[size=29.3333]يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ[/size]
[size=29.3333](26)[/size]
[size=29.3333]قولُهُ ـ جَلَّ وعلا: {[/size][size=29.3333]يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا[/size][size=29.3333]} نداء تشريفٍ من اللهِ تعالى لذرِّيَّةِ آدمَ ـ عليه السلامُ ـ ومنةٌ جديدةٌ يمتنُّ بها سبحانَه عليهم، وهي نعمةُ اللباس لستر الجسمِ تزييناً له وجميلاً وحمايةً من القرِّ والحرِ، وليخفي عورتَه لأنّ ذلك المنظر سيءٌ، فالسوءةُ: العَورةُ. والريشُ: لِباسُ الزينَةِ، اسْتَعيرَ مِنْ رِيشِ الطائرِ، لأنَّه لِباسُهُ وزِينَتُه معاً. وقالَ الجَوْهَريُّ: الريشُ والرِياشُ بمَعنى، كاللِّبْسِ واللِّباسِ، وهو اللِّباسُ الفاخِرُ.[/size] [size=29.3333]وقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الرِّيَاشُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْأَثَاثُ وَمَا ظَهَرَ مِنَ الثِيابِ، وقالَ ابْنُ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: الريشُ: اللِّباسُ، والعَيْشُ والنَعيمُ، وقالَ زيدٌ ابْنُ أَسْلَمَ: الرِّياشُ الجَمالُ؛ ولبِسَ أَبُو أُمَامَةَ ثَوْبًا جَدِيدًا، فَلَمَّا بَلَغَ تَرْقُوَتَهُ قال: الحمدُ للهِ الذي كَساني ما أُوراي بِهِ عَوْرَتِي، وَأَتَجَمَّلُ بِهِ فِي حَيَاتِي، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ـ رضي اللهُ عنه ـ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: ((مَنْ اسْتَجَدَّ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ فَقَالَ حِينَ يَبْلُغُ تَرْقُوَتَهُ: الحَمْدُ للهِ الذي كَساني ما أُوراي بِهِ عَوْرَتِي وَأَتَجَمَّلُ بِهِ فِي حَيَاتِي، ثُمَّ عَمَدَ إلى الثَّوْبِ الخَلِقِ فَتَصَدَّقَ بِهِ، كَانَ فِي ذِمَّةِ اللهِ وَفِي جِوَارِ اللهِ وَفِي كَنَفِ اللهِ حَيًّا وَمَيِّتًا)). (رواه أحمدُ والتِرْمِذِيُّ وابْنُ ماجه). والمَعنى: يا بَني آدَمَ تَذَكَّروا واعْتَبِروا واشْكُروا اللهَ على ما حَباكُمْ مِنْ نِّعَمٍ، فإنَّهُ ـ سبحانَهُ وتعالى ـ قدْ هَيَّأَ لكم سَبيلَ الحُصولِ على المَلْبَسِ الذي تَسْتُرون بِهِ عَوْراتِكم، وتَتَزيَّنونَ بِهِ في مُناسباتِ التَجَمُّلِ والتَعَبُّدِ.[/size] [size=29.3333]والمُرادُ بالإنْزالِ، أَنَّهُ خَلَقَ لِبَني آدَمَ مادَّةَ هذا اللِّباسِ التي تتكوَّنُ مِنَ القِطْنِ والصُوفِ والحَريرِ وما إلى ذلك، وأَلْهَمَهُم بما خَلَقَ فيهم مِنْ غَرائِزَ وما آتاهم من عقلٍ وفكرٍ طُرَقَ اسْتِنْباتِها وصِناعَتِها بالغَزْلِ والنَّسْجِ والصَّبْغِ والخِياطَةِ وما يلحقُ بذلك من زخرفة وزركشةٍ وتطريزٍ وغيرِهِ.