[size=29.3333]قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ.[/size]
[size=29.3333](38)[/size]
[size=29.3333]قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنُه: {قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} قال: القائلُ هو اللهُ ـ جَلَّ جلالُهُ، ولمْ يُصَرَّحْ بهِ لأنَّه مَذْكورٌ دائماً في الأفهامِ وفي القلوب، فلا حاجَةَ إلى ذِكرِه. وقيلَ: القائلُ هوَ مالِكُ خازِنُ النَّارِ، و"في" بمَعنى "مَعَ"، أيْ: ادْخُلوا مَعَ أُمَمٍ، وَهَذَا لَا يَمْتَنِعُ، لِأَنَّ قَوْلَكَ: زَيْدٌ فِي الْقَوْمِ، أَيْ مَعَ الْقَوْمِ. والعَرَبُ تَضَعُ حُروفَ الخَفْضِ، بَعْضَها في مَوْضِعِ بَعْضٍ؛ كقولِه ـ تعالى في سورة الفجر: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} الآية: 29. قيل: مَعَ عِبادي. وقيلَ هيَ على بابِها، والمَعنى ادْخُلوا في جُمْلَتِهم وغِمارِهم وعِدادِهم، والظاهرُ أَنَّ هذِهِ الحالُ مُنْتَظَرَةٌ إذْ مَصيرُهُم في غِمارِ الأُمَمِ إنَّما هُوَ بَعدَ تَمامِ الدُخولِ، وذَلك لأنَّ الأُمَمَ المَذكورَةَ قدْ سَبَقَتْهُم في الدُّخولِ، فلا يَصيرونَ في غِمارِها إلاَّ بَعْدَ الدُخولِ. أوْ كأَنَّ المَتْبوعين يَدخلون النارَ قبلَ الأَتباعِ، فقيلَ لهَؤُلَاءِ الأتباع "ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ}. وفيهِ دَليلٌ على أنَّ الكُفَّارَ مِنَ الجِنِّ يُعَذَّبونَ كَما يُعَذَّبُ الكُفَّارُ مِنَ الإنْسِ. وإنَّما قُدِّمَ الجِنُّ على الإنْسِ لِمَزيدِ شَرِّهِم، أوْ لِتَقَدُّمِهم عليهم في الخَلْقِ، وذلكَ أنَّ اللهَ لمَّا خَلَقَ الجِنَّ فمنْهم مؤمنٌ ومِنهم كافرٌ، فلمَّا اسْتَوْلى أهلُ الكُفْرِ مِنْهم على أَهْلِ الإيمانِ حتَّى اسْتَأْصَلوهم، بَعَثَ اللهُ إليهمْ جُنْداً مِنَ المَلائِكَةِ، كانَ رئيسَهم إبْليسُ، فسَلَّطَهمُ اللهُ عليهم حتَّى أهْلِكوا جَميعاً، ثمَّ خَلَقَ اللهُ آدمَ بعدَهم، فخَلَقَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ، فمنهم كافرٌ كقابيلَ، ومنهم مُؤمِنٌ كَهابيلَ، وكان في كلِّ زَمانٍ مِنهم أُمَّةٌ كافرةٌ مُسْتَحِقَّةٌ لِدُخولِ النّارِ، وأُمَّةٌ مُؤمِنَةٌ مُسْتَحِقَّةٌ لِدُخولِ الجَنَّةِ، إلى قيامِ الساعةِ، كما قالَ عليْهِ الصلاةُ والسلامُ: ((لا تقومُ الساعةُ وفي الأرضِ مَنْ يَقولُ: اللهَ اللهَ)).[/size]
