وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ
(80)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنُه: {وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ} لوطٌ: اسمٌ أَعْجَميٌّ وصرف لخفَّتِه فهو سَاكِنُ الْوَسَطِ مؤلَّفٌ من ثلاثةِ أحرفٍ، وقيل هو مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ: هَذَا أَلْيَطُ بِقَلْبِي، أَيْ أَلْصَقُ. وقيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ لُطْتُ الحوضَ إِذَا مَلَّسْتُهُ بِالطِّينِ. وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ الْأَعْجَمِيَّةَ لَا تُشْتَقُّ كَإِسْحَاقَ، فَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ مِنَ السُّحْقِ وَهُوَ الْبُعْدُ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: نُوحٌ وَلُوطٌ أَسْمَاءٌ أَعْجَمِيَّةٌ، إِلَّا أَنَّهَا خَفِيفَةٌ فَلِذَلِكَ صُرِفَتْ. وقد أرسلَ اللهِ لوطاً ـ عليه السلامُ ـ إِلَى أُمَّةٍ تُسَمَّى "سَدُومُ"، وَكَانَ ابْنَ أَخِي إِبْرَاهِيمَ ـ عليهما السلامُ ـ كما رُوي في "المستدرك" عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ تَعالى عَنْهُما ـ وهو ما عليه أًكْثَرُ النَسّابين.
وأَخرَجَ ابْنُ عَساكِرَ عَنْ سُليمانَ بْنِ صردٍ أَنَّ أَبا لُوطٍ هو عَمُّ إبراهيمَ ـ عليهما السلامُ، وقيلَ: إن لُوطاً كانَ ابْنَ خالَةِ إبْراهيم، وكانتْ سارةُ زوجةُ إبراهيمَ أُخْتَ لُوطٍ، وكان في أَرْضِ بابِلَ مِنَ العِراقِ، مَعَ إبْراهيمَ، فهاجرَ إلى الشامِ، ونَزَلَ فِلَسْطينَ، وأَنْزَلَ لُوطاً الأُرْدُنَّ، من الشامِ فأرْسَلَهُ اللهُ تَعالى إلى أَهْلِ سَدومَ، وهي بَلْدَةٌ بِحِمْصَ.
وأَخرجَ إسْحقُ بْنُ بِشْرٍ وابْنُ عَساكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ قال: أُرْسِلُ لُوطٌ إلى المُؤْتَفِكاتِ، وكانتْ قُرى لُوطٍ أَرْبَعَ مَدائنَ: سَدومُ، وأَمورا، وعامورا، وصَبْويرَ، وكان في كلِّ قريةٍ مئةُ ألفِ مُقاتِل، وكانتْ سدومُ أَعْظَمَ مدائنِهم، وكانَ لُوطٌ يَسْكُنُها، وهي مِنْ بِلادِ الشامِ، ومِنْ فِلَسْطينَ مَسيرةَ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ.
وكلمةُ "قومه" تَعني أَنَّه مِنْهم، ولم يَقُلْ: "أخاهم لوطاً" كما قال في السابقين مِنَ الرُسُلِ، لأنَّهم كانوا مِنَ بَيئة الأقوامِ الذينَ أُرسِلوا إليْهم؛ أمّا لوطٌ فلم يكنْ مِنْ بيئةِ قومِهِ، وإنّما كان هو وإبراهيمُ ـ عليهِما السَّلامُ ـ مِنَ العِراقِ بِحَسَبِ ما تقدَّمَ من رواياتٍ، وقد جاءا إلى الشامِ فِراراً مِنَ الاضْطِهادِ، فهو لم يَكُنْ أَخاهمُ المُقيمَ مَعَهم في البيئةِ نَفْسِها، ولكِنَّهم قومُه، لأنَّه عاشَ مَعَهم فترةً فعَرَفَ بَعضُهم بَعْضاً، وعَرَفوا بعضاً مِنْ صِفاتِهِ، وأَنِسُوا بِهِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُوصَفْ بِأَنَّهُ أَخُوهُمْ إِذْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبَائِلِهِمْ، وَإِنَّمَا نَزَلَ فِيهِمْ وَاسْتَوْطَنَ دِيَارَهُمْ. وكَانُوا خَلِيطًا مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ وَمِمَّنْ نَزَلَ حَوْلَهُمْ، وَلذلك تَغْيِيرُ الْأُسْلُوبِ فِي ابْتِدَاءِ هذه القِصَّةِ، إِذِ ابْتُدِئَتْ بِذِكْرِ لُوطٍ كَمَا ابْتُدِئَتْ قِصَّةٌ بِذِكْرِ نُوحٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِقَوْمِ لُوطٍ اسْمٌ يُعْرَفُونَ بِهِ، وكذلك كانَ قَوْمُ نُوحٍ.