[/size] [size=29.3333]والتعبيرُ بأنْزَلْنا يُفيدُ خُصوصِيَّةَ البَشَرِ باللِّباسِ الذي يَسْتُرُ العَوْرَةِ، وبالرياشِ التي يَتَزَيَّنون بِها، أي أَنْزَلْنا عَلَيْكم لِباسَيْنِ: لِباساً يُواري سَوْآتِكم، وآخرَ يُزَيِّنُكم، لأنَّ الزِينَةَ غَرَضٌ صَحيحٌ وحُبُّها غريزةٌ في البشرٍ. قال ـ تعالى ـ في سورة النحلِ: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} الآية: 8. و"[/size][size=29.3333]وَرِيشاً[/size][size=29.3333]" يُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَصَفَ اللِّباسَ بِوَصْفَيْنِ: مُواراةِ السَّوْأَةِ، والزينةِ. ويَحْتَمِلُ أَنْ يَكونَ المعنى أَنْزَلْنا عَليكم لِباساً مَوْصوفاً بالمُواراةِ، ولِباساً مَوْصوفاً [/size]
[size=29.3333]بالزِّينَةِ.[/size]
[size=29.3333]وإسْنادُ إِنْزالِ اللباسِ إلى ذاتِهِ العَلِيَّةِ: إمَّا لأَنَّ أَنْزَلَ بِمَعنى خَلَقَ كَقولِهِ: {وَأَنزْلْنَا الحديد} سورةُ الحديدِ: 25. وكقولِه: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأَنْعامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} سورةُ الزُّمَر: 6. وإمَّا على ما يُسمِّيهِ أَهْلُ العِلْمِ التَدريجَ وذلكَ أَنَّه يُنْزِلُ أَسْبابَه، وهي الماءُ الذي هُو سَبَبٌ في نَباتِ القُطْنِ والكِتَّانِ، والمَرعى الذي تَأْكُلُهُ البَهائمُ ذَواتُ الصُوفِ والشَعَرِ والوَبَرِ التي يُتَّخَذُ مِنْها المَلابِسُ، نَحْوَ قولِ الشاعِرِ يَصِفُ مطراً: [/size]
[size=29.3333]أقبل في المُسْتَنِّ من سَحابَهْ .................. أسنِمة الآبال في ربابَهْ[/size]
[size=29.3333]فجعله جائياً لأَسْنِمَةِ الإِبِلِ مَجازاً لَمَّا كانَ سَبَباً في تَرْبِيَتِها، وقريبٌ مِنْه قولُ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالِك: [/size]
[size=29.3333]إذا نَزَلَ السَّماءُ بأرض قومٍ ................... رَعَيْناه وإن كانوا غضابا[/size]
[size=29.3333]فقد جَعَلَ ما في الأرض منزَّلاً من السماءِ لأنَّه قَضَى ثَمَّ وكَتَبَ، [/size][size=29.3333]فَخَلْقُ اللهِ وأَفعالُه إنَّما هيَ مِنْ عُلُوٍّ في القَدْرِ والمَنْزِلَةِ.[/size]
[size=29.3333]قولُهُ: {[/size][size=29.3333]وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ[/size][size=29.3333]} [/size][size=29.3333]بَيَّنَ ـ سُبحانَه ـ أَنَّ هُناكَ لِباساً آخَرَ أَفْضَلُ وأَكْمَلُ مِنْ كُلِّ لباسٍ، ذلك هو: "[/size][size=29.3333]لِبَاسُ التقوى[/size][size=29.3333]" فهو اللِّباسُ الذي يَصونُ النَّفْسَ مِن َالدَنايا والأَرْجاسِ، ويَسْتُرُها بالإيمانِ ويزيِّنها بالعملِ الصالحِ، فهو خيرٌ مِنْ كُلِّ لِباسٍ حِسّيٍ يَتَزَيَّنُ بِهِ البَشَرُ. فعَبَّرَ القرآنُ هُنا عَنِ التَقْوى بأنَّها لِباسٌ، وعَبَّرَ عَنْها في مَوْضِعٍ آخَرَ بأنَّها زَادٌ وذلك مُشاكَلَةً للسِياقِ الذي وَرَدَتْ فيهِ. وهو مِنْ بابِ تَجْسيمِ الأمورِ المعنويَّةِ لتكونَ متَنْاسقةً مَعَ الجَوِّ العامِّ الذي وردتْ فيه، وهذه الطَريقَةُ في البيان مما انْفَرَدَ بِها القرآنُ الكَريمُ. واختلف المفسِّرون