[size=29.3333]قولُه: {كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها} أيْ: كلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ مِنْ أُمَمِ الكُفْرِ لَعَنَتْ أُخْتَها فى الدينِ والمِلَّةِ، أَيْ لعنتْ الأُمَّةَ الَّتِي سَبَقَتْهَا إِلَى النَّارِ، وَهِيَ أُخْتهَا فِي الدِّينِ وَالْمِلَّةِ. لَعَنَ الأَتْباعُ المَتْبوعين؛ لِأنَّهم دَعوهم إلى ذلكَ، ولأنَّهم همُ الذين صَرفوهُم عنْ دينِ الله؛ وهذا كقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا[/size] [size=29.3333]لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} سورة سبأ، الآية: 33، وغير ذلك من الآيات. ولَعْنُ المَتْبوعون الأتباعَ؛ لأنّ العذابَ يُزادُ فيه لَهم بِكَثْرَةِ الأتباعِ وبِقَدَرِهِم؛ فَيَلْعنُ بعضُهم بعضًا. وفيه دليلٌ أنَّ أَهلَ الكُفرِ، وإنِ اخْتَلَفوا في مَذاهِبِهم فهم إخوةٌ وأَخواتٌ بعضُهم لِبَعْضٍ، كما المُؤمنونَ بعضُهم إخْوَةٌ لبعضٍ وأخوات.[/size]
[size=29.3333]قولُهُ: {حتى إذا ادّاركوا فيها جميعاً} أي: حتى إذا اجتمعتْ أمّةُ الكفرِ بجميعِ مِلَلِها ونِحَلِها، على اختلافِ أجناسهم، وانتماءاتهم، ومذاهبهم، وأخزابهم. و"ادّاركوا فيها" أي أدركَ بعضُهم بعضاً، ولِحِقَ المسبوقُ السابِقَ.[/size]
[size=29.3333]قولُه: {قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ} أَيْ آخِرُهُمْ دُخُولًا وَهُمُ الْأَتْبَاعُ لِأُولَاهُمْ وَهُمُ الْقَادَةُ. وهذا يَدُلُّ على النَّفْرَةِ التي تَكونُ بَيْنَهُما، فإنَّ مِنْ أَشَدِ العذابِ النَّفْرَةُ النَّفْسيَّةُ بَيْنَ المُجْتَمعين في مكانٍ واحدٍ. [/size]
[size=29.3333]قولُه: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ}. فَاللَّامُ فِي "لِأُولاهُمْ" لَامُ أَجْلٍ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُخَاطِبُوا أُولَاهُمْ وَلَكِنْ قَالُوا فِي حَقِّ أُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا. وَالضِّعْفُ الْمِثْلُ الزَّائِدُ عَلَى مِثْلِهِ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعودٍ أَنَّ الضَعْفَ ها هُنا الْأَفَاعِي وَالْحَيَّاتُ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ: {رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} سورة الأحزاب، الآية: 68. [/size]
[size=29.3333]قولُه: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} أَيْ لِلتَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ. "وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ" أَيْ لَا يَعْلَمُ كُلُّ فَرِيقٍ مَا بِالْفَرِيقِ الْآخَرِ، إِذْ لَوْ عَلِمَ بَعْضُ مَنْ فِي النَّارِ أَنَّ عَذَابَ أَحَدٍ فَوْقَ عَذَابِهِ لَكَانَ نَوْعَ سَلْوَةٍ لَهُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى "وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ" بِالتَّاءِ، أَيْ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ مَا يَجِدُونَ مِنَ الْعَذَابِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى ولكن لا تعلمون يأهل الدُّنْيَا مِقْدَارَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ. [/size]
