الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51)
قولُه ـ تباركت أسماؤه: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً} أَيْ أنَّهم اتَّخَذوا دينَهُمُ المَلاهيَ التي كانوا يَلْهونَ بها ويَلْعبون؛ لأنَّهم كانوا يُنْكرونَ البَعْثَ، وفي إنْكارِهم البعثَ إنْكارٌ للحسابِ والجَزاءِ على الحَسَناتِ والسَيِّئاتِ، وفي الحكمة إيجابُ ذلك، فمَنْ لَمْ يَرَهُ فهو لاهٍ ولاعِبٌ. واللّهْوُ صَرْفُ الهَمِّ إلى ما لا يَحْسُنُ أَنْ يُصْرَفَ إليْه، واللَّعِبُ طَلَبُ الفَرَحِ بِما لا يَحْسُنُ أنْ يُطلَبَ، فاللَّهْوُ واللَّعِبُ هو ما لا عاقبةَ لَهُ، وكلُّ عَمَلٍ لا عاقبةَ لهُ فهو لَعِبٌ ولَهْوٌ، وهْمْ كانوا يَعملون ما لا عاقبةَ له؛ كالذي زَيَّنَ لهمُ الشيطانُ مِنْ تحريمِ البَحيرةِ وأَخَواتِها، وكالمُكاءِ والتَصْدِيَةِ حَوْلَ البَيْتِ، وسائرِ الخِصالِ الذَميمةِ، التي أغراهمُ الشيطانُ بها، وكانوا يَفْعلونَها في جاهليَّتِهم. وقيل: المقصودُ بدينِهم عيدُهم، لِذلك كانت أعَمالُهم هذه كلّها لَهْوًا ولَعِبًا، إذ لم تكنْ تؤدي بهم لحسنِ العاقبة.
قولُهُ: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا} بزينَتِها وزُخْرُفِها وكَثْرَةِ دُعاتِها، فاطْمَأَنُّوا إليْها ورَضُوا بِها وفَرِحُوا، وأَعْرَضُوا عَنِ الآخِرَةِ ونَسُوها. ولقد أُضيفَ التَغريرُ إلى الحياةِ الدُنيا لمَّا كانتْ سَبَبًا مِنْ أَسبابِ الاغْتِرارِ بها، لكنَّها لا تَغُرُّ أَحَدًا، وهو كقولِه تعالى: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا}، فأضافَ الفِرارَ إلى الدُعاءِ، وقد يُضافُ الشيءُ إلى سَبَبِهِ؛ كَقولِه: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} أيْ: يُبْصَرُ بِهِ. وقد أضيفَ ذلك إلَيْها؛ لِما كانَ مِنْها مِنْ سَبِبٍ نَحوَ التَزْيين وغيرِهِ، على إرادةِ أَهْلِها، أيْ: غَرَّهُم أَهلُها، وهُمُ القادةُ والرُؤساءُ.