في "[/size][size=29.3333]لِبَاسُ التقوى[/size][size=29.3333]"، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: يُقَالُ هُوَ ما يلبسه المُتَّقونَ يَومَ القيامَةِ، وقالَ قَتادةُ وابْنُ جُريْج: هو الإيمانُ، وقالَ ابْنُ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: هو العملُ الصالحُ، وعنه أيضاً: هُوَ السَّمْتُ الْحَسَنُ فِي الْوَجْهِ، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ـ رضي اللهُ عنهما ـ هو خَشْيَةُ اللهِ، وَعن زيدٍ بْنِ أَسْلَمَ: أنَّ لباسَ التَّقْوَى أنْ يَتَّقِي اللهَ فَيُوَارِي عَوْرَتَهُ، وكلُّها مُتَقَارِبَةٌ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ جَريرٍ الطبريُّ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ ـ عليْهِ قَميصٌ فوهي مَحْلُولُ الزِّرِّ، وَسَمِعْتُهُ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، وَيَنْهَى عَنِ اللَّعِبِ بِالْحَمَامِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ فِي هَذِهِ السَّرَائِرِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ ـ يقولُ: ((والذي نفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَلْبَسُهُ اللهُ رِداءَها عَلَانِيَةً، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ))، ثُمَّ قرأَ هذه الآيةَ: "[/size][size=29.3333]وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الله[/size][size=29.3333]} قالَ: السَّمْتُ الحَسَنُ (رواهُ ابْنُ جَريرٍ، وقالَ ابْنُ كثيرٍ: فيهِ ضَعْفٌ، وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ بعضَه).[/size]
[size=29.3333]قولهُ: {[/size][size=29.3333]ذلك مِنْ آيَاتِ الله لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ[/size][size=29.3333]} أي أنَّ ذلك الذي أَنْزَلَهُ اللهُ على بَني آدمَ مِنَ النِّعَمِ مِنْ دَلائلِ قُدْرَتِهِ وإحْسانِهِ عَلَيْهم، لَعَلَّهم لا يَعودون بَعْدَ ذلك إلى النِسْيانِ الذي أَوْقَعَ أَبَوَيْهم في المَعْصِيَةِ.[/size] [size=29.3333]وهذهِ الآيةُ واردَةٌ على سَبيلِ الاسْتِطْرادِ عَقِبَ ذِكْرِ ظُهورِ العَوراتِ وخَصْفِ الأوراق، إظْهاراً للمِنَّتِهِ عليهم بما خَلَقَ لهم مِنَ لباسٍ، ولِما في العُرْي وكَشْفِ العَوْرَةِ مِنَ المَهانَةِ والفَضيحَةِ، وإشْعاراً بأنَّ التَسَتُّرَ بابٌ عَظِيمٌ مِنْ أَبْوابِ التَقْوى. كما أنَّ الزينة والظهورَ بم[/size][size=29.3333]ظهرٍ حسنٍ مناسبٍ دونما بزخٍ ولا إسرافٍ مطلبٌ شرعيٌّ لقوله ـ عزَّ مِنْ قائلٍ: {[/size] [size=29.3333]يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد} سورةُ الأَعْرافِ، الآيةُ: 31. وكذلك فقد حثَّ رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ على العناية بالزينةِ وفي مقدِّمتها النظافةُ وإصلاحُ الشعرِ، ومن ذلك زينة الزوج لزوجه، وكان ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ القدوةَ المثلى في ذلك، ومنه التطيبُ، والأحاديثُ التي حضتْ على ذلك كثيرةٌ، ليس هنا مبحثها، إنَّما أَرَدْنا الإشارةَ إليْه، ومِمّا يَجْدُرُ الإشارةُ إليْهِ أَيْضاً، أَلاَّ يكونَ هذا اللباسُ مَدْعاةً للفخرِ على الناسِ والشغلِ عن اللهِ كما هو حال بعض الجهلةِ البعيدين عن اللهِ حيث أضحى اللباسُ هدفاً وسَبَباً في المَعصيَةِ، لا سيَّما النساء. وشَرْعُنا الحَنيفُ قائمٌ على الاعتدالِ في الأمورِ كلِّها، فلا إفراطَ ولا تفريطَ في أمرٍ مِنَ الأًمورِ.[/size]
[size=29.3333]وقد وَرَدَ أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ نَزَلَتْ[/size] [size=29.3333]في قومٍ مِنَ العَرَبِ كانوا يَطوفونَ بالبَيْتِ عُراةً، ويَروْنَ أَنَّ ذلكَ أَبْلَغُ في الطاعةِ وَأَعْظَمُ في القُرْبَةِ إلى اللهِ تعالى. وفي دُخولِ الشُبْهَةِ عَلَيْهم في ذلكَ وجْهانِ: أَحَدُهُما: أَنَّ الثِيابَ قَدْ دَنَّسَتْها المَعاصي فَخَرَجوا عَنْها. والثاني: تَفاؤلاً بالتَعَرِّي مِنَ الذُنوبِ، فقالَ الله تعالى: "قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً" أيْ ما تَلبسونَ مِنَ الثِيابِ.[/size]
[size=29.3333]قوله تعالى: {[/size] [size=29.3333]يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا[/size][size=29.3333]} يا: للنداءِ، "بني" مُنادى مُضافٌ مَنصوبٌ، وعلامةُ نصبِه الياءُ، لأنَّه مُلْحَقٌ بِجَمْعِ المُذَكَّرِ السالم، "آدم" مُضافٌ إليْهِ مَجْرورٌ، وعلامةُ جَرِّه الفَتْحَةُ، وهو مَمْنوعٌ مِنَ الصَّرْفِ للعلميَّةِ والعُجْمَةِ، وهذه الجملةُ استئنافيّةٌ لا محلَّ لها من الإعرب. "قد" حرفُ تَحقيقٍ، "أنزل" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السُكونِ لاتصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ، "نا" ضَميرُ التَعْظيمِ في محلِّ رفعِ فاعل، "عليكم" جَارٌّ، ومجرورٌ متعلّقان بـ "أنزلنا"، "لباسا" مَفعولٌ بِهِ مَنصوبٌ، وهذه الجملةُ جوابُ النِّداءِ ولا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ أيضاً. "يواري" مُضارِعٌ مَرْفوعٌ، وعَلامةُ رفعه الضَّمَّةُ المُقَدَّرَةُ على الياءِ، "سوءات" مَفْعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، وعَلامَةُ نصبِهِ الكَسْرَةُ، و"كم" ضميرٌ مُضافٌ إليْهِ، "وريشاً" الواوُ عاطفةٌ، "ريشاً" مَعْطوفٌ على لِباسٍ مَنْصوبٌ مِثلُه، وهُو نائِبٌ عَنْ مَوْصوفٍ مَحذوفٍ أَيْ: لباساً ريشاً، أَيْ: زِينَةً، وجملةُ "يواري" هذه في محلِّ نصبٍ صفةً لـ "لباساً". و"وريشاً" يُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ مِنْ بابِ عَطْفِ الصِّفاتِ، فيكون قد وَصَفَ اللِّباسَ بِشَيْئَيْنِ: مُواراةِ السَّوْءةِ والزّينةِ، وعبَّرَ عَنْها بالرِّيشِ، لأَنَّ الريشَ زِينَةٌ للطائرِ، كما أَنَّ اللِّباسَ زينةٌ للآدَمِيّينَ، فالريشُ لِباسُ الزينَةِ، اسْتُعيرَ مِنْ ريشِ الطَيْرِ لأنَّهُ لِباسُهُ وزينتُهُ. ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ مِنْ بابِ عَطْفِ الشَيْءِ على غيرِهِ، أَيْ: أَنْزَلْنا عَلَيْكُم لِباسَيْنِ: لِباساً مَوْصوفاً بمُواراةِ السوءةِ، ولِباساً مَوْصوفاً بالزِينَةِ، أيْ: أَنْزَلْنا عَليكم لِباسَيْن: لِباساً يُواري سَوْءاتِكم ولِباساً يُزَيِّنُكم، لأنَّ الزِينَةَ غَرَضٌ صَحيحٌ كما تقدّم، قال تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} سورةُ النَّحْلِ، الآية: 8. وقال فيها أيضاً: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} الآية: 6. وعلى هذا فالكَلامُ في قوَّةِ حَذْفِ مَوْصوفٍ، وإقامةِ صِفَتِهِ مُقامَهُ، والتقديرُ: ولِباساً ريشاً، أي: ذا ريشٍ. والرِّيْشُ: اسْمٌ لهذا الشيءِ المَعْروفِ الذي يكسوا جسمَ الطائر، أو هو مصدرٌ سماعيٌّ، وَزْنُهُ "فِعْل" بِكَسْرٍ فَسُكونٍ، يُقالُ: راشَه يَريشُهُ رِيْشاً، إذا جَعَلَ فيهِ الرِّيشَ، فيَنْبَغي أَنْ يَكونَ الريشُ مُشْتَرَكاً بَيْنَ المَصْدَرِ [/size]
[size=29.3333]والعَيْنِ.[/size]
[size=29.3333]قولُه: {ولباسُ التقوى ذلك خيرٌ} الواو: اسْتِئْنافيَّةٌ، "لباس" مُبْتَدأٌ مَرْفوعٌ، "التقوى" مُضافٌ إليْهِ مَجْرورٌ، وعلامَةُ جَرِّهِ كسرةٌ مُقَدَّرةٌ على الأَلِفِ، وجُمْلَةُ "لباس التقوى" استئنافيَّةٌ لا مَحلَّ لَها منَ الإعراب. "ذلك" ذا: اسْمُ إشارةٍ مَبْنيٌّ في مَحَلِّ رَفْعٍ مُبْتَدَأً، و"اللام" للبُعْدِ، والكافُ للخِطابِ، "خير" خَبَرٌ مَرْفوعٌ. وهذه الجُمْلَةُ في مَحَلِّ رَفْعٍ خبراً للمبتدأ "لباس".[/size]
[size=29.3333]قولُه: {[/size][size=29.3333]ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ[/size][size=29.3333]} [/size][size=29.3333]ذلك[/size][size=29.3333]: تقدَّمَ إعرابُها، [/size][size=29.3333]والإِشارةُ بِهِ إلى جميعِ ما تَقَدَّمَ مِنْ إنْزالِ اللِّباسِ والرِّيشِ ولِباسِ التَقْوى. وقيل: بَلْ هُوَ إشارةٌ لأَقْرَبِ مَذْكورٍ وهُوَ لِباسُ التَقْوى فَقَطْ. [/size][size=29.3333]"من آيات" جارٌّ ومَجْرورٌ مَتَعَلِّقٌ بِخَبِرِ المُبتَدَأِ، "اللهِ" لَفْظُ الجَلالَةِ مُضافٌ إليْه مَجْرورٌ، وهذِهِ الجُمْلَةُ اسْتِئْنافِيَّةٌ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ. "لعلّ" حَرْفُ نسخٍ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتَرَجِّي،"هم" ضميرٌ في مَحَلِّ نَصْبٍ اسْمُ لَعَلَّ، "يذّكّرون" مُضارعٌ مَرْفوعٌ وعلامة رفعِهِ ثبوتُ النونِ لأنَّه من الأفعال الخمسةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعل. وجملةُ "لعلّهم" تعليليَّةٌ لا مَحَلَّ لَها من الإعراب. وجُمْلَةُ "يذّكّرون" في مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَراً لـ "لعلّ". [/size]
