ أَجْزَأَهُ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَقَالَ سَحْنُونُ: وَكُلُّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَأْمُومِينَ أَعَادَ. وَرُوِيَ عَنْ سَحْنُونَ أَيْضًا: أَنَّهُ يُعِيدُ وَيُعِيدُونَ، لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ بَطَلَتِ الصَّلَاةُ. أَصْلُهُ الطَّهَارَةُ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَّا مَنْ قَالَ، إِنَّ صَلَاتَهُمْ لَا تَبْطُلُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَفْقِدُوا شَرْطًا، وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنْ أَخَذَهُ مَكَانَهُ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَتَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ فَصَحِيفَةٌ يَجِبُ مَحْوُهَا وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِهَا. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: لَمَّا رَجَعَ قَوْمِي مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالُوا قَالَ: ((لِيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قِرَاءَةً لِلْقُرْآنِ)). قَالَ: فَدَعَوْنِي فَعَلَّمُونِي الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَكُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ مَفْتُوقَةٌ، وَكَانُوا يَقُولُونَ لِأَبِي: أَلَا تُغَطِّي عَنَّا اسْتَ ابْنِكَ. لَفْظُ النَّسَائِيِّ. وَثَبَتَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: لَقَدْ كَانَتِ الرِّجَالُ عَاقِدِي أُزُرَهُمْ فِي أَعْنَاقِهِمْ مِنْ ضِيقِ الْأُزُرِ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الصَّلَاةِ كَأَمْثَالِ الصِّبْيَانِ، فَقَالَ قائلٌ: يا مَعْشَرَ النِساءِ، لا تَرْفَعْنَ رُؤوسَكُنّ حَتَّى تَرْفَعَ الرِّجَالُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو داوود.
وَاخْتَلَفُوا إِذَا رَأَى عَوْرَةَ نَفْسِهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا كَانَ الثَّوْبُ ضَيِّقًا يَزُرُّهُ أَوْ يُخَلِّلُهُ بِشَيْءٍ لِئَلَّا يَتَجَافَى الْقَمِيصُ فَتُرَى مِنَ الْجَيْبِ الْعَوْرَةُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَرَأَى عَوْرَةَ نَفْسِهِ أَعَادَ الصَّلَاةَ. وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ. وَرَخَّصَ مَالِكٌ فِي الصَّلَاةِ فِي الْقَمِيصِ مَحْلُولِ الْأَزْرَارِ، لَيْسَ عَلَيْهِ سَرَاوِيلٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَكَانَ سَالِمٌ يُصَلِّي مَحْلُولَ الْأَزْرَارِ. وَقَالَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ: إِذَا كَانَ عَظِيمَ اللِّحْيَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَحَكَى مَعْنَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ. فَإِنْ كَانَ إِمَامًا فَلَا يُصَلِّي إِلَّا بِرِدَائِهِ، لِأَنَّهُ مِنَ الزِّينَةِ. وَقِيلَ: مِنَ الزِّينَةِ الصَّلَاةُ فِي النَّعْلَيْنِ، رَوَاهُ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَمْ يَصِحَّ. وَقِيلَ: زِينَةُ الصَّلَاةِ رَفْعُ الْأَيْدِي فِي الرُّكُوعِ وَفِي الرفعِ مِنْهُ. وقالوا: لِكُلِّ شيءٍ زِينَةٌ وَزِينَةُ الصَّلَاةِ التَّكْبِيرُ وَرَفْعُ الْأَيْدِي. وَقَالَ عُمَرُ بنُ الخطّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِذَا وَسَّعَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَوْسِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، صَلَّى فِي إِزَارٍ (ما يؤتزر به في النصف الأسفل) وَرِدَاءٍ (للنصفِ الأعلى)، فِي إِزَارٍ وَقَمِيصٍ، فِي إِزَارٍ وَقَبَاءٍ (ثوبٌ يُلْبَسُ فوقَ الثيابِ، وقيلَ: يُلبَسُ فوقَ القَميصِ ويَتَنَطَّقُ عليه)، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ وَأَحْسَبُهُ، قَالَ: فِي تُبَّانٍ (سراويلٌ صَغيرٌ يَسْتُرُ العَوْرَةَ المُغَلَّظَةَ فَقَط) وَقَمِيصٍ فِي تُبَّانٍ وَرِدَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَبَاءٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ.