قولُهُ: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} كما تَرَكُوا أَمْرَهُ وضَيَّعوهُ، تَركَهُم في العُقوبَةِ، ولا ينظُرُ فيما يَشْكونَ، ولسوفَ تَأْتي عَلَيْهِمُ الأَحْقابُ، فلا كَشفَ عذابٍ، ولا بَرْدَ شَرابٍ، ولا حُسْنَ جَوابٍ، ولا إكرامٌ بِخِطابٍ. ولا يَجوزُ أَنْ يُضافَ النِسْيانُ إلى الله ـ تعالى ـ بِحالٍ، ولكنْ يَجوزُ أنْ يُقالَ: يَجْزيهم جزاءَ نِسْيانِهم، فَسُمّيَ الثاني باسْمِ الأوَّلِ، وإن لم يكن الثاني نسيانًا؛ نحو قوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)، والثانية ليست بسيئة، ولكن جزاء السيئة، لكنَّهُ سمَّاها باسْمِ السَيِّئَةِ؛ لِما هي جَزاءٌ لَها؛ فعلى ذَلك هذا، وهو كقولِهِ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} والثاني ليس باعْتِداءٍ، ولكنَّه جَزاءُ الاعْتِداءِ، فسَمَّاهُ باسْمِ الاعْتِداءِ؛ لِما هُوَ جَزاؤه؛ فعلى ذلك سَمّى الثاني نِسْياناً؛ لأنَّهُ جزاءُ النِسْيانِ، وإنْ كانَ لا يحوزُ النسيانُ في حقِّ اللهِ ـ سبحانَهُ وتعالى ـ وكذلك السهوُ عَنْ شَيْءٍ، أو أنْ يَغْفَلَ، ولأن في النِسيانِ تَرْكاً، وكُلُّ مَنْسِيٍّ مَتْروكٌ، فيَتْرُكُهم قِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ أَيْ نَتْرُكُهُمْ فِي النَّارِ. كما نَسُوا لِقاءَ يَومِهم هذا، أَيْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ وَكَذَّبُوا بِهِ. فنفعلُ بِهم فِعْلَ الناسِي بالمَنْسي مِنْ عَدَمِ الاعْتِدادِ بِهم وتَرْكِهم في النَّارِ تَرْكاً كُلِّيّاً، فالكَلامُ خارجٌ مَخْرَجَ التَمْثيلِ، وقدْ جاءَ النِسْيانُ بمَعنى التَرْكَ كثيراً، ويَصِحُّ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ هُنا فَيَكونُ اسْتِعارَةً أوْ مَجازاً مُرْسَلاً، وعن مجاهدٍ أَنَّه قال: المَعْنى نُؤَخِّرُهم في النَّارِ، وعليه فالظاهِرُ أَنَّ نَنْساهُم مِنَ النَسيءِ لا مِنَ النِسْيانِ.
قولُهُ: {الذين اتَّخذوا دينهم لهواً ولعباً} الذين: اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ جَرٍّ نعتًا للكافرينَ أو بدلاً منه، أوْ هو في مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرٍ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ تَقْديرُهُ "هم"، والجُمْلَةُ الاسْمّيَّةُ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ في مَحَلِّ نَصْبِ مَفْعولٍ بِهِ لِفِعْلٍ مَحذوفٍ تَقديرُهُ أَعْني، أوْ أَذُمُّ. "اتّخذوا" مِثل "قالوا" "دينَ" مَفعولٌ بِهِ أَوِّل، مَنْصوبٌ وعلامةُ نصبِه الفتحةُ الظاهرةُ، و"هم" ضميرٌ متّصلٌ في محلِّ جرٍّ بإضافةِ "دينَ" إليه. و"لهواً" مَفْعولٌ بِهِ ثانٍ مَنْصوبٌ و"الواوُ" عاطِفَةٌ و"لَعِباً" معطوفٌ على "لهواً" مَنْصوبٌ مِثلُهُ. وجملةُ "اتّخذوا" صلة الموصولِ "الذين" لا مَحَلَّ لَها منَ الإعراب.
قولُهُ: {وغرَّتهمُ الحياةُ الدنيا} و: عاطفةٌ، "غرّت" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ، والتاءُ للتأنيث. و"هم" الهاءُ ضميٌر متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مَفعولٍ بِهِ، والميمُ لجمعِ الذكور. و"الحياة" فاعلٌ مَرْفوعٌ، وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ، و"الدنيا" نَعْتٌ للحياةِ مَرْفوعٌ، وعَلامَةُ الرَّفْعِ الضَمَّةُ المُقَدَّرةُ على الأَلِفِ للتعذُّرِ. وهذه الجملةُ عطفٌ على جملة الصلةِ لا محلَّ لها من الإعراب.
قولُهُ: {فاليومَ ننساهم} الفاء: للاستِئنافِ، و"اليومَ" ظَرْفُ زَمانٍ، منصوبٌ مُتَعَلِّقٌ بـ "ننساهم" و"ننساهم" فعلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ، وعَلامَةُ رفعِه الضَمَّةُ المُقَدَّرةُ على الألف للتعذُّرِ، و"هم" ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مفعولٍ به، والميمُ لجمعِ الذكورِ، والفاعلُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ تَقديرُهُ "نحن". والجملة استئنافٌ بيانيٌّ لا محلَّ لها من الإعراب.