[size=29.3333]وقرأَ عُثمان وابْنُ عبَّاسٍ والحَسَنُ ومُجاهد وقَتادةُ والسُّلَمي وعلي بنُ الحُسين وابْنُهُ زَيْدٌ وأَبو رَجاء وزر بْنُ حُبَيْشٍ، وعاصمٌ وأَبو عَمْرٍو ـ في روايةٍ عنهما: قرأ جميعُهم: "ورِياشاً"، إمّا على أَنَّه جَمْعُ رِيْشٍ فيَكونُ كَشِعْبٍ وشِعابٍ. أو على أنَّهُ مَصْدرٌ فيَكونُ رِيشٌ ورياشٌ مَصْدَريْنِ من راشَهُ اللهُ رَيْشاً ورِياشاً، أي: أَنْعَمَ عَلَيْهِ. وقال الزّجَّاجُ: الرياشُ معناه اللِّباسُ، فعلى هذا هُما اسْمانِ للشيءِ المَلْبوسِ، قالوا: لِبْسٌ ولِباسٌ، وأنشدوا لجريرٍ: [/size]
[size=29.3333]ورِيْشي منكمُ وهَوايَ مَعْكمْ ................. وإن كانت زيارتُكم لِماما[/size]
[size=29.3333]وقرأَ نافعٌ وابْنُ عامرٍ والكسائيُّ "لباسَ" بالنصْبِ والباقون "لباسُ" بالرَّفْعِ. فالنَّصْبُ نَسَقاً على "لباساً" أي: أَنْزَلْنا لِباساً مُوارياً وزينةً، وأَنْزَلْنا أَيْضاً لِباسَ التَقوى، وهذا يُقَوِّي كونَ "ريشاً" صفةً ثانيةً لـ "لباساً" الأوَّل إذْ لو أَرادَ أَنَّه صِفةَ لِباسٍ ثانٍ لأَبْرَزَ مَوْصوفَهُ كما أَبْرَزَ هذا اللِّباسَ المُضافَ للتَّقوى. وأَمَّا الرفعُ فمِنْ خَمْسَةِ أوْجُهٌ: [/size]
[size=29.3333]أَوَّلُها: أَنْ يَكونَ "لباسُ" مبتدأً أوّل، و"ذلك » مبتدأ ثانٍ، و"خير" خبر الثاني، والثاني وخبرُه خبر الأوَّل، والرابطُ هُنا اسْمُ الإِشارةِ وهو أَحدُ الروابِطِ الخَمْسَةِ المُتَّفَقِ عليها، وهذا الوجهُ هو أَوْجَهُ الأَعاريبِ في هذِهِ الآيةِ الكَريمةِ. [/size]
[size=29.3333]الثاني: أَنْ يَكونَ "لباس" خبرَ مُبتدأٍ مَحْذوفٍ، أي: وهُوَ لِباسُ التَّقوى، وهذا قولُ أَبي إسْحاقٍ الزَّجَّاجُ، وكأنَّ المَعنى بهذِهِ الجُمْلَةِ تَفسيرٌ للّباسِ المُتَقَدِّمِ، وعلى هذا فيَكونُ قولُهُ "ذلك" جُملَةً أُخْرى مِنْ مُبْتَدَأٍ وخَبَرٍ. وقَدَّره مكي بأحسنَ مِنْ تقدير الزّجَّاجِ فقال: وسَتْرُ العورَةِ لِباسُ التَقْوى. [/size]
[size=29.3333]الثالث: أنْ يَكونَ "ذلك" فَصْلاً بَيْنَ المُبْتَدَأِ وخَبَرِهِ، وهذا قولُ الحُوفِيِّ ولا أَعْلَمُ أَحَداً مِنَ النُّحاةِ أَجازَ ذَلك، إلاَّ أَنَّ الواحِدِيَّ قالَ: ومَنْ قالَ إنَّ "ذلك" لَغْوٌ لَمْ يَلْقَ على قولِهِ دَلالةٌ؛ لأنَّهُ يَجوزُ أَنْ يَكونَ على أحَدِ مَا ذَكَرْنا مِنْ أَوْجُهٍ. فقولُهُ: "لغو" هو قريبٌ مِنَ القَوْلِ بالفَصْلِ؛ لأنَّ الفَصْلَ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإِعرابِ، عند جُمهورِ النَّحْويينَ مِنَ البَصْريّينَ والكُوفِيّين. [/size]
