فيض العليم ... سورةُ الأعراف، الآية: 55
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى شأنُه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ} أَمْرٌ منه ـ سبحانَه ـ لِعبادِهِ بِالدُّعَاءِ وَتَعَبُّدٌ لهم بِهِ، بعدَ أنْ بَيَّنَ التَوحيدَ وأَخْبَرَ أَنَّهُ المُتَفَرِّدُ بالخلقِ والأَمْرِ. وهو خِطَابُ خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ لِأَدَبِ دُعَائهِ وَعِبَادَتِهِ، وَهُوَ تَقْرِيبٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِدْنَاءٌ لَهُمْ وَتَنْبِيهٌ عَلَى رِضَى اللهِ عَنْهُمْ وَمَحَبَّتِهِ، وَشَاهِدُهُ قَوْلُهُ بعد ذلك في الآيةِ التالية: {إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}. فالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ، وَلَيْسَ الْمُشْرِكُونَ بِمُتَهَيِّئِينَ لِمِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ. وقيلَ إنَّ "ادْعُوا رَبَّكُمْ" معناهُ اعْبُدوا ربَّكم لأنَّ الدعاءَ طلبُ الخَيْرِ مِنَ اللهِ، وهذه صِفَةُ العبادةِ، ولأنَّه تَعالى عَطَفَ عليْهِ قولَهُ: {وادعوهُ خوفاً وطَمعاً} والمعطوفُ يَجبُ أنْ يُغايرَ المعطوفَ عليْه. وقيلَ: المرادُ بِهِ حقيقةُ الدُعاءِ، وهوَ الصَحيحُ لأنَّ الدُعاءَ هو السؤالُ والطلبُ، وهوَ نوعٌ مِن العبادةِ لأنَّ الداعي لا يُقدِمُ على الدُعاءِ إلاَّ إذا عَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ الحاجةَ إلى ذلك المَطْلوبِ، وهو عاجزٌ عنْ تَحصيلِهِ، وعَرَفَ أَنَّ رَبَّهُ يَسمَعُ الدُعاءَ ويَعلَمُ حاجتَهُ، وهو قادِرٌ على تلبيتها، فيعرفُ العبدُ عند ذلك نفسَهُ بالعَجْزِ ويقِرُّ بالنَّقْصِ ويعرِفُ ربَّهُ بالقُدْرَةِ والكَمالِ، وهوَ المُرادُ مِنْ قولِهِ تَعالى: "تَضَرُّعاً" يَعني ادْعوا ربَّكم بتَذَلُّلٍ واسْتِكانَةٍ وخشوعٍ إليه. وهو من ضَرَعَ فلانٌ لِفُلانٍ إذا ذَلَّ لَهُ وخَشَعَ. ثُمَّ قَرَنَ ـ جَلَّ وَعَزَّ ـ بِالْأَمْرِ صِفَاتٍ تَحْسُنُ مَعَهُ، وَهِيَ الْخُشُوعُ وَالِاسْتِكَانَةُ وَالتَّضَرُّعُ. وَمَعْنَى "خُفْيَةً" أَيْ سِرًّا فِي النَّفْسِ بعيداً عَنِ الرِّيَاءِ، وَبِذَلِكَ أَثْنَى عَلَى نَبِيِّهِ زَكَرِيَّا ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ إِذْ قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُ في سورة مريم: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا} الآية: 3. وَنَحْوَهُ قَوْلُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي)). وَالشَّرِيعَةُ مُقَرِّرَةٌ أَنَّ السِّرَّ فِيمَا لَمْ يَعْتَرِضْ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الجَهْرِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي "سورة الْبَقَرَةِ". قَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ: لَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ عَمَلٌ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَكُونَ سِرًّا فَيَكُونُ جَهْرًا أَبَدًا. وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ فَلَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ، إِنْ هُوَ إِلَّا الْهَمْسُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: "ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً". وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذَا عَلَى أَنَّ إِخْفَاءَ "آمِينَ" أَوْلَى مِنَ الْجَهْرِ بِهَا، لِأَنَّهُ دُعَاءٌ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي سَفَرٍ ـ وَفِي رِوَايَةٍ فِي غَزَاةٍ ـ فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ ـ وَفِي رِوَايَةٍ فَجَعَلَ رَجُلٌ كُلَّمَا عَلَا ثَنِيَّةً قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهِ ـ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ)). الْحَدِيثَ. واربعوا على أنفُسِكم معناه: ارْفِقوا ِبها ولا تُبالِغوا في الجُهْدِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ، فَكَرِهَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَرَأَى شُرَيْحٌ رَجُلًا رَافِعًا يَدَيْهِ فَقَالَ: مَنْ تَتَنَاوَلُ بِهِمَا، لَا أُمَّ لَكَ! وَقَالَ مَسْرُوقٌ لِقَوْمٍ رَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ: قَطَعَهَا اللهُ. وَاخْتَارُوا إِذَا دَعَا اللهَ فِي حَاجَةٍ أَنْ يُشِيرَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ. وَيَقُولُونَ: ذَلِكَ الْإِخْلَاصُ. وَكَانَ قَتَادَةُ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ. وَكَرِهَ رَفْعَ الْأَيْدِي عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ. وَرُوِيَ جَوَازُ الرَّفْعِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: دَعَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ. وَمِثْلُهُ عَنْ أَنَسٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: رَفَعَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَدَيْهِ وَقَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ)). وكان ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قد بعث خالد بن الوليدِ إِلَى بَنِي جذيمة داعياً إلى الإسلامِ، فلَمْ يُحْسِنوا أَنْ يَقولوا أَسْلَمْنا، فجعل خالد يَقتُلُ منهم ويأْسُرُ. فنَقَمَ النَبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ على خالد اسْتِعجالَه في شأنِهم وتَرْكِ التَثَبُّتِ في أَمْرِهم. جاء ذلك في كتاب المغازي من صحيح البخاري. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رضي اللهُ عنه ـ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رسول اللهِ ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْقِبْلَةَ مَادًّا يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. والمشهورُ أنَّ أَهْلَ بَدْرٍ ثلاثُمِئةٍ وثلاثةَ عَشَرَ رجلاً كأصحابِ طالوتَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ لَمْ يَحُطُّهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَلْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ فَيَرُدُّهُمَا صِفْرًا)) أَوْ قَالَ خَائِبَتَيْنِ.
واحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ وَرَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ رَافِعًا يَدَيْهِ فَقَالَ: قَبَّحَ اللهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ الْمُسَبِّحَةِ. وَبِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قتادة أن أنسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ لا يرفعُ يَدَيْهِ في شيءٍ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَّا عِنْدَ الِاسْتِسْقَاءِ فَإِنَّهُ كَانَ يَرْفَعُهُمَا حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ طُرُقًا وَأَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، فَإِنَّ سَعِيدًا كَانَ قَدْ تَغَيَّرَ عَقْلُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ. وَقَدْ خَالَفَهُ شُعْبَةُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ (بْنِ مَالِكٍ) فَقَالَ فِيهِ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ إِذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ أَنَّ الرَّفْعَ عِنْدَ ذَلِكَ جَمِيلٌ حَسَنٌ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَيَوْمَ بَدْرٍ. قُلْتُ: وَالدُّعَاءُ حَسَنٌ كَيْفَمَا تَيَسَّرَ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ مِنَ الْإِنْسَانِ لِإِظْهَارِ مَوْضِعِ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ إِلَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَالتَّذَلُّلِ لَهُ وَالْخُضُوعِ. فَإِنْ شَاءَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ شَاءَ فَلَا، فَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حَسْبَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: "ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً". وَلَمْ يُرِدْ صِفَةً مِنْ رَفْعِ يَدَيْنِ وَغَيْرِهَا. وَقَالَ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً} سورةُ آل عمران، الآية: 191. فَمَدَحَهُمْ وَلَمْ يَشْتَرِطْ حَالَةً غَيْرَ مَا ذَكَرَ. وَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ الْجُمْعَةَ وهو غير مستقبلٍ القِبلةَ.