وقولُهُ: {كما نَسُوا لِقاءَ يومِهم هذا} الكافُ: حرفُ جرٍّ وتشبيهٍ وتأتي كذلك للتعليل، و"ما" حرفٌ مصدري، وتأتي اسْماً مَوْصولاً بمعنى الذي كذلك، وهي هنا مصدريَّةٌ مُؤَوَّلَةٌ مَعَ الفِعْلِ بعدَها بِمَصْدَرٍ في مَحَلِّ جَرٍّ بالكافِ، والجارُّ والمَجرورُ مُتَعِلِّقان بِمَحْذوفٍ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحذوفٍ، والتقدير: نَنساهم نِسْياناً كائناً كَنِسْيانِ لِقاءِ يَومِهم هذا. ويَجوزُ أَنْ تَكونَ الكافُ للتَعليلِ، أيْ: تَرَكناهم لأجْلِ نِسْيانِهم لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا. "نسوا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَمِّ لاتصالهِ بواو الجماعة، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ والألفُ للتفريق، "لقاءَ" مفعولٌ به منصوبٌ، وعلامةُ نصبِه الفتحةُ على آخره وهو مضافٌ. "يومهم" يوم: مضافٌ إليه مجرورٌ وعلامةُ جرِّهِ الكسرةُ الظاهرةُ، وهو مُضافٌ أيضاً إلى "ه" وهي ضميرٌ متّصلٌ في محلِّ جرٍّ بإضافة "يوم" إليها، والميمُ علامة التذكير، والمَصْدَرُ المُؤوَّلُ "ما نسوا" في مَحَلِّ جَرٍّ بالكافِ مُتَعَلِّقٌ بمَحذوفِ مَفْعولٍ مُطْلقٍ تقديرُه "نسياناً". ويَجوزُ أنْ يكونَ "يومهم" متَّسَعاً فيه، فأُضيفَ المَصْدَرُ إليْهِ، كما يُضافُ إلى المَفعولِ بِهِ. ويجوزُ أنْ يَكونَ المَفعولُ مَحْذوفاً، والإِضافةُ إلى ظَرْفِ الحَدَثِ، أيْ: لقاءَ العذابِ في يَومِهم. "هذا" الهاءُ للتنبيه، و"ذا" اسمُ إشارةٍ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ جَرٍّ صفةً لـ "يوم" أو بدلاً مِنْهُ، أو عطفَ بيانٍ له. جملَةُ "نَسُوا" صلةُ الموصول الحرفي "ما" لا محلَّ لها.
قولُهُ: {وما كانوا بآياتِنا يجحدون} و: حرفُ عطفٍ، "ما" تقدَّمَ إعرابُها، "كانوا" كان: فعلٌ ماضٍ ناقصٌ ـ من النواسخ ـ مَبْنِيٌّ على الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواو الجماعة، والواو: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ اسْمِ كان، والألفٌ فارقةٌ. "بآيات" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بـ "يجحدون"و "آياتِ" مضافٌ، و"نا" ضَميرُ العَظَمَةِ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليْه. وجملةُ "كانوا" صلةُ الموصولِ الحرفي الثاني "ما" لا محلَّ لها مِنَ الإعراب.
قولُهُ: {يجحدون} فعلٌ مُضارعٌ مَرفوعٌ، وعلامةُ رفعِه ثبوتُ النون في آخرِه لأنّهُ مِنَ الأَسْماءِ الخَمْسَةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ. وجملةُ: "يجحدون" في مَحَلِّ نَصْبِ خَبَرِ كان. والمصدرُ المُؤوَّلُ من "ما كانوا" في مَحَلِّ جَرِّ مَعْطوفٍ على المَصْدَرِ المُؤوَّلِ الأَوَّلِ.