لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ
(41)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ} قيل لهم فُرُشٌ مِنْ نارِ جهنَّم، والمِهادُ: المَكانُ المُمَهَّدُ للإقامةِ فيهِ، وفيه تهكُّمٌ بهم، وهو في مقابلِ ما أَعَدَّه اللهُ ـ سُبْحانَه ـ للمؤمنين في الجَنَّةِ مِنْ: {سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * ونمارِقُ مصفوفةٌ * وزرابيُّ مبثوثة} سورة الغاشية، الآيات: 13 و 15 و 16.
قولُهُ: {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ} غواش: جَمْعُ غاشِيَةٍ، وهي الغِطاءُ، فغِطاؤهم من نارٍ مُوقَدَةٍ، بَعد أنْ كانوا يَلْتَحِفُونَ بالرِياشِ، ويَفْتَرِشون الأَسِرَةَ المترفة والفُرُشَ الوثيرةَ الوَسائدَ اللَّيِّنَةَ، صارَ مِهادِهُمْ جَهَنَّمُ، وغِطاؤهُم نارٌ ملتهبة.
قولُهُ: {وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} وهكذا يُجازي اللهُ مَنْ ظَلَمَ نفسَهُ في الدُنْيا بالكُفْرِ باللهِ، وبآياتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ، والتَكَبُّرِ على خَلْقِ اللهِ، والاسْتِكْبارِ عَنْ سُلوك طَريقِ الحَقِّ، والإذْعانِ إليه. وظلمَ غيرَهُ مِنَ المُسْتَضْعفين أَوِ الحَمْقى فأَضَلَّهم عَنْ طَريقِ اللهِ القويمِ، وصِراطِهِ المُسْتَقيم، أوْ ظَلَمَهم بأنْ صدَّهم عن دين اللهِ وشَرعِهِ القَويم، أوْ ظَلَمَهم بِهَضْمِ حُقوقِهم والتَعَدّي عليهم. فكما أَحاطَتِ العُقوباتُ بِهم في الدُنيا فَتَدَنَّسَ بالغَفْلَةِ باطِنُهم، وتَلَوَّثَ بالزَّلَّةِ ظاهِرُهم، فكذلك أَحاطَتْ العقوباتُ بِجوانِبِهم؛ فَمِنْ فوْقِهم عَذابٌ، ومِنْ تَحْتِهم عَذابٌ، وكذلك مِنْ جوانِبِهم في القَلْبِ مِنْ ضِيقش العَيْشِ واسْتيلاءِ الوَحْشَةِ ما يَفي ويَزيدُ على الكُلِّ.
ووصفَهم اللهُ ـ تعالى ـ في الآيةِ السابِقةِ بالمُجْرِمين؛ ووصَفَهم هُنا بالظالمين، لأنَّ الوَصْفيْنِ مُتَحقِّقان فيهم، فهم أَجرَموا في حَقِّ المُجْتَمَعِ فأَفْسَدوهُ؛ وظَلَموا أَنْفُسَهم، وظَلموا الخلائقَ بما ارْتَكبوه، وتَعَدَّوا حُدودَ اللهِ، {ومَنْ يتَعَدَّ حُدودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه} سورة الطلاق، الآية: 1. {وما ربُّك بظلاّمٍ للعبيد} سورة فُصّلت، الآية: 46.
قولُه تعالى: {لهم مِنْ جَهنَّمَ مِهادٌ} لهم: مثلُ الأَوَّلِ مُتَعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقدَّمٍ، "من جهنم" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِحالٍ مِنْ "مِهادٌ" ـ نَعْتٌ تَقَدَّمَ على المَنعوتِ ـ "مهاد" مُبْتَدأٌ مُؤَخَّرٌ مَرفوعٌ. مِنْ قَبيلِ الجُمَلِ ويَجوزُ أنْ تَكونَ فاعلاً بـ "لهم" فتكونُ الحالُ مِنْ قبيلِ المُفْرَدات.