[size=29.3333]الرابع: أنْ يَكونَ "لباسُ" مُبتَدأً و"ذلك" بَدَلٌ مِنْهُ، أوْ عَطْفُ بَيانٍ لَهُ، أو نعتٌ، و"خير" خَبَرُهُ، وهو مَعْنى قَوْلُ الزّجّاجِ وأَبي عَلِيٍّ الفارسيِّ وأَبي بَكْرٍ ابْنِ الأَنْبارِيِّ، إلاَّ أَنَّ الحُوفِيَّ قال: وأنا أَرى أَنْ لا يَكونَ "ذلك" نَعْتاً لِـ "لباس التقوى"؛ لأنَّ الأسْماءَ المُبْهَمَةَ أَعْرفُ مِمَّا فيهِ الأَلِفُ واللامُ، وما أَضيفَ إلى الأَلِفِ واللاّمِ، وسَبيلُ النَّعْتِ أَنْ يَكونَ مُساوِياً للمَنْعوتِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ تَعريفاً، فإنْ كانَ قدْ تَقدَّمَ قَولُ أَحَدٍ بِهِ فَهُوَ سَهْوٌ. وقد تقدَّم ما قالَه فيه الزّجّاجِ والفارِسِيِّ وابْنِ الأنْبارِيِّ، وذَكَرَهُ الواحِدِيُّ أيضاً. وقالَ ابْنُ عطيَّةَ: (هُوَ أَنْبَلُ الأَقْوالِ). وذَكَرَ مَكِيٌّ الاحْتِمالاتِ الثَلاثَةِ: أَعْني كَوْنَهُ بَدَلاً أَوْ بَياناً أَوْ نَعْتاً، ولكنَّ ما بَحَثَهُ الحُوفِيُّ صَحيحٌ مِنْ حَيْثُ الصِناعَةُ، ومِنْ حيثُ إنَّ الصَحيحَ في تَرتيبِ المَعارِفِ ما ذَكَر مِنْ كَوْنِ الإِشاراتِ أَعْرَفَ مِن ذِي الأَداةِ، ولكنْ قدْ يُقالُ: القائلُ بِكَوْنِهِ نَعْتاً لا يَجْعَلُه أَعْرَفَ مِنْ ذي الأَلِفِ واللاّمِ. [/size]
[size=29.3333]الخامِسُ: جوَّزَ أَبو البَقاءِ أَنْ يَكونَ "لباسُ" مُبتَدأً، وخبرُهُ مَحْذوفٌ أيْ: ولباسُ التَقْوى ساتِرُ عوراتِكم. ولا حاجةَ إلى هذا التَقديرِ.[/size]
[size=29.3333]وفي قراءةِ عبدِ اللهِ وأُبَيّ "ولِباسَ التَقوى خيْرٌ" بإسقاطِ "ذلك"، وهيَ مُقوِّيَةٌ للقوْلِ بالفَصْلِ والبَدِلِ وعَطْفِ البيانِ. وقَرأَ النَّحْوِيُّ: "ولبُوسُ" بالواوِ ورَفْعِ السِّينِ. فأمَّا الرفعُ فعلى ما تَقَدَّمَ في "[/size][size=29.3333]لباس[/size][size=29.3333]"، وأَمَّا "لَبوس" فلم يُبَيِّنوها: هلْ هيَ بِفَتْحِ اللاَّمِ فَيَكونُ مِثلَ قولِهِ تَعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} سورةُ الأنبياء، الآية: 80. أوْ بِضَمِّ اللاّمِ على أَنَّهُ جَمْعٌ وهو مُشْكِلٌ، وأَكْثَرُ ما يُتَخَيَّلُ لَهُ أَنْ يَكونَ جَمْع لِبْسٍ بِكَسْرِ اللامِ بمَعْنى مَلْبوس.[/size]
[size=29.3333]وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي: لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ الْتِفَاتٌ أَيْ جَعَلَ اللهُ ذَلِكَ آيَةً لَعَلَّكُمْ تَتَذَكَّرُونَ عَظِيمَ قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَانْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَاللُّطْفِ، وَفِي هَذَا الِالْتِفَاتِ تَعْرِيضٌ بِمَنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ مِنْ بَنِي آدَمَ فَكَأَنَّهُ غَائِبٌ عَنْ حَضْرَةِ الْخِطَابِ، عَلَى أَنَّ ضَمَائِرَ الْغَيْبَةِ، فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ فِي الْقُرْآنِ، كَثِيرًا مَا يُقْصَدُ بِهَا مشركو الْعَرَب.[/size]
[size=29.3333]والاسْتِعارَةُ المَكْنِيَّةُ التَخْيلِيَّةُ: في قولِهِ تَعالى: "وَلِباسُ التَّقْوى" ومِثْلُها كَثيرُ الوُقوعِ في كَلامِ الشُّعراءِ، ومِنْهُ:[/size]
[size=29.3333]إذا المرء لم يلبس لباسا من التقى ........ تقلب عريانا وإن كان كاسيا[/size]