وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
(43)
قولُه ـ تعالى شأنُه: {وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} إخْبارٌ مِنَ اللهِ ـ تعالى ـ أَنَّهُ يُنَقي قلوبَ ساكني الجَنَّةِ مِنَ الغِلِّ والحِقدِ، وذلك أنَّ صاحبَ الغِلِّ معذَّبٌ بِهِ، ولا عَذابَ في الجَنَّةِ وهذا مِمَّا يُنْعمُ بِهِ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، نَزْعُ الْغِلِّ مِنْ صُدُورِهِمْ.
وَالنَّزْعُ: الِاسْتِخْرَاجُ، أو القلعُ وهو أشَدُّ من الاستخراجِ، وَالْغِلُّ: الْحِقْدُ الْكَامِنُ فِي الصَّدْرِ، وَالْجَمْعُ غِلَالٌ. أَيْ أَذْهَبْنَا فِي الْجَنَّةِ مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِلِّ فِي الدُّنْيَا. وقد جاءَ بِصيغةِ الماضي (نَزَعْنا) إيذاناً بِتَحَقُّقِه.
قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْغِلُّ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ كَمَبَارِكِ الْإِبِلِ قَدْ نَزَعَهُ اللهُ مِنْ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ)). وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَميرَ المؤمنين ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: "وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ". أخرجَهُ البَيْهَقِيُّ في السُنَنِ الكُبْرى عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ. وأخرجه الحاكمُ في مُسْتَدرَكِه. وَقِيلَ: نَزْعُ الْغِلِّ فِي الْجَنَّةِ أَلَّا يَحْسُدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي تَفَاضُلِ مَنَازِلِهِمْ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قولُهُ: "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ" في الدنيا، يَنْزِعُ الله ـ عَزَّ وجَلَّ ـ مِنْ قُلوبِهم الغِلَّ، يَعني: مِنْ قُلوبِ المؤمنين، ويَجعَلُهم إخْوانًا بالإيمان؛ وهو كقولِهِ: {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} سورة ألِ عُمرانَ، الآية: 103. أَخْبَرَ أَنَّهم كانوا أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهمْ بالإيمان الذي أَكْرَمَهم بِهِ؛ حتّى صاروا إخواناً بعدَ ما كانوا أعداءً.
وقال الحَسَنُ: ليس في قلوبِ أَهْلِ الجَنَّةِ الغِلُّ والحَسَدُ؛ إذْ هُما يُهِمّانِ ويُحْزِنان؛ إنَّما فيها الحُبُّ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا في الآخِرَةِ، يَنْزِعُ اللهُ ـ تعالى ـ مِنْ قُلوبهِمُ الغِلَّ الذي كان فيما بَيْنَهم في الدُنيا، ويَصيرون جَميعًا إخْوانًا؛ كَقولِهِ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} سورة الحجر، الآية: 47. ذلك أنَّه لِطَهارةِ الجنَّةِ فإنَّ كلَّ مَنْ فيها مُطهَّرٌ حِسِّيّاً ومعنَويّاً، طهارةً كامِلَةً، طهارةَ الأَبْدانِ وطَهارةَ القُلوبِ التي في الصُدور، وإنَّ أَشَدَّ ما يُدَنِّسُ القلبَ الغِلُّ والحَسَدُ، والأحقادُ الدُنْيَويَّةُ. وهذا في مُقابَلَةِ ما ذَكَرَهُ ـ سُبْحانَهُ ـ مِنْ لَعْنِ أَهْلِ النَّارِ بَعْضَهم بَعْضاً.
وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ الطبريُّ، وابْنُ أَبي حاتِمٍ، وأَبو الشَيْخِ، عن السُّدِّيِّ أنَّه قال: (إنَّ أَهلَ الجَنَّةِ إذا سِيقوا إلى الجَنَّةِ فبلغوها، وجَدوا عِنْدَ بابِها شَجَرَةً، في أَصْلِ ساقِها عَيْنانِ، فيَشْرَبون، مِنْ إحداهُما، فيُنْزَعُ ما في صُدورِهِم مِنْ غِلٍّ، فهُوَ الشَرابُ الطَّهورُ، ويَغْتَسِلون، مِنَ الأُخْرى، فتَجْري عليهم نَضْرَةُ النَّعيمِ، فلن يَشْعَثوا، ولن يَشْحَبوا بعدَها أَبَداً). وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتِمٍ عَنِ الحسَنِ قالَ: (بَلَغَني أَنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ قال: ((يُحْبَسُ أَهْلِ الجَنَّةِ بَعدَما يَجوزون الصِّراطَ، حتّى يُؤخَذُ لِبَعضِهم مِنْ بَعْضٍ ظُلاماتِهم في الدنيا، فيَدْخُلونَ الجَنَّةَ وليس في قلوبٍ بَعْضٍ على بَعْضٍ غِلٌّ)).
قولُهُ: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ} أي تَجْري مياهُ الأنهارُ مِنْ تَحْتِ غُرفهم في الجنَّة زِيادةً في سرورِهم ولَذَّةِ نَعيمهم.
قولُهُ: {وَقالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدانا لِهذا} أَيْ لِهَذَا الفوز العظيم بالثَّوَابِ العميم، والنَّعيمِ المُقيمِ، بِأَنْ أَرْشَدَنَا وَخَلَقَ لَنَا الْهِدَايَةَ. فالمُرادُ أنْ هداهم لِما أَدَّى إلى ذلك الفوزِ بالجَنَّةِ، والفَلاحِ في الآخرةِ، مَنَ الأَعْمالِ القَلْبِيَّةِ، والطاعاتِ الجِسْمِيَّةِ، بالتَوفيقِ لَها وصَرْفِ المَوانِعِ عَنِ القيامِ بها. وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ. وقيل: المُرادُ بالهِدايةِ هنا أن هداهم لِما هُم فيهِ مِنْ مُجاوزَةِ الصِّراطِ إلى أنْ وَصَلوا إلى النعيم. ومِنهم مَنْ قال المرادُ بالهدايةِ هنا نَزْعُ الغِلِّ مِنَ الصُدورِ، وليس بشيء.
قولُه: {وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللهُ} يقولون ذلك شاكرين لله أنعُمه معترفين بفضلِهِ، إظهاراً للسُرورِ بما فازوا به مِنْ جزاءٍ، وما هم فيه من نعيمٍ مُقيم، وتَلَذُّذاً بالتَكَلُّمِ بِه، وليس للتَعَبُّدِ لأنَّ الدارَ الآخرة دارُ تَلَذُّذٍ بالنعيم، وليست دارَ عبادة.
قولُهُ: {لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ} بيانٌ لِصِدْقِ وَعْدِ الرُسُلِ ـ عليهِمُ الصلاةُ والسلام ـ بما وعدوهم به مِنْ جَنَّةٍ عَرضُها السمواتُ والأرضُ، وما فيها مِنْ أَلوانِ الملاذِّ وأصنافِ النعيم، وقيل: هو تعليلٌ لهدايتِهم. ولا يخفى ما في هذه الآيةِ مِنَ الرَدِّ الواضِحِ على القدريَّةِ المعتزلةِ الزاعمين أنَّ كلَّ مُهْتَدٍ خَلَقَ لِنَفْسِهِ الهُدَى ولَمْ يَخْلُقْه الله تعالى له، فهم يقولون: المُهْتَدي مَنِ اهْتَدى بِنَفْسِهِ واللهُ يقولُ حكايةً لقولِ المُوَحِّدين في مَقْعَدِ صِدْقٍ: "وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ".