وهذه الجملة إمَّا استئنافيَّة لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ، أوْ هي في مَحَلِّ نَصْبِ حالٍ مِنَ المُجرمين.
قولُهُ: {ومن فوقهم غوش} الواو: عاطفة "من فوق" جار ومجرور متعلّق بخبرٍ مُقَدَّمٍ، و"الهاء" ضَميرٌ متَّصلٌ في محلَّ جرِّ مُضافٍ إليه، والميم للمذكّر، "غواش" مُبْتَدأٌ مُؤَخَّرٌ مَرْفوعٌ، وعلامةُ رفعه الضَمَّةُ المُقَدَّرَةُ على الياءِ المَحذوفةِ، لأنَّه اسْمٌ مَنْقوصٌ وهذهِ الجُمْلَةُ مَعطوفةٌ على سابقتِها، ولها مِنَ الإعْرابِ مِثْلُ ما لِتِلكَ.
و"غَواشٍ" جَمْعُ غاشيةٍ. وللنُحاةِ في الجَمْعِ الذي على "مَفاعِل" إذا كان مَنْقوصاً بِقياسٍ خلافٌ: هلْ هُو مُنْصَرِفٌ أَوْ غَيرُ مُنْصَرِفٍ؟ فبَعضُهم قالَ: هو مُنْصَرِفٌ لأنَّه قد زال منه صيغةُ مُنْتَهى الجُموعِ فصارَ وزنُهُ وزْنَ جَناحٍ وقَذَالٍ فانْصَرَفَ. وقالَ الجُمهورُ: هو مَمْنوعٌ مِنَ الصَرْفِ، والتنوينُ تنوينُ عِوَضٍ. واختُلِفَ في المُعَوَّض عنه ماذا؟ فالجُمهورُ على أَنَّهُ عِوَضٌ مِنَ الياءِ المَحذوفةِ. وذَهَبَ المُبَرِّدُ إلى أَنَّهُ عِوَضٌ مِنْ حَرَكَتِها. والكسرُ ليس كَسْرَ إعْرابٍ، وهكذا جَوارٍ ومَوالٍ. وبعضُهم يَجُرُّهُ بالفَتْحَةِ قال:
ولو كان عبدُ الله مولىً هجوتُه ............. ولكنَّ عبدَ اللهِ مَوْلَى مَواليا
وقال آخر:
قد عَجِبَتْ مني ومن يُعَيْلِيا .................... لَمَّا رَأَتْني خَلَقاً مُقْلَوْلِيا
وهذا الحكمُ ليس خاصّاً بِصيغَةِ "مَفاعِل"، بَلْ كُلُّ غيرِ مُنْصَرِفٍ إذا كان مَنْقوصاً فَحُكْمُهُ حَكْمُ ما تَقَدَّمَ نحو: يُعَيْلٍ تَصغيرُ يَعْلى، ويَرْمٍ اسْمُ رَجُلٍ، وعليْه قولُه: "ومَنْ يُعَيْلِيا"، وبعضُ العرب يُعْربُ "غواشٍ" ونحوَه بالحَرَكاتِ على الحَرْفِ الذي قبلَ الياءِ المَحْذوفةِ فيَقول: هؤلاءِ جَوارٌ.
قولُهُ: {وكذلك نجزي الظالمين} إعرابها مثل: وكذلك نَجزي المُجرمين من الآية السابقة. وقولُهُ: "الظالمين" يُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ مِنْ بابِ وُقوعِ الظاهرِ مَوقِعَ المُضْمَرِ. والمُرادُ بالظالمينَ المُجرمون، ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكونوا غيرَهم، وأنَّهم يُجْزَون كَجَزائهم. والجملةُ استئنافيَّةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
وقُرئ: {وَمن فوقهم غواشٌ} بِرَفعِ الشينِ، وهي كَقراءةِ عَبْدِ اللهِ في سورة الرحمن: {ولَهُ الجَوارُ} الآية: 24. برفعِ الراءِ.