قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ
(66)
قولُهُ ـ تباركَ وتعالى: {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} سبقَ أن بيَّنّا أنَّ المَلأَ من القومِ هم الأشرافُ والزعماءُ والسادةُ. وهؤلاء، كانوا دائماً أعداءً لأنبياء الله ورسلِه ولكلِّ دعوةٍ إلى الخيرِ والعدلِ والحقِّ، لأنَّها تَحُدُّ مِنِ امْتِيازاتِهم، وتَقِفُ في وَجْهِ تَسَلُّطِهم على عبادِ اللهِ، وتُساويهم بباقي خَلقِهِ، وتَمْنَعُهم مِنِ اسْتِغْلالِ النَّاسِ وسَلْبِهم أَمْوالَهم بغيرِ وَجْهِ حَقٍّ.
ووَصَفَ المَلأَ بالكُفْرِ لأنَّ قومَ عادٍ لم يَكونوا على الكُفْرِ جَميعاً، وإنَّما كان مِنْهم مَنْ هُوَ مُؤمنٌ لكنَّهُ كاتِمٌ إيمانَه ك (مَرْثَد بْنِ سَعْدٍ بنِ عفير) ولم يُظْهِرْهُ إلاَّ عِنْدَ مَجيءِ وفدِ عادٍ إلى مَكَّةَ يَسْتَغيثونَ، وقدْ حُبِسَ المَطَرُ عَنْهم.
وَكَانَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، إِذَا نَزَلَ بِهِمْ بَلَاءٌ، فَطَلَبُوا الْفَرَجَ كَانَتْ طِلْبَتُهُمْ إِلَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ عِنْدَ بَيْتِهِ الْحَرَامِ بِمَكَّةَ، مُسْلِمُهُمْ وَمُشْرِكُهُمْ، فَيَجْتَمِعُ بِمَكَّةَ نَاسٌ كَثِيرٌ شَتَّى، مُخْتَلِفَةٌ أَدْيَانُهُمْ، وَكُلُّهُمْ مُعَظِّمٌ لِمَكَّةَ، وَأَهْلُ مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ الْعَمَالِيقُ، سُمُّوا عَمَالِيقَ لِأَنَّ أَبَاهُمْ عِمْلِيقُ بْنُ لَاذَا بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَكَانَ سَيِّدَ الْعَمَالِيقِ إِذْ ذَاكَ بِمَكَّةَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ بَكْرٍ، وَكَانَتْ أَمُّ مُعَاوِيَةَ كَلَهْدَةَ بِنْتَ الْخَيْبَرِيِّ وهو رَجُلٌ مِنْ عَادٍ، فَلَمَّا قَحَطَ الْمَطَرُ عَنْ عَادٍ، وَجَهِدُوا، قَالُوا: جَهِّزُوا وَفْدًا مِنْكُمْ إِلَى مَكَّةَ فَلْيَسْتَسْقُوا لَكُمْ، فَبَعَثُوا قَيْلَ بْنَ عَنْزٍ، وَلِقِيَمَ بْنَ هُزَالٍ مِنْ هَزِيلٍ، وَعَقِيلَ بْنَ صَنْدِينَ بْنِ عَادٍ الْأَكْبَرِ، وَمَرْثَدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عَفِيرٍ، وَكَانَ مُسْلِمًا يَكْتُمُ إِسْلَامَهُ، وَجَلْهَمَةَ بْنَ الْخَيْبَرِيِّ خَالَ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ، ثُمَّ بَعَثُوا لُقْمَانَ بْنَ عَادِ الْأَصْغَرِ بْنِ صَنْدِينَ بْنِ عَادِ الْأَكْبَرِ، فَانْطَلَقَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمَعَهُ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِهِ حَتَّى بَلَغَ عَدَدُ وَفْدِهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا.
فَلَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ نَزَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ وَهُوَ بِظَاهِرِ مَكَّةَ خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ، فَأَنْزَلَهُمْ وَأَكْرَمَهُمْ وَكَانُوا أَخْوَالَهُ وَأَصْهَارَهُ فَأَقَامُوا عِنْدَهُ شَهْرًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَتُغَنِّيهِمُ الْجَرَادَتَانِ، (قَيْنَتَانِ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ)، وَكَانَ مَسِيِرُهُمْ شَهْرًا وَمَقَامُهُمْ شَهْرًا، فَلَمَّا رَأَى مُعَاوِيَةُ بْنُ بَكْرٍ طُولَ مَقَامِهِمْ، وَقَدْ بَعَثَهُمْ قَوْمُهُمْ يَتَغَوَّثُونَ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ الَّذِي أَصَابَهُمْ، شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَقَالَ هَلَكَ أَخْوَالِي وَأَصْهَارِي، وَهَؤُلَاءِ مُقِيمُونَ عِنْدِي، وَهُمْ ضَيْفِي، وَاللهِ مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ بِهِمْ، أَسْتَحِي أَنْ آمُرَهُمْ بِالْخُرُوجِ إِلَى مَا بُعِثُوا إِلَيْهِ، فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ ضِيقٌ مِنِّي بِمَقَامِهِمْ عِنْدِي، وَقَدْ هَلَكَ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ جُهْدًا وَعَطَشَا، فَشَكَا ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ إِلَى قَيْنَتَيْهِ الْجَرَادَتَيْنِ، فَقَالَتَا: قُلْ شِعْرًا نُغَنِّيهِمْ بِهِ، لَا يَدْرُونَ مَنْ قَالَهُ، لَعَلَّ ذَلِكَ
أَنْ يُحَرِّكَهُمْ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ بَكْرٍ:
أَلَا يَا قَيْلُ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنِمْ ................... لَعَلَّ اللهَ يَسْقِينَا غَمَامَا
فَيَسْقِي أَرْضَ عَادٍ إِنَّ عَادًا ............... قَدَ امْسَوْا لَا يُبِينُونَ الْكَلَامَا
مِنَ الْعَطَشِ الشَّدِيدِ فَلَيْسَ نَرْجُو ......... بِهِ الشَّيْخَ الْكَبِيَرَ وَلَا الْغُلَامَا
وَقَدْ كَانَتْ نِسَاؤُهُمُ بِخَيْرٍ ................. فَقَدْ أَمْسَتْ نِسَاؤُهُمُ أَيَامَى
وَإِنَّ الْوَحْشَ تَأْتِيهِمْ جِهَارًا .................. فَلَا تَخْشَى لِعَادِيٍّ سِهَامَا
وَأَنْتُمْ هَاهُنَا فِيمَا اشْتَهَيْتُمْ .................... نَهَارُكُمُ وَلَيْلُكُمُ التَّمَامَا
فَقُبِّحَ وَفْدُكُمْ مِنْ وَفْدِ قَوْمٍ .................. وَلَا لُقُّوا التَّحِيَّةَ وَالسَّلَامَا
فَلَمَّا غَنَّتْهُمُ الْجَرَادَتَانِ هَذَا، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا قَوْمِ إِنَّمَا بَعَثَكُمْ قَوْمُكُمْ يَتَغَوَّثُونَ بِكُمْ مِنَ الْبَلَاءِ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ، وَقَدْ أَبْطَأْتُمْ عَلَيْهِمْ، فَادْخُلُوا هَذَا الْحَرَمَ فَاسْتَسْقُوا لِقَوْمِكُمْ، فَقَالَ مَرْثَدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عَفِيرٍ، وَكَانَ قَدْ آمَنَ بِهُودٍ سِرًّا: إِنَّكُمْ وَاللهِ لَا تُسْقَوْنَ بِدُعَائِكُمْ، وَلَكِنْ إِنْ أَطَعْتُمْ نَبِيَّكُمْ وَأَنَبْتُمْ إِلَى رَبِّكُمْ سُقِيتُمْ، فَأَظْهَرَ إِسْلَامَهُ عِنْدَ ذَلِكَ وَقَالَ:
