وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً، قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ، وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
(85)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنُهُ: {وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً} عطفٌ على مَا سَبَقَ، وأَرْسَلْنا إلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً، وسُمِعَ "مديان" بألف ممدودة، قِيلَ فِي مَدْيَنَ: اسْمُ بَلَدٍ وَقُطْرٍ. وَقِيلَ: اسْمُ قَبِيلَةٍ كَمَا يُقَالُ: بَكْر وَتَمِيم وتَيم وتَغْلِب وعديّ وهاشم ... إلخ. وَقِيلَ: هُمْ مِنْ وَلَدِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ وَمَدْيَنُ أُمَّةٌ سُمِّيَتْ بِاسْمِ جَدِّهَا مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ زَوْجِهِ الثَّالِثَةِ الَّتِي تَزَوَّجَهَا فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَاسْمُهَا قَطُورَا. وَتَزَوَّجَ مَدْيَنُ ابْنَةَ لُوطٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ وَوُلِدَ لَهُ أَبْنَاءٌ: هُمْ (عَيْفَةُ) وَ(عَفَرُ) وَ(حَنُوكُ) وَ(ابْيَدَاعُ) وَ(أَلْدَعَةُ). وَقَدْ أَسْكَنَهُمْ إِبْرَاهِيمُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ فِي دِيَارِهِمْ، وَكانتْ وسَطًا بَيْنَ مَسْكَنِ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ وَمَسْكَنِ ابْنِهِ إِسْحَاقَ ـ عَلَيْهِما السَّلَامُ ـ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ تَفَرَّعَتْ بُطُونُ مَدْيَنَ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ نَحْوَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، وَمَوَاطِنُهُمْ بَيْنَ الْحِجَازِ وَخَلِيجِ الْعَقَبَةِ بِقُرْبِ سَاحِلِ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ، وَقَاعِدَةُ بِلَادِهِمْ (وَجُّ) عَلَى الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ وَتَنْتَهِي أَرْضُهُمْ مِنَ الشَّمَالِ إِلَى حُدُودِ مَعَانٍ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، وَإِلَى نَحْوِ تَبُوكَ مِنَ الْحِجَازِ، وَتُسَمَّى بِلَادُهُمُ (الْأَيْكَةَ). والأيكةُ: مَنْطِقَةٌ مَلِيئَةٌ بالشَجَرِ، كانَتْ مُجاوِرَةً لِقَرْيَةِ (مَعان)، وَيُقَالُ: إِنَّ الْأَيْكَةَ هِيَ (تَبُوكُ) ذاتُها فَعَلَى هَذَا هِيَ مِنْ بِلَادِ مَدْيَنَ، وَكَانَتْ بِلَادُهُمْ قُرًى وَبَوَادِي، وَكَانَ شُعَيْبٌ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ مِنَ الْقَرْيَةِ وَهِيَ (الْأَيْكَةُ)، وَقَدْ تَعَرَّبُوا بِمُجَاوَرَتِهمُ القبائلَ الْعَرَبِيَّةِ وَكَانُوا فِي مُدَّةِ شُعَيْبٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ تَحْتَ مُلُوكِ مِصْرَ، وَقَدِ اكْتَسَبُوا العَرَبِيَّةَ بِمُجَاوَرَةِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَمُخَالَطَتِهِا كَوْنَهُمْ فِي طَرِيقِ مِصْرَ، فَأَصْبَحُوا فِي عِدَادِ الْعَرَبِ الْمُسْتَعْرِبَةِ، مِثْلَ بَنِي إِسْمَاعِيلَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ وَقَدْ عُرِفَ شَاعِرٌ مِنْهم فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِأَبِي الْهَمَيْسَعِ، وَمِنْ شعرِهِ قولُهُ:
إِنْ تَمْنَعِي صَوْبَكِ صَوْبَ الْمَدْمَعِ ..... يَجْرِي عَلَى الخدِّ كَضِئْبِ الثَّغْثَعِ
ضئبُ الثَّغْثَغ: صَدَفُ اللؤلؤ، ومِنْ شِعرِه قصيدةٌ شِينيَّة مَطْلِعُها: بَهَشُوا الخِرباشَ عَنْه بَرْخَشوا .......... طَسَعوا عَنْ دَارِ مَيَّ حين تشُّوا