قَوْلُهُ: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} يُرِيدُ فِي الدُّعَاءِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا. وَالْمُعْتَدِي هُوَ الْمُجَاوِزُ لِلْحَدِّ وَمُرْتَكِبُ الْحَظْرِ. وَقَدْ يَتَفَاضَلُ بِحَسَبِ مَا اعْتَدَى فِيهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ: ((سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ. وسمع عَبْدُ اللهِ بْنُ مُغَفَّلٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ ابْنَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا. فَقَالَ: أيْ بُنَي، سَلِ اللهَ الجنَّةَ وعُذْ بِهِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: ((سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ)).
وَالِاعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا الْجَهْرُ الْكَثِيرُ وَالصِّيَاحُ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ الْإِنْسَانُ فِي أَنْ تَكُونَ لَهُ مَنْزِلَةُ نَبِيٍّ، أَوْ يَدْعُوَ فِي مُحَالٍ، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الشَّطَطِ. وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ طَالِبًا مَعْصِيَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ بِمَا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيَتَخَيَّرُ أَلْفَاظًا مُفَقَّرَةً وَكَلِمَاتٍ مُسَجَّعَةً قَدْ وَجَدَهَا فِي كَرَارِيسَ لَا أَصْلَ لَهَا وَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهَا، فَيَجْعَلُهَا شِعَارَهُ وَيَتْرُكُ مَا دَعَا بِهِ رَسُولُهُ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ. وَكُلُّ هَذَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ. كَمَا تقدم بيانُه في سورة البقرة.
وذَكَروا للدُّعاءِ آداباً كثيرةً، منها أنْ يكونَ على طَهارةٍ واسْتِقبالٍ للقبلةِ، ومنها تَخْليةُ القلبِ مِنَ الشَواغِلِ، فقد حُكِيَ أنَّ موسى ـ عليه السلام ـ مَرَّ بِرَجُلٍ يَدْعو ويَتَضَرَّعُ، فقالَ مُوسى لَوْ كانتْ حاجَتُهُ بِيَدِي لَقَضَيْتُها، فأوحى اللهُ تَعالى إليْهِ: أنَا أرحمُ بِهِ مِنْكَ، ولكنَّهُ يَدْعوني ولَهُ غَنَمٌ وقلبُه في غَنَمِهِ، وأنا لا أَقبَلُ دَعوةَ عبدٍ قلبُهُ عِنْدَ غيري، فذَكَرَ ذلك للرَجُلِ، فتوَجَّهَ إلى اللهِ بِقَلْبِهِ، فقُضيتْ حاجته. ومنها افتِتاحُ الدعاءِ بالصلاةِ على النبيِّ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ـ واخْتِتامُه بها، لأنَّها طاعةٌ أمرَ اللهُ بها، والطاعةُ تجعلُ العبدَ أقربَ مِنْ رَبِّهِ، وفيها رضاه، فإذا رضي عنكَ أجاب دعاءك. ومنها أنْ تَدعوَ مُوقِناً بالإجابةِ لِقولِهِ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((ادعوا اللهَ وأنتم موقنون بالاجابة)).
