وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ
(42)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنُه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} أيْ الذين صَدَقوا اللهَ ورَسولَه، وأَقَرّوا بما جاءَهُم مِنْ وَحْيِ اللهِ، وتنزيلِهِ عليه مِنْ شرائعِ دِينِه، وعَمِلوا بِما أَمَرَهم بِهِ، وأَطاعوهُ في ذلك، وتجنَّبوا ما نَهاهُم عَنْهُ، فجَمَعوا بَيْنَ الإيمانِ والعَمَلِ الصَالِحِ، فالإيمانُ هو الأساس، ولذلك به بَدَأ، والعملُ الصالحُ هو المُتَرَتِّبُ، على الإيمان. فمن آمَنَ باللهِ ـ سبحانَهُ ـ خلقاً، وبمحمدٍ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ نبياً ورسولاً من اللهِ إلى خلقه، ويؤمن بيوم الحساب وما فيه من ثواب وعقاب لكلٍّ بما قدمَ من عمل، لا بُدَّ لإيمانِه هذا من أَنْ يحملَه على العملِ الذي من شأنِه أنْ يُكْسِبَهُ رضا مولاه وخالقه ليفوز بثوابه، وإلا كان الإيمان ناقصاً وفيه خلل.
وَوقولُهُ: {لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها} أي: لا نُكلِّفُ نَفْسًا مِنَ الأعْمالِ الصالِحات إلاَّ وُسْعَها، بَلْ نُكَلِّفُها دون وُسْعِها، ودون طاقتِها، ونَظِيرُهُ قولُه: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا}. والوُسْعُ: ما يُقْدَرُ عَلَيْهِ ولا يُعْجَزُ عَنْهُ، وقدْ جاءتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ معترضةً بيْنَ المُبْتَدَأِ، وهو الاسْمُ المَوْصولُ "الذين" والخبر، وهو اسم الإشارةِ "أُولئك" للتَرْغيبِ في اكْتِسابِ ما يُؤدّي إلى النَّعيمِ المُقيمِ بِبيانِ سُهولةِ مَنالِهِ وتَيَسُّرِ تَحصيلِهِ، لأنَّه ـ سبحانه ـ لم يكلفْ النفسَ البشريةَ ما لا تطيقُ، إنَّ كلَّ ما كلَّفها به من فعلٍ أو تركٍ هو في وُسعها، وهو ـ جلَّ وعلا ـ خالقُها والأدرى بما تستطيعُه وما لا تستطيعُه.
قولُهُ: {أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} وبهذا يُخْبِرُنا الحَقُّ أَنَّ الذينَ آمَنوا وعَمِلوا الصالحاتِ، هُمْ أَصْحابُ الجَنَّةِ وَهُمْ فِيها خالدون، ويَضَعُ لَنا الحَقُّ تَنْبِيهاً بَيْنَ مُقَدِّمَةِ الآيَةِ وتَذْييلِها: "لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا" لِنَفْهَمَ أَنَّ المُسْرِفين على أَنْفُسِهم بالكُفْرِ، وتكذيبِ الآياتِ لَمْ يَفهَموا حقيقةَ الإِيمانِ، وأَنَّ حَبْسَ النَّفْسِ عَنْ كَثيرٍ مِنْ شَهَواتِها هُوَ في مَقدورِ النَّفْسِ، وليس فوقَ طاقتِها؛ لذلك أَوْضَحَ لَنا ـ سُبحانَهُ ـ أَنَّهُ كَلَّفَ بـ "افْعَلْ ولا تَفْعَلْ" وذلك في حدودِ وُسْعِ المُكَلَّفِ.
قولُهُ تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} الواو: استئنافيَّةٌ، "الذين" اسمٌ مَوْصولٌ في محلٍ رفعٍ مُبتَدأً، وخبرُهُ هو جملةُ: "أولئك أَصْحَابُ"، وهذا هو الوجهُ، أو أنَّهُ جُملةُ: "لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً" وعليه فلا بُدَّ مِنْ عائدٍ وهًو مُقدَّرٌ، وتقديرُهُ: نَفْساً مِنْهم. و"آمنوا" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواو الجماعة. وواوُ الجماعة ضميرٌ متَّصِلٌ في محلِّ رفعِ فاعِلٍ. وجملةُ "آمنوا" واقعةٌ صلةَ الموصولِ "الذين" فلا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ، وجُمْلَةُ "الذين آمنوا" استئنافيَّةٌ فلا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ، كذلك.
قولُهُ: {وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} الواو: عاطفةٌ، و"عملوا" مثل: "آمنوا"، و"الصالحاتِ" مَفْعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، وعَلامَةُ النَّصْبِ الكَسْرَةُ نيابةً عنِ الفتحةِ لأنَّهُ جمعٌ مؤنّثٌ سالم. وهذه الجملة لا محلَّ لها من الإعراب أيضاً لأنها معطوفةٌ على جملة الصلة التي لا محلَّ لها.
قولُهُ: {لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها} لا: حَرْفُ نَفْيٍ، "نُكَلِّفُ" فعلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ، وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ على آخره، والفاعلُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ تقديرُهُ "نحنُ" للتَعظيمِ، و"نفساً" مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ. "إلا" أداةٌ للحَصْرِ، "وُسْعَ" مَفْعولٌ بِهِ ثانٍ مَنْصوبٌ، وهو مضافٌ، و"ها" ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جَرٍّ مُضافاً إليْه. وهذه الجملةُ اعتراضيّةٌ فلا محلَّ لها من الإعراب، أو هي في محلِّ رَفْعِ خَبَرِ الاسْمِ المَوْصولِ، كما تَقَدَّمَ بيانُهُ آنفاً.
قولُهُ: {أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ} أُولاء: اسْمُ إشارةٍ مَبْنِيٍّ في محلِّ رَفْعِ مُبْتَدأٍ، و"الكافُ" للخطابِ، و"أصحابُ" خَبَرٌ مَرْفوعٌ، وهو مضافٌ، و"الجنَّة" مُضافٌ إليْهِ مَجْرورٌ، وعلامة جرِّه الكسرةُ الظاهرة. وهذه الجملةُ في محلِّ رفعِ خبر الاسمِ الموصول: "والذين"
قولُهُ: {هُمْ فِيها خالِدُونَ} هم: ضَميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ في مَحَلِّ رَفْعٍ مُبْتَدأ، "فيها" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعلِّقٌ بـ "خالدون"، و"خالدون" خَبَرٌ مَرْفوعٌ وعلامةُ رَفْعهِ الواو لأنه من الأسماءِ الخَمْسةِ، والنونُ عِوَضاً عن التنوين في الاسمِ المُفردِ. وهذه الجُملةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ حالاً مِنْ أَصْحابِ، والعامِلُ فيه الإشارةُ.