[size=29.3333]وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ[/size]
[size=29.3333](39)[/size]
[size=29.3333]قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنُه: {وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ} أي قالتِ الأممُ السابقةُ بعد أن سمعوا ردَّ اللهِ عليهم، للأممِ المتأخرةِ، الذين جاءوا مِنْ بعدِهم فَسَلَكوا سَبيلَ مَنْ مَضى قَبْلَهم، فأُولاهم هي المَتْبوعَةُ أَيْ هي السَّلَفُ، والثانيةُ الخَلَفُ، وهذِهِ مَعانٍ نِسْبِيَّةٍ، فَكُلُّ جِيلٍ يَكونُ طائفةً أُولى لِمَنْ يَليهِ، وتَكونُ أُخرى بالنِسْبَةِ لَه، وهَكذا تتعاقَبُ الأَجيالُ، وتَتَطارَحُ الأوزارَ، كلٌّ منها تَطرحُه على التي سبقتْها والكلُّ في ضَلالٍ مُبينٍ. أَوْ قالَ أَهْلُ الرِياسَةِ والزَّعامَةِ المَتْبوعين، للأتْباعِ المُسْتَضعفين، أَوْ قالَ المُشَرِّعونَ لأنْفُسِهم ما يشتهون، ممّا لمْ يأْذَنْ بِهِ اللهُ، ثمَّ تَبِعَهم غيرُهم في ضَلالِهم.[/size]
[size=29.3333]قولُه: {فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ} يُحْتَمَلُ: ماكان لَكم علَيْنا مِنْ فَضْلٍ في شَيْءٍ؛ فقدْ ضَلَلْتُم كما ضَلَلْنا، أيْ: لَم يَكُنْ لَنا عليْكُم فَضْلُ سُلْطانٍ، ولا كانَ مَعَنا حُجَجٌ وآياتٌ قَهَرْناكُم عَلَيْها، إنَّما دَعَوْناكم إلى ذَلِكَ فاسْتَجَبْتم لَنا، وقد كانَ بُعِثَ إليكمُ الرُسُلُ مَعَ حُجَجٍ وآياتٍ فلم تُجيبوهُم، وهُو كَما قالَ إبليسُ: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة إبراهيم، الآية: 22. فيقولُ هَؤُلَاءِ القادةُ للأتباعِ مثلَ قولِ الشَيْطانِ لِجُمْلَتِهم. وقيل: قولهُ: "فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ"، يَعني: في تَخفيفِ العذابِ. أيْ: نحنُ وأَنْتُمْ في العذابِ سَواءٌ، لا فَضْلَ لَكم عَلَيْنا مِنْ تَخفيفِ العَذابِ في شيءٍ. فـ "من" هُنا للاسْتِغْراقِ، أيْ ليسَ لَكُمْ عَلَيْنا أَيُّ فَضْلٍ يُخَفِّفُ العَذابَ، أوْ يُوجِبُ أَنْ يُشدَّدَ العَذَّابُ علينا؛ فأَنْتمْ ضَلَلْتُم كَما ضَلَلْنا، والعذابُ للضَلالِ والعِنادِ، أوْ الكُفْرِ، وقد شاركْتُمونا في ذلك، وإذا كُنَّا قدْ أَضْلَلناكم واتَّبَعْتُمونا في ضلالِنا، فقدْ أَضْلَلْتُم غَيرَكم، واتَّبَعوكم في ضَلالِكُمْ كَما اتَّبَعْتُمونا. [/size]
[size=29.3333]قولُهُ: {فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} بيانٌ لأَسْبابِ الحُكْمِ عَلَيْهِم، أيْ: فذوقوا العذابَ المضاعَفَ مِثْلَنا بِسَبَبِ ما اكْتَسَبْتُموهُ في الدُنيا مِن قَبائحَ ومُنكراتٍ، وقال "تَكْسِبون" ولم يقلْ تَكْتَسِبون، لأنَّ اكْتِسابَهم للسَيِّئاتِ صارَ بالنسبةِ لهم أَمْراً طَبيعيّاً ولَمْ يَعُدْ فيهِ افْتِعالٌ أبّداً. ثمَّ إنَّهم ما وَرَدوا هذا المَصيرَ الأَليمَ إلاَّ بِسَبَبِ ما اكْتَسَبوهُ مِنْ آثامٍ، واجْتَرَحوهُ مِنْ سَيِّئاتٍ. وليس ذلكَ تَجَنِّياً مِنَ اللهِ، ولا بِسُلْطَةِ القَهْرِ لِعِبادِهِ، ولكنْ بِعَدالَةِ الحُكْمِ؛ لأنَّ ذلك إنَّما حَدَثَ بِسَبَبِ ما كَسَبْتُمْ. والتذوق إنّما يَكونُ في الطُعومِ، لكنَّ الحَقَّ قد جَعَلَ كلَّ جارِحَةٍ فيهم تَذوقُ العَذابَ، فهو حين يُريدُ شُمولَ العَذابِ للجِسْمِ يَجْعَلُ لِكُلِّ عُضْوٍ في الجِسْمِ حَاسَّةَ الذَوْقِ كالّتي في اللِّسانَ، قالَ سُبحانَهُ: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجُوعِ والخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} سورةُ النحل، الآية: 112. فكأن هذه الإذاقةَ صارت لباساً مِنَ الجُوعِ يَشْمَلُ الجَسَدَ كُلَّهُ، لأنَّ التذوُّقَ أَشَدُّ الإِدراكات تَاثيراً، واللباسُ أَشْمَلُ للجَسَدِ. [/size]
