أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
(62)
قولُهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي} التي أَمَرَني بِتَبليغِها إليكم، في الأوقاتِ المتطاولةِ أو في المعاني المختلفةِ، مِنَ الأَوامِرِ والنواهي، والمَواعِظِ والزَواجِرِ، والبَشائرِ والنذائرِ. قَبِلْتُمْ أَوْ رَدَدْتُمْ، و"رسالات" جمعُ رسالةٍ، و"رسالاتِ" لاخْتِلافِ أَوْقاتِها ولِتَنَوُّعِ مَعانيها أوْ لأنَّ المُرادَ بِها المُرْسَلُ بِهِ، ويجوزُ أَنْ يُريدَ رِسالاتِه إليْهِ وإلى الأَنْبياءِ قبلَهُ.
قولُهُ: {وأَنْصَحُ لَكم} النُصْحُ: تَحَرّي ما فيهِ صَلاحُ المنصوح له قولاً أوْ فِعْلاً، وقيلَ: هو تَعريفُ وَجْهِ المَصْلَحَةِ مَعَ خُلوصِ النِيَّةِ مِنْ شَوائِبِ المَكْروهِ، وأَصلُ النُصحِ في اللُّغَةِ الخُلُوصُ، ومنه: نَصَحْتُ العَسَلَ إذا خَلَّصْتُه مِنَ الشّمْعِ، وأيضاً نَصَحَ الرّجُلُ ثَوبَهُ إذا خاطَهُ، فشبَّهوا فعلَ النُّصْحِ فيما يُتَحَرّى مِنْ صَلاحِ المَنْصوحِ لَهُ بِفِعْلِ الخَيَّاطِ فيما يَسُدُّ مِنْ خَلَلِ الثّوْبِ، وقد يُقالُ أيضاً لِخُلوصِ المَحَبَّةِ للمنصوح لَهُ والتَحَرّي فيما يَسْتَدْعيهِ حَقُّهُ، وعلى ذلك حُمِلَ ما أَخْرَجَهُ مُسْلَمٌ وأبو داوودَ والنَّسائِيُّ عنْ تَميمٍ الدّارِيِّ ـ رضي اللهُ عنه ـ أنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله علَيْهِ وسَلَّمَ ـ قال: ((إنَّ الدينَ النَصيحةَ)). قلْنا: لِمَنْ يا رَسُولَ الله؟ قالَ: ((للهِ تَعالى ولَكِتابِهِ ولِرَسُولِهِ ولِأَئِمَّةِ المُسْلِمينَ وعامَّتَهم)). وهو يَتَعَدَّى بنفسِه وباللام، فيُقالُ: نَصَحْتُهُ ونَصَحْتُ لَه، كما يُقالُ: شَكَرْتُهُ وشَكَرْتُ لَهُ، وزيادةُ اللاّمِ دَلالَةٌ على المُبالَغَةِ في إمحاضِ النُّصْحِ، وقِيلَ: جيءَ باللامِ هُنا لِيَدُلَّ الكلامُ على أَنَّ الغَرَضَ هو النُّصْحُ لهم وليس لِغَيْرِهم، بمعنى أنَّ نَفْعَه ُيَعودُ عَلَيْهِم، لا عَلَيْهِ ـ عليه السلامُ ـ كقولِهِ تَعالى: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} سورة الفرقان، الآية: 57. وهذا مَبْنِيٌّ على أَنَّ اللامَ للاخْتِصاصِ وليست زائدةً، وصيغةُ المُضارع للدَّلالَةِ على تَجَدُّدِ نُصْحِهِ ـ عليهِ السّلامُ ـ لَهم، كما يُفصِحُ عنْه قولُه: {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} سورة نوح، الآية: 5.
قولُهُ: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} أيْ: مِنَ الأُمورِ الغَيْبِيَّةِ التي لا تُعْلَمُ إلاَّ مِنْ طَريقِ الوَحْيِ، أَشياءَ لا عِلم لكم بها، أوْ أَعْلَمُ مِنْ قدرتهِ الباهِرَةِ، وشِدَّةِ بَطْشِهِ على أَعدائه، وأنَّ بأسَهُ لا يُرَدُّ عَنِ القومِ المُجْرِمين ما لا تَعْلَمونَه.