وسَدومُ من السَديمِ وتَعْني المِلْحَ، وقدْ أُرْسِلَ لوطٌ ـ عليه السلام ـ إلى "سَدومَ" و"عَمُورَةَ" وهُمْ أَسْلافُ الفينيقيين وكانوا يسكنونِ على شاطئ بَحْرِ المِلْحِ ـ كما سُمِّيَ في التَوراةِ ـ أو "بُحيرةِ لُوطٍ"، أَوِ البَحرِ المَيِّتِ، كما يُدعى اليومَ.
قَوْلُهُ: {أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ} إتيانُ الفاحشةِ: فعلُها، وَالْفَاحِشَةُ: الْفِعْلُ الدَّنِيءُ الذَّمِيمُ، والمقصودُ بالفاحشةِ هُنا إِتْيَانَ الذُّكُورِ. وقد ذَكَرَهَا اللهُ بِاسْمِ الْفَاحِشَةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّهَا زِنًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى في سورةِ الإسْراءِ: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنا إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً ومقتاً وساء سبيلاً} الآيةُ: 32. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُرْجَمُ، أَحْصَنَ أَوْ لَمْ يُحْصَنْ. وَكَذَلِكَ يُرْجَمُ الْمَفْعُولُ بِهِ إِنْ كَانَ مُحْتَلِمًا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا: يُرْجَمُ إِنْ كَانَ مُحْصَنًا، وَيُحْبَسُ وَيُؤَدَّبُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَنٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حنيفة: يُعَزَّرُ الْمُحْصَنُ وَغَيْرُهُ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مثلُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَا قِيَاسًا عَلَيْهِ. وقد احْتَجَّ مَالِكٌ بقوله تَعَالَى في سورة الحِجر: {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} الآية: 72. فَكَانَ ذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُمْ وَجَزَاءً عَلَى فِعْلِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: لَا حُجَّةَ فِيهَا لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْمَ لُوطٍ إِنَّمَا عُوقِبُوا عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ كَسَائِرِ الْأُمَمِ. والثَّانِي: أَنَّ صَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ دَخَلَ فِيهَا، فَدَلَّ عَلَى خُرُوجِهَا مِنْ بَابِ الْحُدُودِ. قِيلَ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَغَلَطٌ، فَإِنَّ اللهَ ـ سُبْحَانَهُ ـ أخْبَرَ عَنْهم أَنَّهم كانوا على مَعاصٍ فَأَخَذَهُمْ بِهَا، ومِنْهَا هَذِهِ المعصيةُ. وَأَمَّا الثَّانِي فَكَانَ مِنْهُمْ فَاعِلٌ وَكَانَ مِنْهُمْ رَاضٍ، فَعُوقِبَ الْجَمِيعُ لِسُكُوتِهِم عَلَيْهِا. وَهِيَ حِكْمَةُ اللهِ وَسُنَّتُهُ في عبادِهِ.
وَبَقِيَ أَمْرُ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْفَاعِلِينَ مُسْتَمِرًّا. فقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ)). لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ. وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ ((أَحْصَنَا أَوْ لَمْ يُحْصِنَا)). وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ فِي الْبِكْرِ يُوجَدُ عَلَى اللُّوطِيَّةِ قَالَ: يُرْجَمُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَرَّقَ رَجُلًا يُسَمَّى الْفُجَاءَةَ حِينَ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ بِالنَّارِ. وَهُوَ رَأْيُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ جَمَعَ أَبُو بَكْرٍ أَصْحَابَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَاسْتَشَارَهُمْ فِيهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّ هَذَا الذَّنْبَ لَمْ تَعْصِ بِهِ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ صَنَعَ اللهُ بِهَا مَا عَلِمْتُمْ، أَرَى أَنْ يُحَرَّقَ بِالنَّارِ. فَاجْتَمَعَ رَأْيُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يُحَرَّقَ بِالنَّارِ. فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ـ رضي اللهُ عنهما ـ أَنْ يُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ فَأَحْرَقَهُ. ثُمَّ أَحْرَقَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي زَمَانِهِ. ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ. ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ بِالْعِرَاقِ. وَرُوِيَ أَنَّ سَبْعَةً أُخِذُوا فِي زَمَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي لِوَاطٍ، فَسَأَلَ عَنْهُمْ فَوَجَدَ أَرْبَعَةً قَدْ أَحْصَنُوا فَأَمَرَ بِهِمْ فَخَرَجُوا بِهِمْ مِنْ الْحَرَمِ فَرُجِمُوا بِالْحِجَارَةِ حَتَّى مَاتُوا، وَحَدَّ الثَّلَاثَةَ، وَعِنْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ فَلَمْ يُنْكِرَا عَلَيْهِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالَّذِي صَارَ إِلَيْهِ مَالِكٌ أَحَقُّ، فَهُوَ أَصَحُّ سَنَدًا وَأَقْوَى مُعْتَمَدًا. وَتَعَلَّقَ الْحَنَفِيُّونَ بِأَنْ قَالُوا: عُقُوبَةُ الزِّنَا مَعْلُومَةٌ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ غَيْرَهَا وَجَبَ أَلَّا يُشَارِكَهَا فِي حَدِّهَا. وَيَرُوونَ فِي هَذَا حَدِيثًا عن النبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلّمَ ـ : ((مَنْ وَضَعَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَقَدْ تَعَدَّى وَظَلَمَ). وَلأَنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِحْلَالٌ وَلَا إِحْصَانٌ، وَلَا وُجُوبُ مَهْرٍ وَلَا ثُبُوتُ نَسَبٍ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَدٌّ.
فَإِنْ أَتَى بَهِيمَةً فَقَدْ قِيلَ: لَا يُقْتَلُ هُوَ وَلَا الْبَهِيمَةُ. وَقِيلَ: يُقْتَلَانِ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَفِي الْبَابِ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ مَعَهُ)). فَقُلْنَا لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا شَأْنُ الْبَهِيمَةِ؟ قَالَ: مَا أُرَاهُ قَالَ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُؤْكَلَ لَحْمُهَا وَقَدْ عُمِلَ بِهَا ذَلِكَ الْعَمَلُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إِنْ يَكُ الْحَدِيثُ ثابتاً فالقولُ بِهِ يَجِبُ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللهَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَإِنْ عَزَّرَهُ الْحَاكِمُ كَانَ حَسَنًا. وَاللهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَتْلَ الْبَهِيمَةِ لِئَلَّا تُلْقِي خَلْقًا مُشَوَّهًا، فَيَكُونُ قَتْلُهَا مَصْلَحَةً لِهَذَا الْمَعْنَى مَعَ مَا جَاءَ مِنَ السُّنَّةِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الَّذِي زَنَا بِالْبَهِيمَةِ حَدٌّ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ. وَقَالَ الْحَكَمُ: أَرَى أَنْ يُجْلَدَ وَلَا يُبْلَغَ بِهِ الْحَدُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الزَّانِي. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يُجْلَدُ مِئَةً أَحْصَنَ أَوْ لَمْ يُحْصِنْ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَالأَحْنَافُ يُعَزَّرُ. وَرُوِيَ ذلك أيضاً عَنْ عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ. وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا أَشْبَهُ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْبَهِيمَةُ لَهُ.
قَوْلُهُ: {مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ} يَعنِي أَنَّ اللِّوَاطَ لَمْ يَكُنِ فِي أُمَّةٍ قَبْلَ قَوْمِ لُوطٍ. فـ "مِنْ" هنا لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ. فَكَانَ يَنْكِحُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وقَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِالْغُرَبَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رضي اللهُ عن لَمْ يَكُنِ عنه ـ أنَّه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ)). وَقَالَ مُحَمَّدُ بن سيرين: ليس شيءٌ مِنَ الدَّوَابِّ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ إِلَّا الخِنْزيرُ والحِمارُ.