[size=29.3333]قولُهُ تعالى: {قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} قال: فعلٌ ماضٍ والفاعِلُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ تَقْديرُهُ: هو، أيْ: اللهُ. و"ادخلوا" فعلُ أَمْرٍ مَبْنِيٍّ على حذْفِ النُونِ لأنَّ مضارعَهُ من الأفعال الخمسةِ، ففعل الأمرِ يبنى على ما يبنى عليه مضارعُه، والفاعلُ الضمير المتصلُ واوُ الجماعة. "في أُمَمٍ" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعَلِّقٌ بـ "ادخلوا" بحذفِ مُضافٍ، أيْ في بعضِ أُمَمٍ، "قد" للتحقيقِ، "خلت" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٍّ على الفَتْحِ المُقَدَّرِ على الأَلِفِ المَحذوفةِ لالْتِقاءِ الساكنين، و"التاء" للتأنيث، "من قبلِ" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعلِّقٌ بـ "خلت" ويجوزُ أنْ يتعلَّقَ بمَحذوفِ نَعْتٍ لـ "أمم"، و"الكافُ" ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليْهِ، والميم علامة المذكَّر."منَ الجِنِّ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمَحْذوفِ نَعتٍ لـ "أُمَم". "والإنسِ" والواو: عاطفةٌ، "الإنس" معطوفٌ على الجِنِّ مَجرورٌ مثلُه، و"في النار" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعَلِّقٌ بـ "ادخلوا" وتعلَّقَ حَرْفا الجَرِّ "في" بعاملٍ واحِدٍ لأنَّ الأوَّلَ ليْسَ للظَرْفِيَّةِ بَلْ للمَعيَّةِ، أيْ: مُصاحبينَ أُمَمًا، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ الثاني بَدَلَ اشْتِمالٍ مِنَ الأوَّلِ، والظَرْفِيَّةُ في الأُولى مَجازٌ. جملةُ "قال": استئنافيَّةٌ، لا مَحَلَّ لها من الإعراب. وجُملةُ "ادخُلوا" في محلِّ نصبِ مَقولِ القَوْلِ. وجملةُ "خلت" في مَحَلِّ جَرِّ نَعْتٍ لـ "أمم".[/size]
[size=29.3333]قولُه: {كلَّما دخلتْ أمَّةٌ لعنتْ أختها} كلما: ظَرْفٌ بِمَعنى حينَ، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ لَفْظُ "كل" فيه معنى الظَرْفِ، و"ما" حرفاً مَصْدَريًّا، والمَصْدَرُ المُؤوَّلُ في مَحَلِّ جَرِّ مُضافٍ إليْه، مُتَضَمِّنٌ مَعنى الشَرْطِ، مُتَعَلِّقٌ بالجَوابِ "لعنت"، و"دَخَلَتْ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌ على الفتحِ الظاهر، و"التاء" للتأنيثِ، و"أُمَّةٌ" فاعلٌ مَرْفُوعٌ، وعلامةُ رفعه الظمُّ الظاهرُ. و"لعنت" مِثل "دَخلت"، و"أختَ" مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، و"ها" ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليه. جملةُ: "دخلت" في مَحَلِّ جَرِّ مُضافٍ إليه. وجُمْلَة: "لعنت" جوابُ شرطٍ غَيرِ جازِمٍ (كلما) فلا مَحَلَّ لها من الإعرابِ. [/size]