قَوْلُهُ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَحَلَّ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مَا لَمْ يَكُنْ سَرَفًا أَوْ مَخِيلَةً (تَكَبُّراً). فَأَمَّا مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ وَسَكَّنَ الظَّمَأَ، فَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ عَقْلًا وَشَرْعًا، لِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ النَّفْسِ وَحِرَاسَةِ الْحَوَاسِّ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْوِصَالِ، لِأَنَّهُ يُضْعِفُ الْجَسَدَ وَيُمِيتُ النَّفْسَ، وَيُضْعِفُ عن العبادة، وذلك يَمْنَعُ مِنْهُ الشَرْعُ وتَدْفَعُهُ الْعَقْلُ. وَلَيْسَ لِمَنْ مَنَعَ نَفْسَهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ حَظٌّ مِنْ بِرٍّ وَلَا نَصِيبٍ مِنْ زُهْدٍ، لِأَنَّ مَا حُرِمَهَا مِنْ فِعْلِ الطَّاعَةِ بِالْعَجْزِ وَالضَّعْفِ أَكْثَرُ ثَوَابًا وَأَعْظَمُ أَجْرًا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الزَّائِدِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقِيلَ حَرَامٌ، وَقِيلَ مَكْرُوهٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ قَدْرَ الشِّبَعِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ البُلْدانِ والأَزْمانِ وَالْأَسْنَانِ وَالطُّعْمَانِ. أمَّا الإسراف عند أرباب القلوب فهو ما تَناوَلْتَهُ لَكَ ولَوْ بِقَدْرِ سِمْسِمَةٍ، لآنهم يتناولون الطعام ائتماراً بأمره ـ سبحانَه ـ لا شهوةً واستجابةً لحظِّ نفوسِهِم وإنَّما يَتَلَذَّذون بشهودهم للمُطْعِمِ لا بالطعامِ، وهو كما قال سيدنا إبراهيمُ ـ عليه السلامُ: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِين} سورةُ الشعراء، الآية: 79. ثُمَّ قِيلَ: فِي قِلَّةِ الْأَكْلِ مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ أَصَحَّ جِسْمًا وَأَجْوَدَ حِفْظًا وَأَزْكَى فَهْمًا وَأَقَلَّ نَوْمًا وَأَخَفَّ نَفْسًا. وَفِي كَثْرَةِ الْأَكْلِ كَظُّ الْمَعِدَةِ وَنَتَنُ التُّخْمَةِ، وَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْأَمْرَاضُ الْمُخْتَلِفَةُ، فَيَحْتَاجُ مِنَ الْعِلَاجِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْقَلِيلُ الْأَكْلِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: أَكْبَرُ الدَّوَاءِ تَقْدِيرُ الْغِذَاءِ. وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هَذَا الْمَعْنَى بَيَانًا شَافِيًا يُغْنِي عَنْ كَلَامِ الْأَطِبَّاءِ فَقَالَ: ((مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ)). خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ. قَالَ العُلَمَاءُ: لَوْ سَمِعَ بُقْرَاطُ هَذِهِ الْقِسْمَةَ لَعَجِبَ مِنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ. وَيُذْكَرُ أَنَّ الرَّشِيدَ كَانَ لَهُ طَبِيبٌ نَصْرَانِيٌّ حَاذِقٌ فَقَالَ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: لَيْسَ فِي كِتَابِكُمْ مِنْ عِلْمِ الطِبِّ شيءٌ، وَالْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمُ الْأَدْيَانِ وَعِلْمُ الْأَبَدَانِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: قَدْ جَمَعَ اللهُ الطِّبَّ كُلَّهُ فِي نِصْفِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِنَا. فَقَالَ لَهُ: مَا هِيَ؟ قَالَ قَوْلُهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا". فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: وَلَا يُؤْثَرُ عن رَسولِكم شيءٌ مِنَ الطِّبِّ. فَقَالَ عَلِيٌّ: جَمَعَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الطِّبَّ فِي أَلْفَاظٍ يَسِيرَةٍ. قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: ((الْمَعِدَةُ بَيْتُ الْأَدْوَاءِ وَالْحِمْيَةُ رَأْسُ كُلِّ دَوَاءٍ، وَأَعْطِ كُلَّ جَسَدٍ مَا عَوَّدْتَهُ)). فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: مَا تَرَكَ كِتَابُكُمْ وَلَا نَبِيُّكُمْ لِجَالِينُوسَ طِبًّا. قُلْتُ: وَيُقَالُ إِنَّ مُعَالَجَةَ الْمَرِيضِ نِصْفَانِ: نِصْفٌ دَوَاءٌ وَنِصْفٌ حِمْيَةٌ: فإنْ اجْتَمَعا فَكأنَّكَ بالمَريضِ قد بَرَأَ وصَحَّ، وإلاَّ فالحِمْية بِهِ أَوْلى، إذْ لا يَنْفَعُ دَوَاءٌ مَعَ تَرْكِ الْحِمْيَةِ. وَلَقَدْ تَنْفَعُ الْحِمْيَةُ مَعَ تَرْكِ الدَّوَاءِ. وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَصْلُ كُلِّ دَوَاءٍ الْحِمْيَةُ)). وَالْمَعْنِيُّ بِهَا ـ وَالهُم أَعْلَمُ ـ أَنَّهَا تُغْنِي عَنْ كُلِّ دَوَاءٍ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: إِنَّ الْهِنْدَ جُلُّ مُعَالَجَتِهِمُ الْحِمْيَةُ، يَمْتَنِعُ الْمَرِيضُ
عَنِ الْأَكْلِ وَالشَّرَابِ وَالْكَلَامِ عِدَّةَ أَيَّامٍ فَيَبْرَأُ وَيَصِحُّ.
رَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رضي اللهُ عنهما ـ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: ((الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ)). وَهَذَا مِنْهُ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حَضٌّ عَلَى التَّقْلِيلِ مِنَ الدُّنْيَا وَالزُّهْدِ فِيهَا وَالْقَنَاعَةِ بِالْبُلْغَةِ. وقال الخطَّابُ: مَعْنَى قَوْلِهِ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ دُونَ شِبَعِهِ، وَيُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ وَيُبْقِي مِنْ زَادِهِ لِغَيْرِهِ، فَيُقْنِعُهُ مَا أَكَلَ. وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَاللهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ)). لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ، لِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ تَدْفَعُهُ، فَإِنَّهُ قَدْ يُوجَدُ كَافِرٌ أَقَلُّ أَكْلًا مِنْ مُؤْمِنٍ، وَيُسْلِمُ الْكَافِرُ فَلَا يَقِلُّ أَكْلُهُ وَلَا يَزِيدُ. وَقِيلَ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مُعَيَّنٍ. ضَافَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ضَيْفٌ كَافِرٌ يُقَالُ: إِنَّهُ الْجَهْجَاهُ الْغِفَارِيُّ. وَقِيلَ: ثُمَامَةُ بْنُ أَثَالٍ. وَقِيلَ: نَضْلَةُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ. وَقِيلَ: بَصْرَةُ بْنُ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيُّ. فَشَرِبَ حِلَابَ سَبْعِ شِيَاهٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَصْبَحَ فَأَسْلَمَ فَشَرِبَ حِلَابَ شَاةٍ فَلَمْ يَسْتَتِمَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَلِكَ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا الْكَافِرُ. وَاللهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْقَلْبَ لَمَّا تَنَوَّرَ بِنُورِ التَّوْحِيدِ نَظَرَ إِلَى الطَّعَامِ بِعَيْنِ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ، فَأَخَذَ مِنْهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ، وَحِينَ كَانَ مُظْلِمًا بِالْكُفْرِ كَانَ أَكْلُهُ كَالْبَهِيمَةِ تَرْتَعُ حَتَّى تَثْلِطَ (الثلطُ: الرقيقُ من الروث). وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْأَمْعَاءِ، هَلْ هِيَ حَقِيقَةٌ أم لا؟ فقبل حَقِيقَةٌ، وَلَهَا أَسْمَاءٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالطِّبِّ وَالتَّشْرِيحِ. وَقِيلَ: هِيَ كِنَايَاتٌ عَنْ أَسْبَابٍ سَبْعَةٍ يَأْكُلُ بِهَا النَّهِمُ: يَأْكُلُ لِلْحَاجَةِ وَالْخَبَرِ وَالشَّمِّ وَالنَّظَرِ وَاللَّمْسِ وَالذَّوْقِ وَيَزِيدُ اسْتِغْنَامًا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنْ يَأْكُلَ أَكْلَ مَنْ لَهُ سَبْعَةُ أَمْعَاءٍ. وَالْمُؤْمِنُ بِخِفَّةِ أَكْلِهِ يَأْكُلُ أَكْلَ مَنْ ليس له إلا معى واحد، فَيُشَارِكُ الْكَافِرَ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ أَكْلِهِ، وَيَزِيدُ الْكَافِرُ عَلَيْهِ بِسَبْعَةِ أَمْثَالٍ. وَالْمِعَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ الْمَعِدَةُ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَمْتَدِحُ بِقِلَّةِ الْأَكْلِ وَتَذُمُّ بِكَثْرَتِهِ. قَالَ أعشى باهلة:
تَكْفِيهِ فِلْذَةُ كَبِدٍ إِنْ أَلَمَّ بِهَا ............. مِنَ الشِّوَاءِ وَيُرْوِي شُرْبَهُ الْغُمَرُ
وَقَالَتْ أَمُّ زَرْعٍ فِي ابْنِ أَبِي زَرْعٍ: وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ، والجَفْرَةُ: الصَغيرةُ مِنْ وَلَدِ المعزى إذا بَلغَ أَرَبَعةَ أَشْهُرٍ. وَقَالَ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ يَذُمُّ بِكَثْرَةِ الْأَكْلِ:
فَإِنَّكَ إِنْ أَعْطَيْتَ بَطْنَكَ سُؤْلَهُ ........ وَفَرْجَكَ نَالَا مُنْتَهَى الذَّمِّ أجمعا