قولُهُ: { وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ قِيلَ لَهُمْ: "تِلْكُمُ الْجَنَّةُ" لِأَنَّهُمْ وُعِدُوا بِهَا فِي الدُّنْيَا، أَيْ قِيلَ لَهُمْ: هَذِهِ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ الَّتِي وُعِدْتُمْ بِهَا، أَوْ يُقَالُ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ حِينَ عَايَنُوهَا مِنْ بُعْدٍ. وَقِيلَ: "تِلْكُمُ" بمعنى هذه. ومعنى "أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" أَيْ وَرِثْتُمْ مَنَازِلَهَا بِعَمَلِكُمْ، وَدُخُولُكُمْ إِيَّاهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ. كَمَا قال في سورة النساء: {ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ} الآية: 70. وَقَالَ: {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ} سورة النساء، الآية: 175. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: ((لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ)) قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَتِهِ مِنْهُ وَفَضْلٍ)). وَفِي غَيْرِ الصَّحِيحِ: لَيْسَ مِنْ كَافِرٍ وَلَا مُؤْمِنٍ إِلَّا وَلَهُ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَنْزِلٌ، فَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ رُفِعَتِ الْجَنَّةُ لِأَهْلِ النَّارِ فَنَظَرُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ فِيهَا، فَقِيلَ لَهُمْ: هَذِهِ مَنَازِلُكُمْ لَوْ عَمِلْتُمْ بِطَاعَةِ اللهِ. ثُمَّ يُقَالُ: يا أهلَ الْجَنَّةِ رِثُوهُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فَتُقْسَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنَازِلُهُمْ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: ((لَا يَمُوتُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلَّا أَدْخَلَ اللهُ مَكَانَهُ فِي النَّارِ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا)). فَهَذَا أَيْضًا مِيرَاثٌ، نَعَّمَ بِفَضْلِهِ مَنْ شَاءَ وَعَذَّبَ بِعَدْلِهِ مَنْ شَاءَ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْجَنَّةُ وَمَنَازِلُهَا لَا تُنَالُ إِلَّا بِرَحْمَتِهِ، فَإِذَا دَخَلُوهَا بِأَعْمَالِهِمْ فَقَدْ وَرِثُوهَا بِرَحْمَتِهِ، وَدَخَلُوهَا بِرَحْمَتِهِ، إِذْ أَعْمَالُهُمْ رَحْمَةٌ منه لهم وتفضل عليهم.
وجاء في سببِ النزولِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما ـ أَنَّ هذه الآيةَ نَزَلَتْ في عَلِيٍّ، وأَبي بَكْرٍ، وعُمَرَ، وعُثْمانَ، وطَلْحَةَ، والزُبيرِ، وابْنِ مَسْعودٍ، وعَمَّارَ، وسُلمانَ، وأَبي ذَرٍّ ـ رُضْوانُ الله عليهم أجمعين.
وعن أمير المؤمنين عليّ بنِ أبي طالب أنّه قال: (نَزَلَتْ في ثلاثةِ أَحياءٍ مِنَ العَرَبِ: في بَني هاشِمٍ، وبَني تَيْمٍ، وبَنِي عَدِيٍّ، فيَّ، وفي أَبي بَكْرٍ، وفي عُمَرَ) كنزُ العُمَّالِ: 4470. رضي اللهُ عنهم أجمعين، فعليٌّ من هاشم، والصدّيقُ من تَيْمٍ، والفاروقُ من عديٍّ.
قوله تعالى: {وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} و: حرفُ عطفٍ، "نزعْنا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكون لاتصاله بضمير رفعٍ متحركٍ، و"نا" العَظَمَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ له، و"ما" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ، مفعولاً بِه. و"في" حرفُ جرٍّ، و"صدورِ" مَجرورٌ بحرف الجرِّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحذوفِ صَلَةِ "ما" أي: كائناً مِنْ غِلٍّ. وهو مضافٌ، و"ه" ضميرٌ متَّصلٌ في محلٍّ جَرِّ مُضافٍ إليْه، والميم علامة المذكَّرِ. و"من" حرف جرٍّ لِبَيانِ جِنْسِ "ما"، و"غِلّ" مَصْدَرٌ سَماعيٌّ لِفِعلِ "غلّ، يَغلّ" بابُه ضَرَبَ، ووزنُهُ "فَعَلَ"، مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُتَعلِّقٌ بحالٍ مِنَ العائدِ في الصَلَةِ، أوْ بحالٍّ مِنَ المَوصولِ. وجملةُ "نَزَعْنا" في مَحَلِّ رَفْعٍ عطفاً على جُمْلَةِ "أولئك" في الآيةِ السابِقَةِ.