[size=29.3333]قولُه: {حتى إذا ادّاركوا فيها جميعاً} "حتى إذا" تقدمَ إعرابُها في الآيَةِ السابقةِ، و"ادَّاركوا" مثل كَذَّبوا في الآيةِ (36) السابقة. وفيه إبدالٌ فأصلُهُ "تَداركوا"، أُبْدِلَتْ تاؤهُ دالاً، ثمَّ سُكِّنَتْ لِيَصِحَّ إدْغامُها، ثمَّ أُدْخِلَ عَلَيْها هَمزةُ الوَصْلِ لِيَصِحَّ النُطْقُ بها. فتاءُ الافْتِعالِ إذا أُبْدلتْ إلى حرفٍ مُجانِسٍ لِما قَبلَها، تُبْدَلُ طاءً أوْ دالاً في نحوِ: اصطَبَرَ واضطربَ وازْدَجَرَ وادَّكر، وإذا وُزِن ما هي فيه قالوا: يُلْفَظُ في الوزن بأصلِ تاءِ الافتعالِ، ولا يُلْفَظُ بما صارَتْ إليه مِنْ طاءٍ أوْ دالٍ، فتقول: وزن اصطبر افتعلَ لا افْطَعل، ووزن ازدَجَر افتعل لا افدعل، فكذلك تقول هنا: وزن ادَّاركوا اتْفاعلوا لا افَّاعلوا، فلا فرقَ بين تاءِ الافْتِعالِ والتَفاعُلِ في ذلك. و"في" حرفُ جَرِّ، و"ها" ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جَرٍ بحرف الجرِّ مُتَعَلِّقٌ بـ "ادّاركوا"، و"جميعاً" حالٌ مِنْ فاعلِ "ادَّاركوا" مَنْصوبَةٌ، وعلامةُ نصبها الفتح الظاهرُ. وهذه الجملةُ في مَحَلِّ جَرِّ مُضافٍ إليْه.[/size]
[size=29.3333]قولُهُ: {قالت أُخراهم لِأُولاهم} قالت: مِثل "دَخلت". و"أخرى" فاعلٌ مَرفوعٌ وعلامَةُ رفعِه ضَمَّةٌ مُقدَّرةٌ على الأَلِفِ للتعذُّر، و"هم" الهاءُ ضميرٌ متّصِلٌ في محلِّ جرٍ مضافاً إليه، والميمُ علامة جمع المذكَّر. و"لأولى" اللامُ حرف جرٍّ، و"أولى" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، ومتعلِّقٌ بـ "قالت" وعلامةُ جَرِّه كسرةٌ مقدّرةٌ على الأَلِفِ للتعَذُّر. و"هم" تقدَّمَ إعرابها. وهذه الجملةُ جابُ شرطٍ غير جازِمٍ (إذا) فلا محلَّ لها من الإعراب أيضاً. [/size]
[size=29.3333]واللامُ في "لأولاهم" للتعليلِ أيْ لأجلِ، ولا يَجوزُ أنْ تَكونَ التي للتَبْليغِ كَهِيَ في قولِكَ: قلتُ لِزيدٍ افْعلْ. لأنَّ خِطابَهم مَعَ اللهِ لا مَعَهُم، والمعنى: وقالتْ أُخراهُم: يا رَبَّنا هؤلاءِ أَضَلّونا لِأُولاهم. فَذَكَرَ نَحوَهُ. قلتُ: وعلى هذا فاللامُ الثانيةُ في قولِه: أُولاهم لأُخراهم يَجوزُ أَنْ تَكونَ للتَبليغ، لأنَّ خطابَهم معهم بِدليلِ قولِهِ: فما كانَ لكم علينا مِنْ فضلٍ، فذوقوا بما كنتم تَكْسِبون. وأُخْراهم وأُولاهم: يُحتَمَلُ أَنْ تَكونَ فُعْلى، أُنثى أَفعل، الذي للمفاضلة، والمعنى على هذا أُخْراهم مَنْزِلَةً، وهُمُ الأَتْباعُ والسَّفَلةُ، لأُولاهُم مَنزلةً وهم السَّادة والرؤساء، ويُحْتَمَلُ أَنْ تَكون "أخرى" بمَعنى "آخِرة"، تأنيثُ "آخِر" مقابلٌ لـ"أوَّل"، لا تأنيث "آخَر" الذي للمُفاضَلَةِ كقولِهِ تعالى في سورة فاطر: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى} الآية: 18. والفرقُ بين أُخرى بمَعْنى آخِرة، وبيْن أُخرى تأنيث آخَر بِزِنَةِ أَفْعَل للتفضيل، أَنَّ التي للتفضيلِ لا تَدُلُّ على الانْتِهاءِ كما لا يَدُلُّ عليه مذكَّرها، ولذلك يُعْطف أمثالُها عليها في نوعٍ واحدٍ تقولُ: مَرَرْتُ بامْرأةٍ وأُخرى وأُخرى، كما تقولُ: بِرَجُلٍ وآخَرَ وآخَرَ، وهذه تَدُلُّ على الانْتِهاءِ كما يَدُلُّ عليْه مُذَكَّرُها ولِذلكَ لا يُعْطَفُ أَمْثالُها عليها، ولأنَّ الأولى تُفيدُ إفادةَ "غير"، خلافاً لهذهِ. والظاهرُ في هذِهِ الآيةِ الكريمةِ أَنَّهما ليْسَتا للتَفضيلِ.[/size]
[size=29.3333]قولُهُ: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا } رَبَّ: مُنادى حُذِفَتْ أَداةُ نِدائِهِ، مَنْصوبٌ وعلامةُ نصبِه الفتحةُ الظاهرةُ على آخره، وهو مُضافٌ، و"نا" ضميرٌ متّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليه. و"هؤلاء" "ها" للتَنْبيهِ، "أولاءِ" اسْمُ إشارةٍ مَبْنِيٍّ على الكسر في مَحَلِّ رَفْعِ مُبْتَدَأٍ، و"أضلّوا" مِثل "كذّبوا" في الآيةِ (36) السابقة. و"نا" ضميرٌ متّصِلٌ في محلِّ نصبِ مفعولٍ بِهِ. جُمْلةُ "هؤلاء" الاسميّة واقعةٌ جوابَ النِداءِ، لا مَحَلَّ لَها من الإعراب. وجملةُ النداءِ وجوابُها في محلِّ نَصْبٍ مَقولَ القولِ لا محلَّ لها كذلك، ويجوزُ أنْ نقولَ هي جُملةٌ وحدَها اعْتِراضِيَّةٌ اسْتِرْحامِيَّةٌ.[/size]
[size=29.3333]قولُه: {فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} الفاء: لرَبْطِ المُسَبَّبِ بالسَبَبِ، "آت" فعلُ أَمْرٍ مَبْنِيٍّ على حَذْفِ حَرْفِ العِلَّةِ وهي الياء، و"الهاء" ضَميرٌ متَّصلٌى في محَلِّ نصبِ مَفعولٍ بِهِ أَوَّل، والميم للجمع المذكَّرِ، و"عذاباً" مَفْعولٌ بِهِ ثانٍ مَنْصوبٌ وعلامةُ نصبِه الفتحُ الظاهرُ، و"ضعفاً" نَعْتٌ لـ "عذابا" مَنْصوبٌ مثلُه، و"من النار" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمَحْذوفِ نَعْتٍ ثانٍ لـ "عذاباً" تقديرُه مستقراً أو كائناً، ويجوزُ أَنْ يكون متعلِّقاً بحالٍ مِنْ "عذاباً" مَحذوفةٍ لأَنَّه وُصِفَ. وهذه الجملةُ "آتهم" معطوفةٌ على جُمْلَةِ جَوابِ النِّداءِ فلا مَحَلَّ لَها كذلك. [/size]