وَكذَلك فإنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ غَسْلُ الْيَدِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ، لِقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((الْوُضُوءُ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ بَرَكَةٌ)). وَكَذَا فِي التَّوْرَاةِ. رَوَاهُ زَاذَانُ عَنْ سَلْمَانَ. وَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ غَسْلَ الْيَدِ النَّظِيفَةِ. وَالِاقْتِدَاءُ بِالْحَدِيثِ أَوْلَى. وَلَا يَأْكُلُ طَعَامًا حَتَّى يَعْرِفَ أَحَارًّا هُوَ أَمْ بَارِدًا؟ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ حَارًّا فَقَدْ يَتَأَذَّى. وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في الصحيح أَنَّهُ قَالَ: ((أَبْرِدُوا بِالطَّعَامِ فَإِنَّ الْحَارَّ غَيْرُ ذِي بَرَكَةٍ)). وَلَا يَشُمُّهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْبَهَائِمِ، بَلْ إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ، وَيُصَغِّرُ اللُّقْمَةَ وَيُكْثِرُ مَضْغَهَا لِئَلَّا يُعَدَّ شَرِهًا. وَيُسَمِّي اللهَ تَعَالَى فِي أَوَّلِهِ وَيَحْمَدُهُ فِي آخِرِهِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالْحَمْدِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ جُلَسَاؤُهُ قَدْ فَرَغُوا مِنَ الْأَكْلِ، لِأَنَّ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ مَنْعًا لَهُمْ مِنَ الْأَكْلِ. وَآدَابُ الْأَكْلِ كَثِيرَةٌ، هَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْهَا. وَلِلشَّرَابِ أَيْضًا آدَابٌ مَعْرُوفَةٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رضي اللهُ عنهما ـ أَنَّ رَسُولَ الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشيطان يأْكُلُ بِشِمالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ)).
قَوْلُهُ: {وَلا تُسْرِفُوا} أَيْ فِي كَثْرَةِ الْأَكْلِ، وَعَنْهُ يَكُونُ كَثْرَةُ الشُّرْبِ، وَذَلِكَ يُثْقِلُ الْمَعِدَةَ، وَيُثَبِّطُ الْإِنْسَانَ عَنْ خِدْمَةِ رَبِّهِ، وَالْأَخْذِ بِحَظِّهِ مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ. فَإِنْ تَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى مَا فَوْقَهُ مِمَّا يَمْنَعُهُ الْقِيَامَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ حَرُمَ عَلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ أَسْرَفَ فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ. رَوَى أَسَدُ بْنُ مُوسَى مِنْ حَدِيثِ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَكَلْتُ ثَرِيدًا بِلَحْمٍ سَمِينٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَنَا أَتَجَشَّى، فَقَالَ: ((اكْفُفْ عَلَيْكَ مِنْ جُشَائِكَ أَبَا جُحَيْفَةَ فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). فَمَا أَكَلَ أَبُو جُحَيْفَةَ بِمِلْءِ بَطْنِهِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، وَكَانَ إِذَا تَغَدَّى لَا يَتَعَشَّى، وَإِذَا تَعَشَّى لا يَتَغَدَّى. وَقَدْ يَكُونُ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ)). أَيِ التَّامُّ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ مَنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ وَكَمُلَ إِيمَانُهُ كَأَبِي جُحَيْفَةَ تَفَكَّرَ فِيمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ، فَيَمْنَعُهُ الْخَوْفُ وَالْإِشْفَاقُ مِنْ تِلْكَ الْأَهْوَالِ مِنِ اسْتِيفَاءِ شَهَوَاتِهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَى "وَلا تُسْرِفُوا" لَا تَأْكُلُوا حَرَامًا. وخرَّجَ ابنُ ماجه في سُنَنِهِ عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مِنَ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشْتَهَيْتَ)). وَقِيلَ: مِنَ الْإِسْرَافِ الْأَكْلُ بَعْدَ الشِّبَعِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مَحْظُورٌ. وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لَا تَأْكُلْ شِبَعًا فَوْقَ شِبَعٍ، فَإِنَّكَ أَنْ تَنْبِذَهُ لِلْكَلْبِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَأْكُلَهُ. وَسَأَلَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ عَنِ ابْنِهِ مَا فَعَلَ؟ قَالُوا: بَشِمَ الْبَارِحَةَ. قَالَوا: بَشِمَ! فَقَالَ: نَعَمْ، أَمَا إِنَّهُ لَوْ مَاتَ مَا صَلَّيْتُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ دَسِمًا فِي أَيَّامِ حَجِّهِمْ، وَيَكْتَفُونَ بِالْيَسِيرِ مِنَ الطَّعَامِ، وَيَطُوفُونَ عُرَاةً. فَقِيلَ لَهُمْ: "خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا" فِي تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْكُمْ.