وشأنُ الرسولِ أَنْ يَكونَ مُبلِّغاً فَصيحاً ناصِحاً عالِماً بالله، لا يُدْرِكُهُ أَحَدٌ مِنْ خلقِ اللهِ في هذه الصِفاتِ، كما جاءَ في صَحيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رسولَ اللهَ ـ صلّى اللهُ عليه وسَلَّمَ ـ قال لأصحابِهِ يومَ عَرَفَةَ، وهُمْ أَوْفَرُ ما كانوا وأَكْثَرُ جَمعاً: ((أيُّها الناسُ! إنَّكم مَسْؤولون عَنّي، فما أَنْتُم قائلون))؟ قالوا نَشْهَدُ أنَّكَ قدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ ونَصَحْتَ. فجَعَلَ يَرْفَعُ إصِبَعَهُ إلى السَماءِ، ويُنْكِسُها عَلَيْهِم ويَقولُ: ((اللّهُمَّ اشْهَدْ، اللّهُمَّ اشْهَدْ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ في كتاب الحجِّ، حديث رقم: 147 ونَصُّهُ: فخَطَبَ الناسَ وقالَ: "إنَّ دِماءكم وأَموالَكم حَرامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يومِكُمْ هَذا، في شَهْرِكم هذا، في بَلَدَكِمْ هذا. أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الجاهلِيَّةِ، تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ. ودِماءُ الجاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ. وإنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمائنا دَمُ ابْنِ رَبيعَةَ بِنِ الحارِثِ. كانَ مُسْتَرْضَعاً في بَني سَعْدٍ فقَتَلَتْهُ هُذيْلٌ. ورِبا الجَاهِلِيَّةِ مَوْضوعٌ. وأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبانا. رِبا العَبّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ. فإنَّهُ مَوْضوعٌ كُلُّهُ. فاتَّقوا اللهَ في النِّساءِ فإنَّكم أَخَذْتُموهُنَّ بأَمانِ اللهِ. واسْتَحْلَلْتُمْ فُروجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، ولكم عَلَيْهِنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكَمْ أَحَداً تَكْرَهُونَهُ. فإنْ فَعَلْنَ ذلك فاضْرِبوهُنَّ ضَرْباً غيرَ مُبَرِّحٍ. ولَهُنَّ عليكم رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بالمَعروفِ. وقدْ تَرَكْتُ فيكُمْ ما لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ. كِتابَ اللهِ. وأَنْتُمْ تُسْأَلونَ عَنّي. فما أَنْتمْ قائلون))؟. قالوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ ونَصَحْتَ. فقالَ بإصْبِعِهِ السّبَّابَةِ، يَرْفَعُها إلى السَماءِ ويُنْكِثُها إلى النّاسِ: ((اللهُمَّ! اشْهَدْ. اللّهُمَّ! اشْهَدْ» ثَلاثَ مَرّاتٍ ...
قولُه: {وأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمونَ} الإشارةُ إلى أنَّه عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ اللهِ لَا يَعْلَمونَه؛ لأنَّ اللهَ تعالى يُخاطِبُهُ وحْياً أوْ بِوِساطةِ رَسولٍ مِنَ المَلائكةِ يُرْسِلُهُ إليهِ، لِذا قالَ في تأكيدِ نُصْحِهِ، وبَيانِ صِدْقِهِ، وأَنَّهُ هادٍ مُرْشِدٌ: "وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" فاقْبَلوا نُصْحِي وإرْشادي، فإنَّهُ ليسَ مِنِّي، ولكنْ مِنَ اللهِ رَبِّكم ورَبِّ العالَمينَ. فـ "أعلم من الله ما لا تعلمون" تقريرٌ لِرِسالَتِهِ وبيانٌ لِمَزيدِ عِلْمِهِ، وأنَّه ـ عليه السلامُ ـ يَخْتَصُّ بعلمِ الأشياءِ التي لا يَعلَمونَها بإخبارِ اللهِ لَهُ بذلك، ومِنْها العلمُ بِمَدى قُدْرَتِهِ الباهِرةِ وشِدَّةِ بَطْشِهِ ـ جلَّ وعَلا ـ بأَعْدائِهِ، والعلمُ بأنَّ بأسَهُ لا يُرَدُّ عَنِ القَومِ المُجْرِمين.