كما ترى فإنَّ معظمَ مُفرداتِهِ مِنَ المَتْروكِ المُسْتَوْحَشِ. وقال الفراَّء هو عربيٌّ اسمُ بَلَدٍ فمَنْعُهُ للعَلَمِيَّة والتأنيثِ وأَنْشَدَ لِكُثَيِّرِ عَزَّةَ:
رهبانُ مَدْيَنَ والذين عَهِدْتُهُمْ .......... يبكون مِنْ حَذَرِ العذابِ قُعودا
لو يَسْمعون كما سمعتُ كلامَها .............. خَرُّوا لعَزَّةَ رُكَّعاً وسُجودا
وَيُقَالُ: إِنَّ الْخَطَّ الْعَرَبِيَّ أَوَّلُ مَا ظَهَرَ فِي مَدْيَنَ. وَشُعَيْبٌ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ هُوَ رَسُولٌ لِأَهْلِ مَدْيَنَ، وَهُوَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، ألم تَرَ أنَّهُ تعالى قال عنه "أخاهم" واسْمُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ شُعَيْبٌ، وقالوا يَجوزُ أَنْ يَكونَ تَصْغيرَ شِعْبٍ أوْ شَعْبِ، والأَدَبُ أَلاَّ يُقالَ ذلك، بَلْ إنَّهُ مَوْضوعٌ على هذِه الزِّنَة، وأمَّا أَسْماءُ الأنْبياءِ فَلا يَدْخل فيها تصغيرٌ البَتَّةَ إلاَّ ما نَطَقَ بِهِ القُرآنُ على صِيغةٍ تُشْبِهُهُ كَشُعَيْبٍ ـ عليهِ السلامُ ـ وهو اسمٌ عربيٌّ لا أَعْجَمِيٌّ. وَاسْمُهُ فِي العِبْريَّةِ: (يَثْرُونُ) كما جاءَ في التوراةِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا (رَعْوَئِيلَ) وَهُوَ ابْنُ (نُوَيْلَى أَوْ نُوَيْبِ) بْنِ (رَعْوِيلَ) بْنِ (عَيْفَا) بْنِ (مَدْيَنَ). وَكَانَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ لَمَّا خَرَجَ مِنْ مِصْرَ نَزَلَ بِلَادَ مَدْيَنَ وَزَوَّجَهُ شُعَيْبٌ ابْنَتَهُ الْمُسَمَّاةَ (صَفُورَهْ) وَأَقَامَ أجيراً عِنْدَهُ عَشْرَ سِنِينَ كمهرٍ لِزَوْجِهِ. وَقَدْ خَبَطَ فِي نَسَبِ مَدْيَنَ وَنَسَبِ شُعَيْبٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ جَمْعٌ عَظِيمٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ. وَعَدَّ الصَّفَدِيُّ شُعَيْبًا فِي الْعُمْيَانِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى سَنِدٍ لذَلِكَ فِي الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ. فَمَنْ رَأَى أَنَّ مَدْيَنَ اسْمُ رَجُلٍ لَمْ يَصْرِفْهُ لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ أَعْجَمِيٌّ. وَمَنْ رَآهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ أَوِ الْأَرْضِ فَهُوَ أَحْرَى بِأَلَّا يَصْرِفَهُ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَيُرْوَى أَنَّهُ كَانَ ابْنَ بِنْتِ لُوطٍ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: كَانَ زَوْجَ بِنْتِ لُوطٍ. وَاخْتُلِفَ فِي نَسَبِهِ، فَقَالَ عَطَاءٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا: وَشُعَيْبٌ هُوَ ابْنُ مِيكِيلَ بْنَ يَشْجُرَ بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَانَ اسْمُهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ بَيْرُوتَ. وَأُمُّهُ مِيكَائِيلُ بِنْتُ لُوطٍ. وَزَعَمَ الشرقيُّ بْنُ القَطامِيِّ أنَّ شُعيباً بْنُ عَيْفَاءَ بْنِ يَوْبَبَ بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وزَعَمَ ابْنُ سِمْعانَ أَنَّ شُعَيْباً بِنَ جَزَى بْنِ يَشْجُرَ بْنِ لَاوَى بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَشُعَيْبٌ تَصْغِيرُ شَعْبٍ أَوْ شِعْبٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ شُعَيْبُ بْنُ يَوْبَبَ. وَقِيلَ: هو شُعَيْبُ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ عَيْفَاءَ بْنِ ثَابِتِ بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. والذي نَطْمَئِنُّ إليْهِ هو ما ذَكَرْناهُ أَوَّلاً واللهُ أَعْلَمُ.