قوله: { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ} تجري: فعلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ وعَلامَةُ رفعه الضمَّةُ المُقدَّرةُ على الياءِ منعَ من ظهورها الثقلُ، و"من تحتِ" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعَلِّقٌ بـ "تَجْري" أوْ بِمَحذوفِ حالٍ مِنَ الأنْهارِ. و"هم" تقدّم إعرابها، و"الأنهارُ" فاعلٌ مَرفوعٌ. وجُملةُ "تجري" في مَحَلِّ نَصْبِ حالٍ مِنَ الضَميرِ في "صدورهم". والعامِلُ في هذِه الحالِ مَعنى الإِضافة. أو أَنَّها حالٌ، والعامِلُ فيها "نزعنا"، أو أنَّها اسْتِئنافُ إخْبارٍ عَنْ صِفَةِ أَحوالِهم.
وردَّ الشيخُ أبو حيّانَ التوحيديُّ الوَجْهيْنِ الأوَّلَ والثاني: أَمَّا الثاني فلأنَّ "تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار" ليس مِنْ صِفَةِ فاعِلِ "نَزَعْنا" ولا مَفْعُولِهِ، وهُما "نا" و"ما" فكيفَ يَنْتَصِبُ حالاً عَنْهُما؟ وهُوَ واضِحٌ. وأَمَّا الأوَّلُ فلأنَّ مَعْنى الإِضافةِ لا يَعمَلُ إلاَّ إذا أَمْكَنَ تَجريدُ المُضافِ وإعمالُهُ فيما بَعْدَهُ رَفعاً أَوْ نَصْباً. وقد تقدَّمَ غيرَ مَرَّةٍ أَنَّ الحالَ تَأْتي مِنَ المُضافِ إليهِ إذا كان المُضافُ جُزءً مِنَ المُضافِ إليْه.
قولُه: {وَقالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدانا لِهذا} و: حرف عطفٍ، "قالوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الضَمِّ لاتصالهِ بواو الجماعةِ، وواوُ الجماعة: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ. "الحمد" مُبْتَدأٌ مَرْفوعٌ، وعلامةُ رفعه الضمَّةُ الظاهرةُ، "للهِ" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعلِّقان بِخَبَرٍ مَحْذوفٍ، "الذي" اسْمٌ مَوْصولٌ في مَحَلِّ جَرِّ نَعْتٍ للفظِ الجَلالَةِ. "هدى" فعلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ المُقَدَّرِ على الأَلِفِ، لتعذُّر لفظِ الفَتْحَةِ على الأَلِفِ، و"نا" ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مَفْعولٍ بِهِ، والفاعلُ: ضميرٌ مستترٌ جواراً تقديرُهُ "هوَ" يعودُ على اللهِ تعالى. "لِـ" حرفُ جَرٍّ "ها" حَرْفُ تَنْبيهٍ، "ذا" اسْمُ إشارَةٍ مَبْنِيٌّ في مَحَلِّ جَرِّ مُتعلِّقٌ بـ "هدى". وجُمْلَةُ "قالوا" في مَحَلِّ نَصْبٍ مَعطوفةٌ على جُملةِ "تَجري". وجملةُ: "الحَمْدُ للهِ" في مَحَلِّ نصبٍ مقولَ القولِ لا مَحَلَّ لَها. وجُمْلَةُ "هدانا لهذا" صِلَةُ المَوْصولِ "الذي" لا مَحَلَّ لَها من الإعرابِ.
قولُه: { وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللهُ} و: حرفُ عطف، أَوِ اسْتِئْنافٍ. "ما" نافيةٌ، "كنا" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ ـ من النواسخ ـ و"نا" اسْمُهُ، و"لـ" لامُ الجُحودِ، "نَهْتَديَ" مُضارعٌ مَنْصوبٌ، بأنْ مُضْمَرَةٍ، بَعْدَ اللامِ، "لولا" حَرْفُ امْتِناعٍ لِوُجودٍ فيهِ معنى الشَرْطِ، "أنْ" حرفٌ مَصْدَرِيٌّ، "هدانا" فعلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ المُقَدَّرِ على الأَلِفِ، لتعذُّر لفظِ الفَتْحَةِ على الأَلِفِ، و"نا" ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مَفْعولٍ بِهِ. و"الله" لَفْظُ الجَلالةِ فاعلٌ مَرْفوعٌ.
والمَصْدَرُ المُؤَّولُ من "أن نهتدي" في مَحَلِّ جَرٍّ باللامِ مُتَعَلِّقٌ بمَحذوفٍ خَبَرَ "كُنا".
والمَصْدَرُ المُؤوَّلُ مِنْ "أَنْ هَدانا" في مَحَلِّ رَفْعِ مُبْتَدَأٍ خَبَرُهُ مَحذوفٌ وُجوباً، والتقديرُ: لولا هدايةُ اللهِ لَنا مَوجودَةٌ. وجَوابُ "لولا" مَدْلولٌ عليْهِ بقولِهِ: "وما كنا" تقديرُه: لولا هدايةُ اللهِ لنا مَوجودةٌ لَشَقِيْنا أو ما كُنَّا مهتدين. وجُملةُ "ما كُنّا لِنَهْتَديَ" في مَحَلِّ نَصْبٍ، عطفاً على جُمْلَةِ مَقولِ القَوْلِ. وجُمْلَةُ "نَهْتَديَ" صلة الموصول الحرفي "أن" المُضْمر. لا مَحَلَّ لها من الإعراب. وجُملةُ: "هَدانا اللهُ" لا مَحَلَّ لَها صِلَةُ المَوْصولِ الحَرْفِيِّ "أَنْ" الظاهر. والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ "لولا أَنْ هدانا الله": في مَحَلِّ نَصْبِ حالٍ، أوْ استئنافٌ في حَيِّزِ القَوْلِ فلا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعرابِ.
قوله: {لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ} لـ: لامُ القَسَمِ لِقَسَمٍ مُقَدَّرٍ، "قد" حَرْفُ تَحْقيقٍ، "جاء" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتح الظاهر، و "ت" تاءُ التَأْنيثِ، "رُسُلُ" فاعلٌ مَرْفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الضمةُ الظاهرةُ، وهو مضافٌ، "رَبّ" مُضافٌ إليْه مجرورٌ، وهو مضافٌ أيضاً، و"نا" ضَمِيرٌ متَّصلٌ في محلٍّ جرٍّ بإضافةِ "ربّ" إليه. "بالحق" الباء حرفُ جَرٍّ، و"الحقِّ" اسمٌ مجرورٌ بحرف الجرِّ، مُتَعَلِّقٌ بِحالٍ مِنْ "رُسُل" أيْ: جاؤوا مُتَلَبِّسين بالحَقِّ. ويجوزُ أنْ تَكونَ للتعديةِ، وعليه فـ "بالحق" مَفعولٌ مَعنًى، وجملةُ: "لقد جاءت" جَوابُ قَسَمٍ مُقَدِّرٍ. وجُملةُ: "جاءت رسل" جوابُ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ فَلا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعرابِ.
قولُه: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ} و: حرفُ عَطفٍ، "نودوا" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ للمَجْهولِ ومَبْنيٌّ على الضَمِّ لاتصالِهِ بواو الجماعة، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ نائبِ فاعلٍ. و"نُودُوا" أَصْلُهُ. نُودِيُوا. و"أنْ" حرفُ تَفْسيرٍ، أوْ هو مُخَفَّفٌ مِنْ "أنَّ" واسْمُهُ ضَميرُ الشأنِ مَحذوفٌ، والجُمْلَةُ بَعدَهُ خَبَرٌ له. و"تلكم" اسْمُ إشارةٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ الظاهِرِ على الياءِ المَحذوفةِ لالْتِقاءِ الساكِنَيْنِ في مَحَلِّ رَفْعِ مُبْتَدأٍ، و"لـ" للبُعْدِ، و"ك" للخِطابِ، و"مُ" لِجَمْعِ الذُكورِ. "الجَنَّةُ" بَدَلٌ مِنِ اسْمِ الإشارةِ مرفوع، أوْ هي عَطفُ بيانٍ لَهُ، ويَجوزُ أَنْ تَكونَ خَبَراً لاسْمِ الإشارةِ، فتكونُ الجُمْلَةُ بَعدَهُ حالاً مِنْهُ. وجُمْلَةُ "نودوا" في محلِّ نَصْبٍ عطفاً على جُمْلَةِ "قالوا" أوْ هي مقطوعةٌ على الاسْتِئنافِ، فلا محلَّ لها. وجملةُ "تِلْكُمُ الجنّةُ" تفسيريَّةٌ فَسَّرَتِ النِّداءَ، وهو الظاهرُ بما بعدَها، فلا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ. ويَجوزُ أَنْ تَكونَ المُخَفَّفَةَ، واسْمُها ضَميرُ الأمْرِ مَحذوفاً، وأَنْ وما بعدَها في مَحَلِّ نَصْب أوْ جَرٍّ؛ لأنَّ الأصلَ: "بأنَّ تِلْكُمُ"، وأُشيرَ إليها بإشارةِ البَعيدِ لأنَّهم وُعِدوها في الدُنيا. وقال بعضُهم "هي إشارة لِغائبةٍ" إلاَّ أنَّ الإِشارةَ لا تَكونُ إلاَّ لِحاضرٍ، ولكنَّ العُلَماءَ تُطْلِقُ على البَعيدِ غائباً مَجازاً .
قوله: {أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أُورث: فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ للمَجهولِ، ومَبْنِيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِه بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ، و"ت" ضميرٌ مُتَّصلٌ في مَحلِّ رفعِ نائبٍ عن الفاعلِ، و"و" زائدةٌ لإشْباعِ حَرَكَةِ الضَمِّ، و"ها" ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مفعولٍ بِهِ. و"بـ" حرفُ جَرٍّ "ما" حرفٌ مَصْدَرِيٌّ، "كنتم" فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ ـ ناسخٌ ـ واسْمُهُ، "تعملون" مُضارعٌ مَرفوع، والواو فاعلٌ. والمَصْدَرُ المُؤَوَّلُ من "ما كنتم" في مَحَلِّ جَرٍّ بالباءِ، مُتَعَلِّقُ بـ "أورثتموها". وجملةُ "أُورِثْتُموها" يَجوزُ أَنْ تَكون حاليةً كَقولِهِ: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} النمل: 52، ويَجوزُ أنْ تَكونَ خبراً عنْ "تلكم". وجملةُ "كنتم" لا مَحَلَّ لَها، صِلَةُ المَوْصولِ الحَرْفيِّ "ما". وجُملةُ "تعملون": في محلِّ نَصبِ خَبَرِ كُنْتم.
قرأَ الأخوان (حمزة والكسائي) وأبو عَمْرٍو: "أورثتموه" بإدغامِ الثاء في التاء، وقرأ الباقون بإظهارها.
وقرأ الجماعةُ: "وما كنّا" بواوٍ، وكذلك هي في مَصاحِفِ الأَمْصارِ غيرَ الشامِ. وفيها وجهان، أَظْهَرُهُما: أَنَّها واوُ الاسْتِئْنافِ، والجُمْلَةُ بعدَها مُسْتَأْنَفَةٌ. والثاني: أَنَّها حاليَّةٌ.
وقرأَ ابْن عامرٍ: "ما كنا" بدونِ واوٍ، والجملةُ على ما تَقَدَّمَ مِنِ احْتمالَيْ الاسْتِئنافِ والحالِ، وهي في مصحف الشاميين كذا، فقدْ قرأَ كلٌّ بِما في مُصْحَفِهِ.