[size=29.3333]قولُهُ تعالى: { وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ} الواو: عاطفةٌ، و"قالت لأخراهم" مثل قالتْ لأولاهم في الآية السابقة، والجملة لا محلَّ لها لأنها معطوفة على جملة "قالت أخراهم لأولاهم" التي ليس لها محلٌّ مِنَ الإعْرابِ. [/size]
[size=29.3333]قولُهُ: {فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ} الفاء: رَابِطَةٌ لِجوابِ شَرْطٍ مُقُدَّرٍ. وقيل هي عاطفةٌ، عطفت هذهِ الجُملةَ المَنْفيَّةَ على قولِهِ تعالى: "لكلٍ ضِعْفٌ"، و"ما" نافية، و"كان" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ ـ من النواسخ ـ واللام: حرفُ جَرٍّ، والكاف: ضميرٌ متَّصِلٌ في محلِّ جَرٍّ بحرف الجرِّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ لـ "كان" والميم: علامة جمع المذكر. و"على" حَرْفُ جَرٍّ، و"نا" ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "فَضْلٍ" "من" حَرْفُ جَرٍّ زائدٍ للاستغراق، و"فضل" مَجْرورٌ لَفْظًا مَرْفوعٌ مَحلاًّ، على أنَّه اسم مؤخَّرٌ لـ "كان". وجملة "ما كان" جوابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، والتقدير: إنْ كُنتم ضالّينَ بِسَبَبِنا "فما كان"، وجملةُ الشَرْطِ المُقَدَّرَةِ معَ جَوابِها في مَحَلِّ نَصْبٍ مَقولَ القَوْلِ.[/size]
[size=29.3333]قولُهُ: {فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} الفاء: لِرَبْطِ المُسَبَّبِ بالسَبَبِ "ذوقوا" فعلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ على حذْفِ النونِ من آخره لأنَّه من الأفعال الخمسةِ، والواو: ضميرٌ متَّصل دالٌّ على الجماعةِ في محلِّ رفعِ فاعلٍ، و"العذاب" مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ بـ "ذوقو"، وعلامةُ نصبه الفتحةُ الظاهرةُ على آخره، و"بما" والباء: للسَبَبية حرفُ جَرٍّ، و"ما" حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ، والمَصْدَرُ المُؤُوَّلُ من "ما كنتم تكسبون" تقديرُهُ: "اكتسابِكم" في محلِّ جرٍّ بالباءِ، متعلّق بـ "ذوقوا". وقيل أنَّ "ما" هنا اسمٌ موصولٌ بمعنى الذي، والعائدُ مَحذوفٌ، والتقديرُ: تكسبونَهُ. و"كنتم" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ ناسِخٌ، والتاء: اسْمُهُ والميم للمذكَّر، و"تكسبون" فعلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ، وعلامة رفعِهِ ثبوتُ النون لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعل. وجُملةُ "ذوقوا" في محلِّ نَصْبٍ عطفاً على جُملةِ مقولِ القولِ "ماكانَ". جملةُ "كنتم تكسبون" صلةُ الموصولِ الحَرْفي "ما" لا مَحلَّ لَها من الإعرابِ. وجملةُ "تكسبون" في مَحلِّ نَصْبٍ خبراً لـ "كنتم".[/size]