فقد أخرج الإمامُ أحمدُ ـ رضي الله عنه ـ بسند حسن، عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو بنِ العاصِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّ رَسُولَ الهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ وَبَعْضُهَا أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ يَا أَيُّهَا النَّاسُ فَاسْأَلُوهُ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ)). وأَخْرَجَهُ الترمذيُّ كذلك. ومِنْ آدابِ الدُعاءِ رفعُ اليَدَيْنِ نحوَ السماءِ، وإشراكُ المؤمنين فيه، وتَحَرِّي ساعاتِ الإجابةِ، ومنها يومُ الجُمُعةِ عندَ كَثيرٍ من العلماء، وذلك ساعةَ الخُطبةِ، ووقتُ نُزولِ الغيثِ، وعندَ فِطْرِ الصائم، وفي الثُلُثِ الأخيرِ مِنَ الليلِ، وعندَ خَتْمِ القُرآنِ، وغيرِ ذلك. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: "إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" فَفِيهِ مَسَائِلُ كما قال الإمامُ الرازي في مفاتح الغيب:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَطَقَ بِإِثْبَاتِهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَاهَا شَهْوَةَ النَّفْسِ وَمَيْلَ الطَّبْعِ وَطَلَبَ التَّلَذُّذِ بِالشَّيْءِ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى مُحَالٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْمَحَبَّةِ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ إِيصَالِ اللهِ الثَّوَابَ وَالْخَيْرَ وَالرَّحْمَةَ إِلَى الْعَبْدِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ تَعَالَى مُرِيدًا لِإِيصَالِ الثَّوَابِ وَالْخَيْرِ إِلَى الْعَبْدِ. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى وَهِيَ: أَنَّهُ تَعَالَى هَلْ هُوَ مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ الْإِرَادَةِ أَمْ لَا؟ قَالَ الْكَعْبِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ: إِنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالْإِرَادَةِ الْبَتَّةَ، فَكَوْنُهُ تَعَالَى مُرِيدًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ أَنَّهُ مُوجِدٌ لَهَا وَفَاعِلٌ لَهَا، وَكَوْنُهُ تَعَالَى مُرِيدًا لِأَفْعَالِ غَيْرِهِ كَوْنُهُ آمِرًا بِهَا وَلَا يَجُوزُ كَوْنُهُ تَعَالَى مَوْصُوفًا بِصِفَةِ الْإِرَادَةِ. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا وَمُعْتَزِلَةُ الْبَصْرَةِ فَقَدْ أَثْبَتُوا كَوْنَهُ تَعَالَى مَوْصُوفًا بِصِفَةِ الْمُرِيدِيَّةِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَمَنْ نَفَى الْإِرَادَةَ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى فَسَّرَ مَحَبَّةَ اللهِ بِمُجَرَّدِ إِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَى الْعَبْدِ وَمَنْ أَثْبَتَ الْإِرَادَةَ الله تَعَالَى فَسَّرَ مَحَبَّةَ اللهِ بِإِرَادَتِهِ لِإِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَيْهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ مَحَبَّةُ اللهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ صِفَةً وَرَاءَ كَوْنِهِ تَعَالَى مُرِيدًا لِإِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَجِدُ فِي الشَّاهِدِ أَنَّ الْأَبَ يُحِبُّ ابْنَهُ فَيَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ الْمَحَبَّةِ إِرَادَةُ إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَى ذَلِكَ الِابْنِ فَكَانَتْ هَذِهِ الْإِرَادَةُ أَثَرًا مِنْ آثَارِ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ وَثَمَرَةً مِنْ ثَمَرَاتِهَا وَفَائِدَةً مِنْ فَوَائِدِهَا. أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ فِي الشَّاهِدِ عِبَارَةٌ عَنِ الشَّهْوَةِ وَمَيْلِ الطَّبْعِ وَرَغْبَةِ النَّفْسِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى مُحَالٌ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مَحَبَّةُ اللهِ تَعَالَى صِفَةٌ أُخْرَى، سِوَى الشَّهْوَةِ وَمَيْلِ الطَّبْعِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا إِرَادَةُ إِيصَالِ الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ إِلَى الْعَبْدِ؟ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ، أَنَّا لَا نَعْرِفُ أَنَّ تِلْكَ الْمَحَبَّةَ مَا هِيَ وَكَيْفَ هِيَ؟ إِلَّا أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِعَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يُثْبِتُونَ كَوْنَهُ تَعَالَى مَرْئِيًّا، ثُمَّ يَقُولُونَ أَنَّ تِلْكَ الرُّؤْيَةَ مُخَالِفَةٌ لِرُؤْيَةِ الْأَجْسَامِ وَالْأَلْوَانِ، بَلْ هِيَ رؤية بلا كيف، فلم لا يقولون هاهنا أَيْضًا إِنَّ مَحَبَّةَ اللهِ لِلْعَبْدِ مَحَبَّةٌ مُنَزَّهَةٌ عَنْ مَيْلِ الطَّبْعِ وَشَهْوَةِ النَّفْسِ بَلْ هِيَ مَحَبَّةٌ بِلَا كَيْفٍ؟ فَثَبَتَ أَنَّ جَزْمَ الْمُتَكَلِّمِينَ بِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِمَحَبَّةِ اللهِ إِلَّا إِرَادَةُ إِيصَالِ الثَّوَابِ لَيْسَ لَهُمْ عَلَى هَذَا الْحَصْرِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ. بَلْ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ لَا دَلِيلَ عَلَى إِثْبَاتِ صِفَةٍ أُخْرَى سِوَى الْإِرَادَةِ فَوَجَبَ نَفْيُهَا، لَكِنَّا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ نِهَايَةِ الْعُقُولِ أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ ضَعِيفَةٌ سَاقِطَةٌ. انتهى.
قولُهُ تعالى: {ادعوا ربَّكم تضرُعاً وخِيفَةً} ادعوا: فعلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ على حذفِ النونِ لأنَّه مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، والواو الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السكون في محلِّ رفعِ فاعلٍ، والألفُ للتفريق. "ربّ" مفعولٌ به منصوبٌ، وعلامةُ نصبِه الفتحةُ الظاهرة، والكافُ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليه. "تضرّعاً" مصدرٌ سماعيٌّ لِفِعْلِ طَمِعَ يَطمَع، بابُه "فَرِحَ" ووزنُهُ "فَعَل" بفتحتين، وثمَّةَ مَصادرُ أُخرى هي طَماعٌ، بفتحِ الطاءِ، وطَماعِيَة بفتح الياءِ المُخَفَّفة. وهو نَصْبٌ على الحالِ مِنْ ضميرِ الفاعِلِ، ويَجوزُ أنْ يَنتصِبَ على المصدرِ، أيْ دعاءَ تضرُّعٍ وخُفْيَةٍ. ويجوزُ أنْ يكونَ مفعولاً لأجلِهِ، أوْ مفعولاً مُطلَقاً نائباً عنِ المَصدرِ لأنَّه معبِّرٌ عن نوعِهِ، أيْ دُعاءَ التَضرُّعُ والخَفاءِ. "وخُفيةً" الواوُ عاطفةٌ، "خُفيةً" منصوبةٌ عطفاً على "تضرّعا". وهذه الجملةُ استئنافٌ لا مَحَلَّ لها من الإعراب.
قولُهُ: {إنَّه لا يحبُّ المعتدين} إنَّ: حرفٌ ناسخٌ مشبَّه بالفعلِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبٍ اسْماً لـ "إنَّ". و"لا" حرفُ نفيٍ "يحبّ" مضارعٌ مرفوعٌ، والفاعلُ ضميرٌ مستترٌ جوازاً تقديرُه (هو). "المعتدينَ" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ وعلامةُ نصبِه الياءُ. وجملة "إنَّه لا يحبّ" استئناف للتعليلِ لا محلَّ لها من الإعراب. وجملة "لا يحبّ" في محلِّ رَفْعِ خبرِ "إنَّ".
قرأَ الجمهور: "خُفيةً" بضمِّ الخاء، وقرأَ ابنُ الأنباري: "خِفيةً" بكسرِها.
وقرأ الجمهورُ: "إنَّه لا يحبُّ المعتدين"، وقرأَ ابنُ أبي عَبْلَةَ: "إنَّ اللهَ .. " فأتى بلفظِ الجلالةِ مكانَ الضَمير.