الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ. (45)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنُه: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} أيْ يَصُدّون بأنفُسِهم عنْ دينِ اللهِ ـ سبحانَه ـ ويُعرِضونَ عنه، لأنَّ هذا الإعراضَ لازمٌ لكلِّ ظالِمٍ، أَو الَّذِينَ كَانُوا يَصُدُّونَ فِي الدُّنْيَا النَّاسَ عَنِ الْإِسْلَامِ. بنهيهم عنْه، وإدْخالِ الشُّبَهِ في دلائلِهِ، والتَلبيسِ عليهم، فَهُوَ مِنَ الصَّدِّ الَّذِي هُوَ الْمَنْعُ.
قولُهُ: {وَيَبْغُونَها عِوَجاً} يَطْلُبُونَ اعْوِجَاجَهَا وَيَذُمُّونَهَا فَلَا يُؤْمِنُونَ بِهَا، ويُنَفِّرون الناسَ عنْها، ويَقدَحونَ في اسْتِقامَتِها، بقولهم إنها ليستْ بحَقٍّ، وإنَّ الحَقَّ ما هم فيه، من سلوكٍ ومعتقدات. أو يَطلبونَ لها تَأْويلاً وإمالَةً إلى الباطلِ،أو: يَبْغونَ الدِّين الذي فيه عِوَجٌ، وهو دينُ الشَيْطانِ؛ كما قال في سورة الأنعام: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية: 153، فالعِوَجُ هنا هوَ التَفَرُّقُ الذي ذُكر هناك في تلك الآيةِ. والعِوَجُ إمَّا على أَصْلِهِ وهو المَيْلُ أَوِ الإمالَةُ، ويُقالُ فيما يُدْرَكُ بالبَصَرِ كالخَشَبِ المُنْتَصِبِ ونَحْوِه، أو فيما يُدْرَكُ بِفِكْرٍ وبَصيرَةٍ. فهو يشمَلُ ما هو حِسِّيٌّ، وما هو معنويٌّ. والعربُ تقولُ للميلِ في الدِّين والطريقِ: "عِوَج" بِكسر "العين"، وفي المَيْلِ على الشيءِ تقولُ: "عاجَ إليه يَعُوج عِيَاجًا وعَوَجًا وعِوَجًا"، بكسرِ العينِ وفتحها، قال الشاعر:
قِفَا نَسْأَلْ مَنَازِلَ آلِ لَيْلى...................... عَلَى عِوَجٍ إلَيْهَا وَانْثِنَاءِ
فأَمَّا ما كانَ خُلقةً في الإنسان، فإنَّه يُقالُ فيه:"عَوَجُ ساقِهِ"، بِفَتْحِ العَيْنِ.
قولُهُ: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ} غَيرُ مُعترفين بالقِيامَةِ وما فيها، أَيْ وَكَانُوا بِهَا كَافِرِينَ، فَحُذِفَ وَهُوَ كثير في كلامِ العربِ، وقد عُدِلَ عَنِ الجُملةِ الفعلِيَّةِ إلى الاسْمِيَّةِ للدَلالَةِ على الدَوامِ والثَباتِ إشارةً إلى رًسوخِ الكُفرِ فيهم، وقُدِّمَ الجارُّ والمجرورُ "بالآخرة" على مُتَعَلَّقِه "كافرون" لِرِعايَةِ الفَواصِلِ. فالأصلُ أنْ يقالَ: وهم كافرون بالآخرة.
قولُهُ تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} الذين: اسم موصول مبني في محلّ رفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره "هم" أو في محلّ نصب مفعول به لفعل محذوف تقديره أعني. أو في محلّ جرّ نعت للظالمين أو البدل أو عطف البيان. ويصدّون" فعلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ، وعلامةُ رفعه ثبوتُ النون لأنَّه من الأفعال الخمسةِ. والواوُ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ، ومَفعولُه محذوفٌ أي: يَصُدُّون النَّاسَ. ويَجوزُ أَلاَّ يُقَدَّرَ لَهُ مَفْعولٌ، والمَعنى: الذين مِنْ شأنِهِمُ الصَدُّ، كقولِهم: "هو يُعطي ويَمنَعُ". ويَجوزُ أَنْ يَكونَ "يَصُدُّون" بمَعْنى يُعْرضون، مِنْ صَدَّ صُدوداً فيَكونُ لازِماً ولا يطلُبُ مفعولاً البتةَ."عن سبيل" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعلِّقٌ بـ "يصدّون" و"سبيلِ" مضافٌ، و"اللهِ" لَفْظُ الجَلالَةِ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليه. وجملةُ "الذين" استنافيةٌ لا محلَّ لها من الإعراب. وكذلك وجملة "يصدّون" لا مَحَلَّ لَها من الإعراب لأنها صلةُ الاسمِ الموصولِ "الذين".
قولُهُ: "ويبغونَها عِوَجاً" الواو: عاطفة، "يبغون" مثل يَصُدُّون، و"ها" ضمير مفعول به، "عوجاً" مَصدَرٌ بِتأويلِ مُشتَقٍّ، أيْ: مُعْوَجَّةً، وهو في مَوْضِعِ نَصْبِ حالٍ، وجُملةُ "يَبْغونَها" مَعْطوفةٌ على جُملَةِ الصِلَةِ فَلا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ} الواو: عاطفة، أوْ حاليَّةٌ. "هم" ضميرٌ مُنفصلٌ مَبْني على السكونِ في مَحَلِّ رَفعِ مُبْتَدأٍ. "بالآخرةِ" جارٌّ ومَجرورٌ مُتَعلِّقٌ بـ "كافرون" و"كافرون" خبرُ المُبتَدَأِ مَرْفوعٌ وعلامةُ رفعِه الواوُ لأنَّه جمع مذكَّرٍ سالمٌ، والنون عوَضاً عن التنوين في الاسمِ المفرد. وجملةُ "هم كافرون" إما معطوفة على حملة الاستئناف قبلها فلا مَحلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ، أوْ في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحالِ.