قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(67)
قولُهُ ـ جَلَّ شأنُه: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} ناداهم مُدْنِياً لهم ومُقَرِّباً، بِقولِهِ: "يا قوم" لَيْسَ الأمرُ كَمَا تَزْعُمُونَ، بَلْ جِئْتُكُمْ بِالْحَقِّ مِنَ اللهِ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وقدِ اخْتارَهُ اللهُ على أَنَّهُ أَخٌ لَهُمْ، كما تقدَّم.
وقولُهُ: {ليس بِي سَفاهةٌ} نَفْيُ نَبِيُّ اللهُ هودٌ ـ عَليْه السلامُ ـ السَفَهَ عنْ نفسِه، ولم يُقابلْهم بالمِثْلِ فيَصِفَهم حقّاً وصِدْقاً بِما هم وَصَفُوهُ به زوراً وبُهتاناً، تَعليم من اللهِ أيْ ما خالفتُكم، ودَعَوْتُكم إلى عبادةِ اللهِ تَعالى وَحْدَهُ عن حمقٍ أوْ سَفَهٍ، وإنَّما لأنّي أُرْسِلْتُ بِذلِكَ إليكم. ولو فَعَلَ لكانَ صادقاً، فهم حقيقٌ بهم السفاهةُ والضلالةِ، وفي إجابتِهِ هذِهِ خلُقٌ عظيمٌ وحُسْنُ أدَبٍ جَمٍّ. وحكاية اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ ذلك، وتعليمٌ لِلدعاةِ مِنْ عِبادِهِ كَيْفَ يُخاطِبونَ السُفهاء، وكيف يَغُضُونَ الطرفَ عن جهلهم وحماقاتهم، ويَسْبِلونَ أَذيالَهم على ما يَكونُ مِنْهم. لا أنْ ينتصروا لأنفسهم، بالردِّ بالمثلِ، فإنَّ نبيَّ اللهِ هودٌ ـ والأنبياءُ جميعاً ـ عليهم السلامُ ـ يعملون بما فيه صالحُ دعوتهم إلى ربهم، لا ما فيه حظوظ أنفسهم.
قولُهُ: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ من رَّبِّ الْعَالَمِينَ" أَرْسَلَني إليكم، داعياً إياكم إلى عِبادَتِهِ وَحْدَهُ. فقد تغاضى ـ عليه السلامُ ـ عَنِ الإهانَةِ والإساءة، وانتهزَ الفرصةَ لتذكيرهم بأنَّه رسولٌ إليْهم من ربِّهم، وهو إنّما يُبَيِّنُ لَهم ما يُريدُهُ مِنْهم مَوْلاهم، طَلَباً لِرِضاهُ عَنْهُم، وما يُبْعدُهم عن مخالفةِ أَمْرِه ِويُوقِعَهم في ما يُغْضِبُهُ عليهم ويُسْخِطُه، وما يُوجِبُ شديدَ عقوبتِهِ، وأَليمَ عَذابِه، فَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُه.
وذكَّرهم بأنَّه ـ سبحانَه ـ ربُّ العالمين، وتَشْمَلُ هذِهِ الكَلِمَةُ "العالمين" خلقاً كثيراً مِنَ الإنْس والجنِّ والملائكة، لا يُحْصِيهم إلاَّ اللهُ الذي خلقَهم ـ سُبْحانَهُ وتعالى ـ فقد أخرج ابنُ أبي حاتمٍ في تفسيرِهِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ: الْجِنُّ عَالَمٌ، وَالإِنْسُ عَالَمٌ وَسِوَى ذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفِ عَالَمٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ، وَعَلَى الأَرْضِ فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَرْبَعَةُ آلافٍ وَخمْسِمِائَةِ عَالَمٍ خَلَقَهُمْ لِعِبَادَتِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
قولُهُ: { قال يا قوم ... رَبِّ العالمين} تقدَّمَ إعرابُ نَظيرِها في الآيةِ: 61. من هذِه السُورةِ المباركةِ مُفْرداتٍ وجُمَلاً.