وقَدِ اخْتُلِفَ كذلكَ في المَبْعوثِ إلَيْهِم، فقيلَ هُمْ أُمَّةٌ واحدةٌ. وقِيلَ: بَلْ أُمَّتان، مَدْيَنَ وأَصْحابُ الأَيْكَةِ، قالَ السُّدِّيُّ وعِكْرِمَةُ ـ رضيَ اللهُ تَعالى عنهما: ما بَعَثَ اللهُ تَعالى نَبِيّاً مَرَّتَيْنِ إلاَّ شُعَيْباً، مَرَّةً إلى مَدْيَنَ، وأبعد بعضهم فأضافَ أمَّة ثالثة هي "الرَسّ". فأَخَذَهُمُ اللهُ تعالى بالصَيْحَةِ، ومَرَّةً إلى أَصْحابِ الأَيْكَةِ، فأَخَذَهُمُ الله تَعالى بِعَذابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ. وأَخْرَجَ ابْنُ عَساكِرَ في (تاريخِهِ) مِنْ حَديثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ـ رضي اللهُ عنهما ـ مَرْفوعاً أَنَّ قَوْمَ مَدْيَنَ وأَصْحابَ الأَيْكَةِ أُمَّتانِ، بَعَثَ اللهُ تعالى إليْهِما شُعيْباً. وهو كَما قالَ ابْنُ كَثيرٍ حدثٌ غَريبٌ وفي رَفْعِهِ نَظَرٌ واخْتارَ أَنَّهما أُمَّةٌ واحدةٌ، واحْتَجَّ بأنَ كلاًّ مِنْهُما وَعَظَ بِوَفاءِ المِيزانِ والمِكْيالِ وهُو يَدُلَّ على أَنَّهما واحدٌ.
قولُهُ: {قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} لقَدِ ابْتَدَأَ الدَّعْوَةَ بِالْإِيمَانِ لِأَنَّ بِهِ صَلَاحَ الِاعْتِقَادِ وَالْقَلْبِ، وَإِزَالَةَ الزَّيْفِ مِنَ الْعَقْلِ. وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ لِحُسْنِ مُرَاجَعَتِهِ قَوْمَهُ، أي مُححاورته لهم. وكان نبيُّنا ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ إذا ذُكِرَ شُعيب يَقول: ((ذلكَ خَطيبُ الأَنْبياءِ لِحُسْنِ مُراجَعَتِه قومَه)) أي محاورته لهم، أَخْرَجَهُ ابْنُ عَساكِر عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضيَ اللهُ تعالى عنهُما ـ وَكَانَ قَوْمُهُ أَهْلَ كُفْرٍ بِاللهِ وَبَخْسٍ لِلْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ. وتَجْرِيدَ فِعْلِ قالَ يَا قَوْمِ مِنَ الْفَاءِ ـ هُنَا ـ يَتَرَجَّحُ أَنَّهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ هَذَا لَيْسَ هُوَ الَّذِي فَاتَحَهُمْ بِهِ فِي ابْتِدَاءِ رِسَالَتِهِ بَلْ هُوَ مِمَّا خَاطَبَهُمْ بِهِ بَعْدَ أَنْ دَعَاهُمْ مِرَارًا، وَبَعْدَ أَنْ آمَنَ بِهِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ كَمَا يَأْتِي.
قولُهُ: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أَيْ بَيَانٌ وحُجَّةٌ ومعجزة وبرهان مِنْ رَبِّكُمْ بِحقيقةِ ما أَقولُ وصِدْقِ ما أَدَّعي مِنَ النُبُوَّةِ والرِسالَةِ، غيرَ أنَّ تِلكَ المُعْجِزَةِ التي كانتْ لِشُعيب لم تذكر في القرآن وليست كل آيات الأنْبياءِ مَذكورةً في القُرآنِ، فقيل بَيِّنَةُ شُعَيْبٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ الَّتِي جَاءَتْ فِي كَلَامِهِ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أُطْلِقَتْ عَلَى الْآيَةِ لِمُعْجِزَةٍ أَظْهَرَهَا لِقَوْمِهِ عَرَفُوهَا وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْقُرْآنُ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ حُجَّةً أَقَامَهَا عَلَى بُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَسُوءِ الْفِعْلِ، وَعَجَزُوا عَنْ مُجَادَلَتِهِ فِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ مِثْلُ الْمُجَادَلَةِ الَّتِي حُكِيَتْ فِي سُورَةِ هُودٍ فَتَكُونُ الْبَيِّنَةُ أُطْلِقَتْ عَلَى مَا يُبَيِّنُ صِدْقَ الدَّعْوَى، لَا عَلَى خُصُوصِ خَارِقِ الْعَادَةِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالْبَيِّنَةِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا} أَيْ يَكُونُ أَنْذَرَهُمْ بِعَذَابٍ يَحُلُّ بِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، كَمَا قَالَ فِي سورة الشعراء: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} الآية: 187. فَيَكُونُ التَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: قَدْ جاءَتْكُمْ مُرَادًا بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ الْقَرِيبُ، تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ عَرَضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ آيَةً، أَيْ مُعْجِزَةً لِيُؤْمِنُوا، فَلَمْ يَسْأَلُوهَا وَبَادَرُوا بِالتَّكْذِيبِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى كما حَكَاهُ اللهُ في سورةِ الأعْرافِ عَنْ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها} الْآيَتان: 105،106. فَيَكُونُ مَعْنَى: قَدْ جاءَتْكُمْ قَدْ أُعِدَّتْ لِأَنْ تَجِيئَكُمْ إِذَا كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ عِنْدَ مَجِيئِهَا.
قَوْلُهُ: {فأَوْفُوا الكَيْلَ والمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ} الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ ـ سبحانَه: "فَأَوْفُوا الكَيْلَ" لِتَرْتيبِ الأَمْرِ على مَجىءِ البَيْنَةِ، واحتمالُ كونِها عاطفةً على "اعْبُدوا" بعيدٌ، فكأنَّهُ قِيلَ: قدْ جاءتْكُم مُعْجِزَةٌ شَاهِدَةٌ بِصِحَّةِ نُبُوَّتي أَوْجَبَتْ عليكُمُ الإيمانَ بِها والأخْذَ بِما أَمَرْتُكُمْ بِهِ فأَوْفوا ... الخ؛ ولَوِ ادَّعى مُدَّعٍ النُبُوَّةَ بِغيرِ مُعْجِزَةٍ لَمْ يُقبَلْ مِنْهُ لأنَّها دَعْوى أَمْرٍ غيرِ ظاهرٍ. وفيهِ إلزامٌ للغيرِ، ومِثْلُ ذلكَ لا يُقْبَلُ بغيرِ بَيِّنةٍ. وقال الزمخشريُّ: إنَّ مِنْ مُعْجِزاتِهِ ـ عليه السلامُ ـ ما رُوِيَ مِنْ مُحارَبَةِ عَصا مُوسى ـ عليه السلامُ ـ التِنّينَ حينَ دَفَعَ إليْهِ غَنَمَهُ، وَوِلادَةُ الغَنَمِ الدِرْعَ خاصَّةً حينَ وَعَدَهُ أَنْ يَكونَ لَهْ الدِرْعُ مِنْ أَوْلادِها، ووُقوعُ عَصا آدَمَ ـ عليْهِ السَّلامُ ـ على يَدِهِ في المَرَّاتِ السَبْعِ، وغيرِ ذلكَ مِنَ الآياتِ لأنَّ هَذِهِ كُلَّها كانت قَبْلَ أَنْ يُسْتَنْبَأَ موسى ـ عليه السلامُ ـ فكانتْ مُعْجِزاتٍ لِشُعَيْب. وفيهِ نَظَرٌ لأنَّ ذَلِكَ جاء متأخراً بعد أن هلك قومُه، لأنَّ مُوسى أَدْرَكَ شُعَيْباً ـ عليهما السَّلامُ ـ بعدَ هَلاكِ قومِهِ، ولأنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ في مَعْرِضِ التَحَدّي.
والْكَيْلُ مَصْدَرٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُكَالُ بِهِ، كالعَيْشِ بِمَعْنَى ما يُعاشُ به، وَهُوَ الْمِكْيَالُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى في سورة يُوسُف: {وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} الآية: 65. وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا: لِمُقَابَلَتِهِ بِالْمِيزَانِ، وَلِقَوْلِهِ فِي سورة هود: {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ} الآية: 84. وَمَعْنَى. إِيفَاءِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ أَنْ تَكُونَ آلَةُ الْكَيْلِ وَآلَةُ الْوَزْنِ بِمِقْدَارِ مَا يُقَدَّرُ بِهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُقَدَّرَةِ. وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَيْنِ التَّحَيُّلَيْنِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمَذْكُورَيْنِ: لِأَنَّهُمَا كَانَا شَائِعَيْنِ عِنْدَ مَدْيَنَ، وَلِأَنَّ التَّحَيُّلَاتِ فِي الْمُعَامَلَةِ الْمَالِيَّةِ تَنْحَصِرُ فِيهِمَا إِذْ كَانَ التَّعَامُلُ بَيْنَ أَهْلِ الْبَوَادِي مُنْحَصِرًا فِي الْمُبَادَلَاتِ بِأَعْيَانِ الْأَشْيَاءِ: عَرْضًا وَطَلَبًا. وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ النَّهْيَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أَفَادَ مَعْنًى غَيْرَ الَّذِي أَفَادَهُ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ. وَلَيْسَ ذَلِكَ النَّهْيُ جَارِيًا مَجْرَى الْعِلَّةِ لِلْأَمْرِ، أَوِ التَّأْكِيدِ لِمَضْمُونِهِ، كَمَا فَسَّرَ بِهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَضْمُونِ مَعْنَى بَيِّنَةٌ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، فَلَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِهِ وَكَانَ قَدْ أَمَرَهُمْ بالتَّوحيدِ بادِئَ بَدْءٍ، لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ الْقَلْبِ، شَرَعَ يَأْمُرُهُمْ بِالشَّرَائِعِ مِنَ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي: "إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" فَتِلْكَ دَعْوَةٌ لِمَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِهِ بِأَنْ يُكْمِلُوا إِيمَانَهُمْ بِالْتِزَامِ الشَّرَائِعِ الْفَرْعِيَّةِ، وَإِبْلَاغٌ لِمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمَا يَلْزَمُهُمْ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ. وَفِي دَعْوَةِ شُعَيْبٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ قَوْمَهُ إِلَى التَّوْحِيدِ مَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْبَشَرَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ قَدْ تَطَوَّرَتْ نُفُوسُهُمْ تَطَوُّرًا هَيَّأَهُمْ لِقَبُولِ الشَّرَائِعِ الْفَرْعِيَّةِ، فَإِنَّ دَعْوَةَ شُعَيْبٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ كَانَتْ أَوْسَعَ مِنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ هُودٍ وَصَالِحٍ ـ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ـ إِذْ كَانَ فِيهَا تَشْرِيعُ أَحْكَامٍ فَرْعِيَّةٍ وَقَدْ كَانَ عَصْرُ شُعَيْبٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ قَدْ أَظَلَّ عَصْرَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ الَّذِي جَاءَ بِشَرِيعَةٍ عَظِيمَةٍ مَاسَّةٍ نَوَاحِيَ الْحَيَاةِ كُلِّهَا.
والبخسُ فِي السِّلْعَةِ يكونُ بِالتَّعْيِيبِ وَالتَّزْهِيدِ فِيهَا، أَوِ الْمُخَادَعَةِ عَنِ الْقِيمَةِ، وَالِاحْتِيَالِ فِي التَّزَيُّدِ فِي الْكَيْلِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالسَّالِفَةِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ ـ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَى جَمِيعِهِمْ. وَفُسِّرَ الْبَخْسُ بِالنَّقْصِ، وَزَادَ الرَّاغِبُ الأصفهانيُّ قَيْدًا، فَقَالَ: نَقْصُ الشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ، وقَال أَبو بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ فِي (أَحْكَامِ الْقُرْآنِ): الْبَخْسُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ هُوَ النَّقْصُ بِالتَّعْيِيبِ وَالتَّزْهِيدِ أَوِ الْمُخَادَعَةُ عَنِ الْقِيمَةِ أَوِ الِاحْتِيَالُ فِي التَّزَيُّدِ فِي الْكَيْلِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ. وَقال ابْنُ سِيدَهْ فِي (الْمُخَصَّصِ) الْبَخْسُ فِي بَابِ الذَّهَابِ بِحَقِّ الْإِنْسَان. فَهو إذاً إِنْقَاصُ شَيْءٍ مِنْ صِفَةٍ أَوْ مِقْدَارٍ هُوَ حَقِيقٌ بِكَمَالٍ فِي نَوْعِهِ، وفِيهِ مَعْنَى الظُّلْمِ وَالتَّحَيُّلِ. فَالْبَخْسُ حَدَثٌ يَتَّصِفُ بِهِ فَاعِلٌ وَلَيْسَ صِفَةً لِلشَّيْءِ الْمَبْخُوسِ فِي ذَاتِهِ، إِلَّا بِمَعْنَى الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى في سورة يُوسُف: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} الآية: 20. أَيْ دُونَ قِيمَةِ أَمْثَالِهِ، أَيْ تَسَاهَلَ بَائِعُوهُ فِي ثَمَنِهِ لِأَنَّهُمْ حَصَّلُوهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَا كُلْفَةٍ. وَقَدْ يَكُونُ الْبَخْسُ مُتَعَلِّقًا بِالْكَمِّيَّةِ كَمَا يَقُولُ الْمُشْتَرِيَ: لا يَزِنُ هَذَا أَكْثَرَ مِنْ كذا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَزِنُ أكثر، أَوْ يَقُولُ: إنَّ سِعْرَ هذا اليومَ كذَا فِي حِينِ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَبْلُغُ أكثرَ مِنْ ذلك، وَقَدْ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالصِّفَةِ فيعيبُه بشيءٍ ليس فيه، وَيَكُونُ طَرِيقُ الْبَخْسِ قَوْلًا، كَمَا مَثَّلْنَا، وَفِعْلًا كَمَا يَكُونُ مِنْ بَذْلِ ثَمَنٍ رَخِيصٍ فِي شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبَاعَ غَالِيًا، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْبَخْسِ أَنْ يَنْتَفِعَ الْبَاخِسُ الرَّاغِبُ فِي السِّلْعَةِ الْمَبْخُوسَةِ بِأَنْ يَصْرِفَ النَّاسَ عَنِ الرَّغْبَةِ فِيهَا فَتَبْقَى كَلًّا عَلَى جَالِبِهَا فَيَضْطَرُّ إِلَى بَيْعِهَا بِثَمَنٍ زَهِيدٍ، وَقَدْ يُقْصَدُ مِنْهُ إِلْقَاءُ الشَّكِّ فِي نَفْسِ جَالِبِ السِّلْعَةِ بِأَنَّ سِلْعَتَهُ هِيَ دُونَ مَا هُوَ رَائِجٌ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَدْخُلُهُ الْيَأْسُ مِنْ فَوَائِدِ نِتَاجِهِ فَتَكْسَلُ الْهِمَمُ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْبَخْسَ هُوَ بِمَعْنَى النَّقْصِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْفَاعِلِ بِالْمَفْعُولِ، لَا النَّقْصُ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الشَّيْءِ النَّاقِصِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ النَّقْصِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْهُ فِي الْمَعْنَى أَيْضًا.
وَحَاصِلُ مَا أَمَرَ بِهِ شُعَيْبٌ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ قَوْمَهُ، بَعْدَ الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ يَنْحَصِرُ فِي ثَلَاثَةِ أُصُولٍ: هِيَ حِفْظُ حُقُوقِ الْمُعَامَلَةِ الْمَالِيَّةِ، وَحِفْظُ نِظَامِ الْأُمَّةِ وَمَصَالِحِهَا، وَحِفْظُ حُقُوقِ حُرِّيَّةِ الِاسْتِهْدَاءِ.
فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ فَإِيفَاءُ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ يَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ حُقُوقِ الْمُشْتَرِينَ، لِأَنَّ الْكَائِلَ أَوِ الْوَازِنَ هُوَ الْبَائِعُ، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُ حُبُّ الِاسْتِفْضَالِ عَلَى تَطْفِيفِ الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ، لِيَبيعَ النَّاقِصَ بِثَمَنِ الْوَافِي، كَمَا يَحْسَبُهُ الْمُشْتَرِي.
وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ بَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ فَيَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ حُقُوقِ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ الَّذِي يَبْخَسُ شَيْءَ الْبَائِعِ لِيُهَيِّئَهُ لِقَبُولِ الْغَبْنِ فِي ثَمَنِ بضاعتِهِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ حِيلَةٌ وَخِدَاعٌ لِتَحْصِيلِ رِبْحٍ مِنَ الْمَالِ.
وَمَا جَاءَ فِي هَذَا التَّشْرِيعِ هُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ رَوَاجِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ لِأَنَّ الْمُعَامَلَاتِ تَعْتَمِدُ الثِّقَةَ الْمُتَبَادَلَةَ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِشُيُوعِ الْأَمَانَةِ فِيهَا، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ نَشِطَ النَّاسُ لِلتَّعَامُلِ فَالْمُنْتِجُ يَزْدَادُ إِنْتَاجًا وَعَرْضًا فِي الْأَسْوَاقِ، وَالطَّالِبُ مِنْ تَاجِرٍ أَوْ مُسْتَهْلِكٍ يُقْبِلُ عَلَى الْأَسْوَاقِ آمِنًا لَا يَخْشَى غَبْنًا وَلَا خَدِيعَةً وَلَا خِلَابَةً، فَتَتَوَفَّرُ السِّلَعُ فِي الْأُمَّةِ، وَتَسْتَغْنِي عَنِ اجْتِلَابِ أَقْوَاتِهَا وَحَاجِيَّاتِهَا وَتَحْسِينِيَّاتِهَا، فَيَقُومُ نَمَاءُ الْمَدِينَةِ وَالْحَضَارَةِ عَلَى أَسَاسٍ مَتِينٍ، وَيَعِيشُ النَّاسُ فِي رَخَاءٍ وَتَحَابُبٍ وَتَآخٍ، وَبِضِدِّ ذَلِكَ يَخْتَلُّ حَالُ الْأُمَّةِ بِمِقْدَارِ تَفَشِّي ضِدِّ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها} عَطْفٌ عَلَى "وَلا تَبْخَسُوا". وَهُوَ لَفْظٌ يَعُمُّ دَقِيقَ الْفَسَادِ وَجَلِيلَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الْأَرْضُ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ اللهُ شُعَيْبًا رَسُولًا يُعْمَلُ فِيهَا بِالْمَعَاصِي وَتُسْتَحَلُّ فِيهَا الْمَحَارِمُ وَتُسْفَكُ فِيهَا الدِّمَاءُ. قَالَ: فَذَلِكَ فَسَادُهَا. فَلَمَّا بَعَثَ اللهُ شُعَيْبًا وَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ صَلَحَتِ الْأَرْضُ. وكذلك جميعُ الأنبياءِ ـ عليهم السلامُ ـ فقد جاءَ كلُّ نبيٍّ بما فيه صلاحُ أحوالِ أُمَّتِهِ في الدنيا، وفوزهم بمرضاةِ اللهِ وجنَّتِه في الآخرة.
قولُهُ تعالة: {وإلى مدين أخاهم شعيباً} و: استئنافيَّة، "إلى" حرفُ جَرٍّ، "مَدْينَ" اسمٌ مجرورٌ بحرف الجرِّ مُتَعلِّقٌ بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ تَقديرُهُ "أَرْسَلْنا". "أخاهم" أخا: مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ بـ {أرسلنا} وعلامَةُ نَصبِهِ الألِفُ لأنَّه مِنَ الأَسْماءِ الخَمْسَةِ، وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليه، والميمُ: علامةُ التذكير. و"شُعَيْباً" بَدَلٌ مِنَ "أخاهم"، أو عَطفُ بيانٍ لَهُ منصوبٌ مثلُه. وجملةُ "أرسلنا إلى مَدْيَنَ" استئنافيَّةٌ لا محلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ.
قولُه: {قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ} "قال" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، والفاعلُ ضميرٌ مستتِرٌ جوازاً تقديرُهُ "هو". "يا" أداةُ نداءٍ، "قومِ" مُنادى مُضافٌ مَنْصوبٌ وعلامَةُ نصبِهِ فتحةٌ مُقدَّرةٌ على ما قبلِ الياءِ المَحْذوفةِ للتَخفيفِ، وياءُ النسبةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ في مَحَلِّ جَرِّ مُضافٍ إليْه. "اعبدوا" فعلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ على حَذْفِ النّونِ لأنَّه من الأفعالِ الخمسةِ. والواوُ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ، والألفُ فارقةٌ. "اللهَ" لفظُ الجَلالةِ مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، وعلامةُ نصبِهِ الفتحةُ الظاهرةُ. وجملةُ: "قال" في مَحَلِّ نَصْبِ حالٍ بِتَقْديرِ (قد) أوْ هي اسَتِئْنافٌ بَيانِيٌّ لا مَحَلَّ لَها من الإعراب. وجُملةُ "النداء وجوابها" في محلّ نَصْبِ مَقولِ القَوْلِ. وجملة "اعبدوا" جوابُ النداء فلا مَحلَّ لَها من الإعرابِ.
قولُهُ: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} "ما" نافيةٌ، و"لكم" اللامُ حرفُ جَرٍّ، والكافُ: ضميرٌ متَّصلٌ في مَحَلِّ جَرٍّ بحرفِ الجَرِّ مُتَعَلِّقٌ بمَحذوفِ خبرٍ مُقدَّمٍ، والميمُ علامةُ المذكَّر. "من" حرفُ جَرٍّ زائدٍ. "إلهٍ" مَجرورٌ لَفْظاً مَرْفوعٌ مَحَلاًّ على أنَّه مُبتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ. "غيرُ" نَعْتٌ لـ "إلهٍ" تَبِعَه في المَحلِّ فهوَ مَرْفوعٌ. وهو مضافٌ، و"الهاءُ" ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليْه. وجملة "ما لكم" تعليلية لا مَحَلَّ لَها من الإعرابِ.
قولُه: {قد جاءتكم بنّية من ربّكم} قد: للتحقيق، "جاءتكم" جاءَ: فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهر، والتاءُ: للتَأنيثِ، والكاف: ضميرٌ مُتَّصلٌ في محلِّ نصبِ مفعولٍ به، والميمُ لجمع الذكور. "بَيِّنَةٌ" فاعلٌ مرفوعٌ وعلامةُ رفعِهِ ظاهرةٌ على آخره. "من" حرفُ جَرٍّ، "رَبِّكُم" ربِّ: اسمٌ مجرورٌ بحرف الجرِّ متعلِّقٌ بـ "جاءتكم" وهو مضافٌ، والكاف: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرٍّ بإضافة "ربِّ" إليه، والميم: لجمع الذكور، وجُملةُ "قد جاءتكم بينة" اسْتِئْنافٌ في حَيِّزِ قَوْلِ شُعَيْبٍ لا محلّ لها من الإعرابِ.