عَصَتْ عَادٌ رَسُولَهُمْ فَأَمْسَوْا ................. عِطَاشًا مَا تَبُلُّهُمُ السَّمَاءُ
لَهُمْ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ صُمُودٌ ....................... يُقَابِلُهُ صَدَاءٌ وَالْهَبَاءُ
فَبَصَّرَنَا الرَّسُولُ سَبِيلَ رُشْدٍ .............. فَأَبْصَرْنَا الْهُدَى وَجَلَى الْعَمَاءُ
وَإِنَّ إِلَهَ هُودٍ هُو إِلَهِي ....................... عَلَى اللهِ التَّوَكُّلُ وَالرَّجَاءُ
فَقَالُوا لِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ: احْبِسْ عَنَّا مَرْثَدَ بْنَ سَعْدٍ فَلًّا يَقْدُمَنَّ مَعَنَا مَكَّةَ، فَإِنَّهُ قَدِ اتَّبَعَ دِينَ هُودٍ وَتَرَكَ دِينَنَا، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى مَكَّةَ يَسْتَسْقُونَ لِعَادٍ، فَلَمَّا وَلَّوْا إِلَى مَكَّةَ خَرَجَ مَرْثَدُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ مَنْزِلِ مُعَاوِيَةَ حَتَّى أَدْرَكَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوَا اللهَ بِشَيْءٍ مِمَّا خَرَجُوا لَهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ قَامَ يَدْعُو اللهَ، وَبِهَا وَفْدُ عَادٍ يَدْعُونَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي سُؤْلِي وَحْدِي وَلَا تُدْخِلْنِي فِي شَيْءٍ مِمَّا يَدْعُوكَ بِهِ وَفْدُ عَادٍ، وَكَانَ قَيْلُ بْنُ عَنْزٍ رَأْسَ وَفْدِ عَادٍ، فَقَالَ وَفْدُ عَادٍ: اللَّهُمَّ أَعْطِ قَيْلًا مَا سَأَلَكَ وَاجْعَلْ سُؤْلَنَا مَعَ سُؤْلِهِ.
وَكَانَ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ وَفْدِ عَادٍ ـ حِينَ دَعَوْا ـ لُقْمَانُ بْنُ عَادٍ، وَكَانَ سَيِّدَ عَادٍ، حَتَّى إِذَا فَرَغُوا مِنْ دَعْوَتِهِمْ قَامَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي جِئْتُكَ وَحْدِي فِي حَاجَتِي فَأَعْطِنِي سُؤْلِي، وَسَأَلَ اللهَ طُولَ الْعُمْرِ فَعُمِّرَ عُمَرَ سَبْعَةِ أَنَسُرٍ، وَقَالَ قَيْلُ بْنُ عَنْزٍ حِينَ دَعَا: يَا إِلَهَنَا إِنْ كَانَ هُودٌ صَادِقًا فَاسْقِنَا فَإِنَّا قَدْ هَلَكْنَا، فَأَنْشَأَ اللهُ سَحَائِبَ ثَلَاثًا بَيْضَاءَ وَحَمْرَاءَ وَسَوْدَاءَ، ثُمَّ نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّحَايِبِ يَا قَيْلُ، اخْتَرْ لِنَفْسِكَ وَقَوْمِكَ مِنْ هَذِهِ السَّحَائِبِ مَا شِئْتَ، فقال قَيْل: اخْتَرْتُ السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ فَإِنَّهَا أَكْثَرُ السَّحَابِ مَاءً، فَنَادَاهُ مُنَادٍ: اخْتَرْتَ رَمَادًا رِمْدِدًا لَا تُبْقِي مِنْ آلِ عَادٍ أَحَدًا، وَسَاقَ اللهُ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ـ السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ الَّتِي اخْتَارَهَا قَيْلٌ بِمَا فِيهَا مِنَ النِّقْمَةِ إِلَى عَادٍ حَتَّى خَرَجَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ وَادٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ "الْمُغِيثُ" فَلَمَّا رَأَوْهَا اسْتَبْشَرُوا وَقَالُوا: هَذَا عَارَضٌ مُمْطِرُنَا، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} سورة الْأَحْقَافُ، الآية: 24 و25. أَيْ: كُلَّ شَيْءٍ مَرَّتْ بِهِ.
وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَبْصَرَ مَا فِيهَا وَعَرَفَ أَنَّهَا رِيحٌ مُهْلِكَةٌ امْرَأَةٌ مِنْ عَادٍ يُقَالُ لَهَا مُهَدَّدٌ، فَلَمَّا تَبَيَّنَتْ مَا فِيهَا صَحَّتْ ثُمَّ صَعِقَتْ، فَلَمَّا أَفَاقَتْ قَالُوا لَهَا: مَاذَا رَأَيْتِ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُ الرِّيحَ فِيهَا كَشُهُبِ النَّارِ أَمَامَهَا رِجَالٌ يَقُودُونَهَا، فَسَخَّرَهَا اللهُ عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا، فَلَمْ تَدَعْ مِنْ آلِ عَادٍ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ، وَاعْتَزَلَ هُودٌ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَظِيرَةٍ مَا يُصِيبُهُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا مَا تَلِينُ عَلَيْهِ الْجُلُودُ وَتَلَذُّ الْأَنْفُسُ، وَإِنَّهَا لَتَمُرُّ مِنْ عَادٍ بِالظَّعْنِ فَتَحْمِلُهُمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَتَدْمَغُهُمْ بِالْحِجَارَةِ، وَخَرَجَ وَفْدُ عَادٍ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى مَرُّوا بِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ فَنَزَلُوا عَلَيْهَ فَبَيْنَمَا هم عندَهُ إذا أَقْبَلَ رَجُلٌ عَلَى نَاقَةٍ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ مَسَاءَ ثَالِثَةٍ مِنْ مُصَابِ عَادٍ فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ، فَقَالُوا لَهُ فَأَيْنَ فَارَقْتَ هُودًا وَأَصْحَابَهُ؟ فَقَالَ: فَارَقْتُهُمْ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ فَكَأَنَّهُمْ شَكُّوا فِيمَا حَدَّثَهُمْ بِهِ، فَقَالَتْ هَزِيلَةُ بِنْتُ بَكْرٍ: صَدَقَ وَرَبِّ مَكَّةَ.
وَذَكَرُوا أَنَّ مَرْثَدَ بْنَ سَعْدٍ وَلُقْمَانَ بْنَ عَادٍ، وَقَيْلَ بْنَ عَنْزٍ حِينَ دَعَوْا بِمَكَّةَ، قِيلَ لَهُمْ: قَدْ أَعْطَيْتُكُمْ مُنَاكُمْ فَاخْتَارُوا لِأَنْفُسِكُمْ، إِلَّا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْخُلُودِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْمَوْتِ، فَقَالَ مَرْثَدٌ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي صِدْقًا وَبِرًّا فَأُعْطِيَ ذَلِكَ، وَقَالَ لُقْمَانُ: أَعْطِنِي يَا رَبِّ عُمْرًا، فَقِيلَ لَهُ: اخْتَرْ، فَاخْتَارَ عُمْرَ سَبْعَةِ أَنْسُرٍ، فَكَانَ يَأْخُذُ الْفَرْخَ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْضَتِهِ فَيَأْخُذُ الذَّكَرَ مِنْهَا لِقُوَّتِهِ، حَتَّى إِذَا مَاتَ أَخَذَ غَيْرَهُ فَلَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى أَتَى عَلَى السَّابِعِ، وَكَانَ كُلُّ نَسْرٍ يَعِيشُ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَكَانَ آخِرُهَا لَبَدٌ فَلَمَّا مَاتَ لَبَدٌ مَاتَ لُقْمَانُ مَعَهُ.