قولُهُ تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي} أُبَلِّغُ: فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّده من الناصبِ والجازم، وعلامة رفعه الضمَّةُ الظاهرةُ على آخره، والفاعلُ ضميرٌ مستترٌ وجوباً تقديره "أنا" والكاف: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مفعولٍ به، والميمُ علامةُ التذكير. "رسالاتِ" مفعولٌ بِهِ ثانٍ مضافٌ مَنْصوبٌ، وعلامَةُ نَصْبِهِ الكسرةُ نيابةً عن الفتحةِ لأنَّه جمعٌ مؤنَّثٌ سالمٌ، "رَبِّ" مُضافٌ إليْهِ مَجْرورٌ، و"الياءُ" ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السكون في محلِّ جَرِّ مُضافٍ إليْه. وهذه الجُملةُ: يَجوزُ أنْ تَكونَ جُمْلةً مُسْتَأنَفَةً أُتيَ بها لِبَيانِ كَوْنِهِ رَسُولاً، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ مكانُها الرفعُ صِفَةً لِـ "رَسُولُ" مِن الآية السابقة، ولكنَّهُ راعى الضَميرَ السابِقَ الذي للمُتَكَلِّمِ فقال: "أُبَلِّغُكُمْ" ولو راعى الاسْمَ الظاهرَ بَعدَهُ لَقالَ: يُبَلِّغُكم، والاسْتِعْمالان جائزان في كلِّ اسْمٍ ظاهرٍ سَبَقَهُ ضَميرٌ حاضِرٌ مِنْ مُتَكَلِّمٍ أوْ مُخاطَبٍ فتَحَرَّرَ لك فيه وجهان: مراعاةُ الضميرِ السابق وهو الأكثر ومراعاةُ الاسمِ الظاهر، فتقول: "أنا رجلٌ أفعل كذا" مراعاةً لـ "أنا". وإنْ شئتَ قلتَ: "أنا رجلٌ يفعل كذا" مُراعاةً لِرَجُلٍ، ومثلُه: "أنتَ رَجُلٌ تَفعَلُ ويَفعلُ" بالخِطابِ والغَيْبَةِ. وقوله: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} سورة النَمْلِ: 47. جاءَ على الأَكْثَرِ. ومِثْلُهُ ما لَو وَقَعَ بعدَ الضَميرِ مَوْصولٌ نَحْوَ: "أنا الذي فَعَلْتُ وفعل"، و"أنتَ الذي فَعَلَ وفعلتَ". ومنْهُ قولُ الأنصارِ:
نحن الذين بايَعُوا محمَّداً .................. على الجهادِ ما بقينا أَبَدا
فَجَمَعَ بين الاستعمالين، وقد تقدَّم هذا بأوضحَ منه هنا.
قولُهُ: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} و: عاطِفَةٌ، "أنصح" مثلُ "أُبلِّغُ، "لكم" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بـ "أنصحُ"، والميمُ للمذكر، وهذه الجُملةُ معطوفةٌ على جُملةِ "أُبَلِّغُكم" ولها مثلُ إعرابها.
قولُه: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} الواو: حرفُ عَطْفٍ، "أعلم"
مثل أنصحُ، "مِنَ اللهِ" جارٌّ ومَجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بـ "أعلمُ" ويَجوزُ أَنْ يَكونَ مُتَعَلِّقاً بِمَحْذوفِ حالٍ مِنْ "ما" أَوْ مِنَ العائدِ، أَيْ أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمونَهُ كائناً مِنَ اللهِ. "ما" اسْمٌ مَوْصولٌ بمعنى الذي، في محلِّ نَصْبِ مَفعولٍ بِهِ، ويجوزُ أن يكونَ نَكِرَةً موصوفةً، والجُمْلَةُ بعدَهُ في مَحَلِّ نَصْبِ نَعْتٍ لَهُ، والعائدُ مَحذوفٌ. "لا" النافيةٌ، "تعلمون" مُضارعٌ مَرْفوعٌ وعلامةُ رفعه ثبوتُ النون لأنَّهُ من الأفعالِ الخمسةِ والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ. وجُملَةُ "أعلم" في محلّ رفعٍ معطوفةً على جُملَةِ أُبَلِّغُكم. وجُمْلةُ "تعلمون" لا مَحَلَّ لَها صِلَةُ المَوْصولِ (ما).
قرأ العامّةُ: "أبلِّغُكم" بتشديد اللامِ، وقرأَ أبو عَمْرو: "أُبْلِغُكم" بالتخفيفِ، وهذا الخلافُ جارٍ هنا في الموضعَيْن وفي الأحقافِ. والتضعيفُ والهمزةُ للتَعْديَةِ ك "أَنْزَلَ ونَزَّل". وقد جاءَ الماضي على أفْعَل في قولِه: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} سورةُ هُودٍ، الآية: 57. فهذا شاهدٌ لقراءةِ أَبي عَمْرٍو، وجاءَ على فَعَّلَ في قولِهِ: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} سورةُ المائدة، الآيَة: 67. فهذا شاهدٌ لقراءةِ الجَماعَةِ.