قولُه: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ} الفاء: رابِطَةٌ لِجوابِ شرطٍ مُقَدَّرٍ
"أوفوا" فعلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ على حَذْفِ النُونِ لأنّهُ من الفعال الخمسةِ، والواو الدالةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ، والألفُ للتفريق. "الكيل" مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، وعلامةُ نصبِهِ الفتحةُ الظاهرةُ. و"و" عاطفةٌ، "الميزانَ" مَعْطوفٌ على "الكَيْلَ" مَنْصوبٌ مثله. وجُملةُ "أوفوا الكيل" في مَحَلِّ جَزْمِ جَوابِ شَرْطٍ مُقَدِّرٍ، أَيْ: إِنْ آمَنْتُمْ بالبَيِّنَةِ "فأَوْفُوا....". ويَجوزُ أَنْ تَكونَ الفاءُ لِرَبْطِ المُسبّبِ بالسبَبِ فتَعْطِفَ جُملةَ "أَوْفوا" الإنشائيَّةَ على جُمْلَةِ جاءتْكمْ الخَبَرِيَّةِ.
قولُهُ: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ} و: عاطفة، "لا" ناهيةٌ جازمةٌ، "تَبْخَسوا" فعلٌ مُضارعٌ مَجزومٌ، وعلامةُ جَزْمِهِ حَذْفُ النُونِ لأنَّه من الأفعال الخمسةِ، والواو: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ في مَحَلِّ رَفْعِ فاعِلٍ، والألفُ للتفريق. "الناسَ" مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، وعلامةُ نصبِهِ الفتحةُ الظاهرةُ على آخره. "أشياءَ" مَفعولٌ بِهِ ثانٍ مَنْصوبٌ، والهاء: ضمير متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مضافٍ إليْه، والميم: علامة جمع المذكر. وجُملةُ "لا تَبْخَسُوا" مَعطوفةٌ على جُملَةِ "أَوْفوا الكيل".
قولُهُ: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها} و: عاطفةٌ، "لا تفسدوا" مثلُ لا تَبْخَسوا أَعلاه. "في الأرض" جارّ ومجرور متعلّق بـ "تفسدوا"، "بعد" ظَرفُ زَمانٍ مَنصوبٌ مُتَعَلِّقٌ بـ "تُفسدوا"، "إصلاحِ" مُضافٌ إليْهِ مَجْرورٌ، وعلامةُ جرِّه الكسرةُ الظاهرةُ وهو مضافٌ، والهاء: ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جَرِّ مضافٍ إليْهِ. وهذه الجُملةُ مَعطوفةٌ على جُمْلَةِ أَوْفُوا الكَيْلَ أيضاً.
قولُهُ: {ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} ذلكم: ذا: اسْمُ إِشارةٍ مَبْنِيٌّ في مَحَلِّ رَفْعٍ بالابتداءِ، واللامُ: للبُعْدِ، و"الكاف: للخِطابِ، والميمُ للجمع المذكَّر. وَالْإِشَارَةُ بِـ "ذلِكُمْ" إِلَى مَجْمُوعِ مَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُهُ، أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ، وَلِذَا أُفْرِدَ اسْمُ الْإِشَارَةِ. "خَيْرٌ" خَبَرُه مَرْفوعٌ. "لكم" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ، والكافُ: ضَميرٌ متَّصلٌ في مَحَلِّ جَرٍّ بحرف الجرِّ، مُتَعَلِّقٌ بالخبر "خير" وهذه الجملةُ تعليليَّةٌ فلا مَحَلَّ لها من الإعرابِ.
قولُه: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إنْ: حرفُ شَرْطٍ جازِمٌ. وَقَوْلُهُ: "إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" شَرْطٌ مُقَيِّدٌ لِقَوْلِهِ: "ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ". و"كنتم: فِعْلٌ ماضٍ نِاقِصٌ ـ ناسخٌ ـ مَبْنِيٌّ على السُكونِ لتِّصالِهِ بتاء الفاعل. وهي ضميرٌ متّصلٌ في محلِّ رفعِ اسْمْ "كان"، وهو في محلِّ جَزْمِ فِعْلِ الشَرْطِ، وجوابُهُ محذوفٌ دلَّ عليهِ ما قبلَه، والتقديرُ: إنْ كنتم مؤمنين فافعلوا ذلك الخير. "مؤمنين" خَبَرُ "كان" مَنصوبٌ، وعَلامَةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّه جمعٌ مذكَّرٌ سالمٌ، والنونُ عِوضاً عن التنوين في الاسمِ المفردِ. وهذه الجملةُ استئنافيَّةٌ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ، أو هي اعْتِراضِيَّةٌ بَيْنَ مُتعاطِفَيْنِ، أيْ بَيْنَ جُملةِ "لا تفسدوا" وجُمْلةِ {لا تَقْعُدوا} في الآيَةِ التَالِيَةِ.