وَأَمَّا قَيْلٌ فَإِنَّهُ قَالَ: أَخْتَارُ أَنْ يُصِيبَنِي مَا أَصَابَ قَوْمِي فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الْهَلَاكَ، فَقَالَ: لَا أُبَالِي لَا حَاجَةَ لِي فِي الْبَقَاءِ بِعَدَّهُمْ، فَأَصَابَهُ الذي
أَصَابَ عَادًا مِنَ الْعَذَابِ فَهَلَكَ.
قَالَ السُّدِّيُّ: بَعَثَ اللهُ عَلَى عَادٍ الرِّيحَ الْعَقِيمَ فَلَمَّا دَنَتْ مِنْهُمْ نَظَرُوا إِلَى الْإِبِلِ وَالرِّجَالِ، تَطِيرُ بِهِمُ الرِّيحُ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ، فلمّا رأوها تَبَادَرُوا الْبُيُوتَ فَدَخَلُوهَا وَأَغْلَقُوا أَبْوَابَهُمْ، فَجَاءَتِ الرِّيحُ فَقَلَعَتْ أَبْوَابَهُمْ فَدَخَلَتْ عَلَيْهِمْ فَأَهْلَكَتْهُمْ فِيهَا، ثُمَّ أَخْرَجَتْهُمْ مِنَ الْبُيُوتِ، فَلَمَّا أَهْلَكَهُمُ اللهُ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا سَوْدَاءَ فَنَقَلَتْهُمْ إِلَى الْبَحْرِ فَأَلْقَتْهُمْ فِيهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ أَمَرَ الرِّيحِ فَأَهَالَتْ عَلَيْهِمُ الرِّمَالَ، فَكَانُوا تَحْتَ الرَّمْلِ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ لَهُمْ أَنِينٌ تَحْتَ الرَّمْلِ، ثُمَّ أَمَرَ الرِّيحَ فَكَشَفَتْ عَنْهُمُ الرِّمَالِ فَاحْتَمَلَتْهُمْ فَرَمَتْ بِهِمْ فِي الْبَحْرِ وَلَمْ تَخْرُجْ رِيحٌ قَطُّ إِلَّا بِمِكْيَالٍ إِلَّا يَوْمَئِذٍ فَإِنَّهَا عَتَتْ عَلَى الْخَزَنَةِ فَغَلَبَتْهُمْ فَلَمْ يَعْلَمُوا كَمْ كَانَ مِكْيَالُهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: ((إِنَّهَا خَرَجَتْ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ خَرْقِ الْخَاتَمِ)) جاءَ قريبٌ مِنْ هذا في روايةِ الإمامِ أَحمدٍ والتِرْمِذِيِّ في الموضِعِ السابق، وليس مرفوعا إلى النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بل السياق يَدُلُّ على أَنَّه مِنْ راوي القِصَّةِ.
وَلَحِقَ هُودٌ حِينَ أُهْلِكَ قَوْمُهُ بِمَنْ آمَنَ مَعَهُ بِمَكَّةَ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهَا حَتَّى مَاتُوا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ: إنَّ قبرَ هودٍ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ وَزَمْزَمَ قَبْرُ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ نَبِيًّا، وَإِنَّ قَبْرَ هُودٍ وَشُعَيْبٍ وَصَالِحٍ وَإِسْمَاعِيلَ ـ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ـ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ. وَيُرْوَى: أَنَّ النَّبِيَّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِذَا هَلَكَ قَوْمُهُ جَاءَ هُوَ وَالصَّالِحُونَ مَعَهُ إِلَى مَكَّةَ يَعْبُدُونَ اللهَ فِيهَا حَتَّى يَمُوتُوا.
قولُهُ: {إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ} الرُّؤْيَةُ هنا قَلْبِيَّةٌ، أَيْ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّكَ فِي سَفَاهَةٍ. وَالسَّفَاهَةُ الحَمَقُ وسَخَافَةُ الْعَقْلِ، وجاء قولُهم مؤكّداً بـ "إنَّ" وباللامِ، فقد رأوا أنَّ قَوْلَهُ: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} كَلَامًا لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ مُخْتَلِّ الْعَقْلِ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُحَالِ عِنْدَهُمْ.