[size=29.3333]قولُه: {قالَ لكلٍّ ضعفٌ ولكن لا تعلمون} قال: تقدَّمَ إعرابُه، "لكل" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعَلِّقٌ بخبرٍ مقدّمٍ مَحذوفٍ، "ضِعْفٌ" مُبتدأٌ مُؤَخَّرٌ مَرفوعٌ وعلامةُ رفعه الضمٌ الظاهر، والواو: عاطفةٌ "لكن" حرفٌ للاسْتِدْراكِ، "لا" نافيةٌ، "تعلمون" مُضارعٌ مَرْفوعٌ وعلامةُ رفعه ثبوت النون لأنَّهُ مِنْ الأفعالِ الخَمْسةُ، والواوُ الدالَّةُ على الجَماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفع فاعلٍ. وجُملةُ "أضلونا" في مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَراً للمبتدأِ "هؤلاء". جملة «لكل ضعف» في محلّ نصب مقول القول، وجملةُ "تعلمون" معطوفةٌ عليها فلا محلَّ لهما من الإعراب. وجملةُ "قال" اسْتِئنافٌ بَيانِيٌّ ولا محلَّ لها من الإعراب أيضاً.[/size]
[size=29.3333]وقرأَ ابْنُ مَسْعودٍ والأَعْمَشُ، ورُوِيتْ عَنِ أَبي عَمْرٍو: "تداركوا" وهي أَصْلُ قِراءةِ العامَّةِ. وقرأَ أبو عَمْرٍو: "اِدَّاركوا" بقطعِ همزَةِ الوصلِ. وهذا مُشْكِلٌ، ومثلُ ذلك لا يَفْعَلُهُ أبوا عمرٍو ارْتِجالاً، وكأنَّهُ وَقَفَ وِقْفَةَ مُسْتَنْكِرٍ ثمَّ ابْتَدَأَ فَقَطَعَ. وهذا الذي يُعْتَقَدُ مِنْ أَبي عَمْرٍو، وإلاَّ فكيفَ يَقْرأُ بما لا يَثْبُتُ إلاَّ في ضَرورةِ الشِعْرِ في الأَسْماء؟ فقَطْعُ أَلِفِ الوَصْلِ في الضَرورةِ إنَّما جاءَ في الأَسْماءِ.[/size]
[size=29.3333]وقَرَأَ مجاهدٌ وحَميدٌ بْنُ قَيْسٍ: "أُدْرِكوا" بضمِّ همزةِ القَطْعِ، وسُكونِ الدالِ وكَسْرِ الراءِ، مثل: "أُخْرِجوا" فجعلَه مَبْنيّاً للمَفعولِ بمعنى: أُدْخِلوا في دَرَكاتها أو أدراكَها، ونُقِل عنْ مُجاهدٍ بْنِ جَبْرٍ قراءتان: فَرَوى عنْهُ مَكِيّ "ادَّارَكوا" بوصلِ الأَلِفِ وفتْحِ الدالِ مُشدَّدَةً وفَتْحِ الراءِ، وأَصْلُها "ادْتَرَكوا" على افتَعلوا مَبْنِيّاً للفاعلِ، ثمَّ أُدْغِمَ كما أُدْغِمَ "ادَّان" مِنَ "الدَّيْن". [/size]
[size=29.3333]وروى عَنْهُ غيرُهُ: "أَدْرَكوا" بتفحِ الهَمْزَةِ مَقطوعةً وسكونِ الدّالِ وفتْحِ الرّاءِ، أيْ: أَدْرَكَ بعضُهم بعضاً. وقال أبو البقاءِ: وقرئ: "إذا ادَّاركوا" بألفٍ واحدةٍ ساكنةٍ بعدَها دالٌ مُشدَّدَةٌ، وهو جمعٌ بيْن ساكنيْنِ، وجازَ في المُنْفَصِلِ كما جازَ في المُتَّصِلِ، وقد قال بعضُهم "اثنا عْشر" بإثباتِ الألفِ وسكونِ العيْن، يعني بالمُتَّصِلِ نحو: الضالِّين وجانّ، ومعنى المنفصلِ أَنَّ أَلِفَ "إذا" مِنْ كلمةٍ، والساكن الثاني مِنْ كلمةٍ أُخرى. وادَّاركوا بمعنى تلاحقوا. وتقدَّم تَفسيرُها.[/size]
[size=29.3333]وقولُه: "ولكن لا تعلمون" ، قراءةُ العامَّةِ بتاءِ الخِطابِ: إمَّا خطاباً للسائلين، وإمَّا خطاباً لأهلِ الدُنيا، أي: ولكنْ لا تَعلمون ما أُعِدَّ مِنَ العذابِ لكلِّ فريقٍ. وقرأ أبو بَكْرٍ ابنُ الأنباريِّ عن عاصِمٍ بالغيبةِ، وهي تَحتَمِلُ أنْ يَكون الضميرُ عائداً على الطائفةِ السائلةِ تَضعيفَ العذابِ أوْ على الطائفتين، أيْ: لا يَعلمون قَدْر ما أَعَدَّ لَهم مِنَ العَذابِ.[/size]