قولُهُ تعالى: {يا بني آدمَ خذوا زينَتَكم عند كلِّ مسجدٍ} يا بني آدم: يا: أداةُ نِداءٍ، "بَني" مُنادى مَنْصوبٌ، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّه مُلْحَقٌ بِجَمْعِ المُذَكَّرِ السّالِمِ، وحُذِفَتِ النُونُ للإضافِةِ، وهو مُضاف، و"آدَمَ" مُضافٌ إليْهِ مَجْرورٌ بالفَتْحَةِ نيابةً عن الكَسْرَةِ لأنَّه ممنوعٌ من الصرف بسببِ العلميَّةِ والعُجْمَةِ، "خُذُوا": فعلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ على حَذْفِ النُونِ لأنَّه من الأفعال الخمسةِ. والواو الدالَّة على الجماعة: ضميرٌ مُتَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعِلٍ. "زينتَكم" مفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ وهو مضافٌ، و"ك" الكافُ ضميرٌ متَّصِلٌ في محلِّ جَرِّ مُضافٍ إليه، والميم علامةُ جَمْعِ المَذَكَّر، و"زينة"، اسْمٌ لِما يُتَزَيَّنُ بِهِ، أَوْ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ تَزَيَّنَ زينة، ووزنُه فِعْلَةٌ بِكَسْرٍ فَسُكونٍ، و"عندَ" ظَرْفٌ للمَكانَ مَنْصوبٌ، متعلّق بـ "خذوا"، وهو مضافٌ، و"كُلِّ" مضافٌ إليه أوَّلُ و" مسجد" مضافٌ إليه ثانٍ، وجملَةُ "يا بني آدم" استئنافيَّةٌ لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة "خذوا" جوابُ النِداءِ، لا محلَّ لها من الإعرابِ أيضاً، وقولُهُ تعالى: "خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ" مجازٌ مرسَلٌ، أَيْ: خُذوا لِباسَكُم، والزّينَةَ حالَةٌ في اللِّباسِ، فعبَّرَ بالحالِ وأَرادَ المَحَلَّ. فالعَلاقَةُ حاليَّةٌ.
قولُهُ: {وكلوا اشربوا ولا تُسرفوا} الواو: عاطفةٌ في المَواضعِ الثلاثةِ، "كلوا، اشربوا" مثل "خُذوا"، و"لا" ناهيةٌ جازِمَةٌ، و"تسرفوا" مُضارِعٌ مَجْزومٌ، وعَلامَةُ الجَزْمِ حَذْفُ النُونِ لأنَّه من الأفعال الخمسة، والواو الدالَّةُ على الجماعة ضميرٌ متّصلٌ في محلِّ رفع فاعلٍ، وجملةُ: "كلوا" وجملة: "اشربوا" وجملة: "لا تسرفوا" كلُّ عطفٌ على جملة: "خذوا" وهي جميعاً مثلها لها محلٌ من الإعرابِ.
قولُه: {إنّه لا يحبّ المُسرفين} مثلُ إنَّه يَرَى. والفِعلُ مَنْفِيٌّ بـ "لا" و"المسرفين" مَفْعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ وعلامةُ نصبِهِ الياءُ لأنَّه مِنَ الأَسْماءِ الخَمْسَةِ، والنونُ عِوَضاً عن التنوينِ في الاسمِ المُفرد. جملةُ "إنّه" واسمها وخبرها، تعليليةٌ لا محلّ لها من الإعرابِ، وجُملةُ: "لا يحبّ المسرفين" في محلِّ رَفْعِ خَبَرِ إنَّ.