قولُهُ: {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ} الظَنُّ هنا هوَ العِلْمُ المَزْعومُ عِنْدَهم، بِدَليلِ تأكيدِهم حُكمَهم بـ "إنَّ" وبـ "اللام" أيضاً، وبكونِهِ داخلاً في زُمرةِ الكاذبين، وقدْ يُطْلَقُ الظَنُّ ويرادُ به العلمُ الحقيقيُّ كما هو الأمرُ هنا. وقال الحَسَنُ والزَّجَّاجُ: كانَ ظنّاً لا يقيناً، كفرُوا بِهِ ظانِّين لا مُتَيَقِّنين، وهذا يَدُلُّ على أَنَّ حصولَ الشَّكِّ في أُصولِ الدِّين يُوجبُ الكُفْرَ.
قولُهُ تعالى: {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} قال: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتح الظاهر، "الملأ" فاعل مرفوع وعلامةُ رفعه الضمَّةُ الظاهرةُ، "الذين" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ رَفْعِ نَعْتٍ لـ "الملأ" "كفروا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الرفعِ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعة، وواو الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفع فاعله، والألفُ فارقة. "مِنْ" حرفُ جرٍّ، و"قومِ" مَجرورٌ بحرف الجرِّ مُتَعَلِّقٌ بِحالٍ مِنْ فاعلِ كَفَروا، وهو مضافٌ، و"الهاء" ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليه. وجملة: "كفروا" صِلَةُ الاسْمِ المَوْصولِ "الذينَ" وجملة "قال" استئنافيَّةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ
قولُهُ: {إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ} إنَّا: إنَّ: حرفٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ،
و"نا" ضميرٌ متّصِلٌ في مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ نصبِ اسمِها. "لنراك" اللامُ: هي المُزَحْلَقَةُ تُفيدُ التَوكيدَ. "نرى" فعلٌ مُضارعٌ مَرفوعٌ لتجرُّدِه عن الناصبِ والجازمِ وعلامةُ رفعهِ ضمّةٌ مُقدَّرَةٌ على الأَلِفِ، والفاعلُ ضَميرٌ مُستَتِرٌ تقديرُهُ نحن، وكافُ الخطابِ: ضَميرٌ متَّصِلٌ في مَحَلِّ نَصْبِ مَفعولٍ بِه. "في سفاهة" جارٌّ ومَجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بـ "نراك". وجملةُ "إنَّا لَنَراكَ" في مَحَلِّ نَصْبِ مَقولِ القَوْلِ. وجملة "نراك" في مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرِ "إنّ".
قولهُ: {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ} و: عاطفة، "إنَّ" حرفٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ، و"نا" ضميرٌ متّصِلٌ في مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ نصبِ اسمِها. "لنظُنُّكَ" اللامُ: هي المُزَحْلَقَةُ تُفيدُ التَوكيدَ. "نظنُّ" فعلٌ مُضارعٌ مَرفوعٌ لتجرُّدِه عن الناصبِ والجازمِ وعلامةُ رفعهِ ضمّةٌ ظاهرَةٌ على آخرِهِ، والفاعلُ ضَميرٌ مُستَتِرٌ تقديرُهُ نحن، وكافُ الخطابِ: ضَميرٌ متَّصِلٌ في مَحَلِّ نَصْبِ مَفعولٍ بِه أوّل. "من الكاذبين" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بـ "نَظُنُّ" كمفعولٍ ثانٍ له، لأنَّ (ظنَّ) يتعدّى لمفعولين. وجُمْلَةُ "إنَّا لَنَظُنُّكَ" في مَحَلِّ نَصْبٍ عَطْفاً على جُمْلَةِ مَقولِ القَوْلِ. وجُمْلَةُ "نظنك" في مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرِ "إن" الثاني.