قولُهُ تَعالى: {وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ} و: استئنافيَّةٌ، "لوطا" مَفعولٌ بِهِ لِفِعْلٍ مَحذوفٍ تَقديرُهُ "اذكر" أو "أرسلنا" وضعُفَ أنْ يُقدَّرَ هُنا "أرسلنا" لأنَّ الإرسالَ لم يَكُنْ وَقْتَ قولِهِ المَذْكورِ، فالظرفُ هُنا مانِعٌ مِنْ تَقديرِ الإرْسالِ". و"إذ" اسْمٌ ظَرْفِيٌّ بَدَلاً مِنْ "لوطا" في محلِّ نَصْبٍ، أيْ: واذْكُرْ وَقْتَ إذْ قال لِقَومِهِ، وهذا على التسليمِ بتصرُّفِ "إذ". أو أَنّ العاملَ فيها مقدَّرٌ، وتقديرُه: واذْكرْ رِسالةَ لُوطٍ إذْ قالَ. فـ "إذ" منصوبٌ بِرِسالةٍ، والبَدَلُ حِينئذٍ بَدَلُ اشْتِمالٍ. و"قال" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ، والفاعل ضميرٌ مستترٌ جوازاً تقديرُهُ "هو" يعود على "لوطاً". "لِقومِه" لقومِ: جارٌّ ومَجْرورٌ مُتعلِّقٌ بـ "قال"، و"قومِ" مضافٌ، والهاءُ: ضَميرٌ متَّصلٌ في مَحَلِّ جَرِّ مُضافٍ إليْهِ. وجملةُ "اذكر لوطاً" استئنافيّةٌ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعرابِ. وجملةُ "قال" في مَحَلِّ جرِّ مُضافٍ إليه، والمُضافُ هو "إذ" الظرفيَّةُ.
قولُه: {أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ} الهمزة: للاسْتِفهامِ الإسْتِنْكاريِّ التَوبيخِيِّ، و"تَأْتون" فعلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ، وعلامةُ رفعهِ ثبوتُ النونِ في آخره لأنَّه من الأفعال الخمسةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعله. "الفاحشةَ" مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، وعلامةُ نصبه ظاهرةٌ على آخره، وجُملةُ: "تأتون" في مَحَلِّ نَصْبِ مَقولِ القَولِ.
قولُهُ: {مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ} "ما"نافية، "سَبَقَكم" سبقَ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ على آخره، والكافُ: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مفعولٍ بِهِ، والميمُ علامةُ جمعِ الذكور. "بها" الباء: حَرْفُ جَرٍّ، و"ها" ضَميرٌ متَّصلٌ في مَحَلِّ جَرٍّ بحرف الجرِّ مُتَعلِّقٌ بمَحذوفِ حالٍ مِنْ "أَحَدٌ" أي: مُتَلَبِّساً بها، وهوَ الأَظْهَرُ، أوْ أَنَّها للتَعْدِيَةِ. كقولِكَ: سَبَقْتُهُ بالكُرَةِ، إذا ضربْتَها قبلَهُ. ومنْهُ قولُهُ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((سبقكَ بِها عُكاشةُ)). والتَعْدِيَةُ هُنا قَلِقَةٌ، لأنَّ الباءَ المُعَدِّيَةَ في الفِعْلِ المُتَعدِّي لِواحدٍ هي بجَعْلِ المَفعولِ الأَوَّلِ يَفْعلُ ذلكَ الفِعلَ بِما دَخَلَتْ عليْهِ الباءُ فهيَ كالهَمْزَةِ، وبيانُ ذلكَ أَنَّكَ إذا قُلتَ: (صَكَكْتُ الحَجَرَ بالحجرِ) كانَ معناه: أَصْكَكْتُ الحَجَرَ، أي: جَعَلْتُ الحَجَرَ يَصُكُّ الحَجَرَ، ولا يَصِحُّ هذا المعنى هُنا. و"من" حَرْفُ جَرٍّ زائدٍ لتأكيد الاستغراق، "أحدٍ" مَجرورٌ لَفْظاً مَرْفوعٌ مَحَلاً على أنّهُ فاعلٌ لـ "سَبَقَ" "من" حرفُ جرٍّ للتبعيض، و" العالمين" مَجرورٌ بحرف الجرِّ، وعلامةُ جَرِّه الياءُ لأنَّهُ ملحقٌ بالجمعِ السالِمِ، وهو مُتَعَلِّقٌ بِنَعْتٍ لـ "أحد". وجُمْلَةُ "ما سبقكم" في محلِّ نَصْبِ حالٍ مِنَ الفاعِلِ في "تأتون"، أيْ: مُبْتَدئين بِها، أو حلٍ مِنَ الفاحشةِ، أيْ: غيرَ مَسْبوقَةٍ مِنْ غَيْرِكُم. أو أنَّها جملةٌ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب. وعلى الاستئنافِ يُحتملُ أنْ تَكونَ جواباً لِسؤالٍ وأَنْ لا تكونَ. فقد أَنْكَرَ عليهم أوَّلاً بِقولِهِ: "أَتَأْتُونَ الفاحشة" ثمَّ وبَّخَهم عَلَيْها بأنَّهم أَوَّلُ مَنْ عَمِلَها.