وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنُه: {وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُم} حصرَ ردَّةَ فعلِ المُسْتَكْبِرينَ على الحقِّ مِنْ قومِ لوطٍ ـ عليه السلامُ ـ المتصدينَ للحلِّ والعقد، على ما قدَّمَه إليهم مِنْ نُصْحٍ بِتَجَنُّبِ غَضَبِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ فِعْلِهِمُ الشَنيعِ، بإجابةٍ واحدةٍ ما كان يَسَعُهم غيرُها بـ "أخرجوهم من قَرْيتِكم" أَيْ أخرجوا لُوطًا وَأَتْبَاعَهُ مِنْ بلادِكم ودياركم، وإنّما كان ذلك عَقِبَ الجَولةِ الأَخيرةِ مِنَ الجدالِ العقيمِ حينَ أُفحِموا ولَم يَجِدوا جَواباً، وإلاَّ فَقْدْ أَسْمَعوا لُوطاً ومَنْ مَعَهُ مِنَ المُؤمنينَ الكَثيرَ مِنَ السَفَهِ والتُرَّهاتِ والحِجَجِ الباطِلَةِ التي لا يقبلُها عقلٌ ولا يقرُّ بها منطقٌ، كما حُكِيَ عَنْهُم في غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ القرآنِ الكريم، ويدلُّ على ذلك العطفُ بالواو "وما كان جوابَ قومه... ".
لقدْ لَجؤوا إلى السُخْرِيَةِ والتَّآمُرِ عَلَى إِخْرَاجِهِ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ وَأَهْلِهِ مِنَ الْقَرْيَةِ ـ لِأَنَّهُ كَانَ غَرِيبًا بَيْنَهُمْ كما تقدَّمَ بَيانُهُ ـ وذلكَ بَعْدَ أُنْ أُفْحِمُوا عَنْ تَرْوِيجِ شَنْعَتِهِمْ وَالْمُجَادَلَةِ فِي شَأْنِهَا، فقَرَّروا الِاسْتِرَاحَةَ مِنْ إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ، وهو شَأْنُ كُلِّ مَنْ يَشْعُرُ بِفَسَادِ حَالِهِ، الْمَمْنُوعِ بِشَهَوَاتِهِ عَنِ الْإِقْلَاعِ عَنْ سَيِّئَاتِهِ، الْمُصَمِّمِ عَلَى المُدَاوَمَةِ على ذُنُوبِهِ، فَإِنَّ صُدُورَهُمْ ضاقتْ عَنْ تَحَمُّلِ الْمَوْعِظَةِ، وَصُمَّتْ أَسْمَاعُهُمْ أنْ تَتَقَبَّلَها.
قولُهُ: {إنّهم أناسٌ يتطهَّرون} لأنَّهم "يَتَطَهَّرُونَ" ويترفَّعون عَنِ الْإِتْيَانِ فِي هَذَا الْمَأْتَى ويَأْنَفونَه. فالتَطَهُّرُ عِلَّةٌ لِلإِخْرَاجِ، وَهذَا ما أفادتهُ "إِنَّ" فإنَّها إِذَا جَاءَتْ فِي مَقَامٍ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا إِنْكَارَ، بَلْ كَانَتْ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ فَإِنَّهَا تُفِيدُ مَفَادَ فَاءِ التَّفْرِيعِ وَتَدُلُّ عَلَى الرَّبْطِ وَالتَّعْلِيلِ.
يُقَالُ: تَطَهَّرَ الرَّجُلُ أَيْ تَنَزَّهَ عَنِ الْإِثْمِ. قَالَ قَتَادَةُ: عَابُوهُمْ وَاللهِ بِغَيْرِ عَيْبٍ. وَحَقِيقَةُ الطهَارةِ النَّظَافَةُ، وَتُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ مِنَ الرَّذَائِلِ وَهِيَ الْمُرَادُ هُنَا، وَتِلْكَ صِفَةُ كَمَالٍ، لَكِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا مَرَدُوا على الفُسُوقِ عَدُّوا الْكَمَالَ مُنَافِرًا لِطِبَاعِهِمْ، فَلَا يُطِيقُونَ مُعَاشَرَةَ أَهْلِ الْكَمَالِ، وَيَذُمُّونَ مَا لَهُمْ مِنَ الْكَمَالَاتِ فَيُسَمُّونَهَا ثِقْلًا، وَلِذَا وَصَفُوا تَنَزُّهَ لُوطٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ وَآلِهِ تَطَهُّرًا، بِصِيغَةِ التَّكَلُّفِ وَالتَّصَنُّعِ، فَالتَّطَهُّرُ تَكَلُّفُ الطَّهَارَةِ، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِمَا فِي كَلَامِهِمْ مِنَ التَّهَكُّمِ بِلُوطٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ وَآلِهِ، وَهَذَا مِنْ قَلْبِ الْحَقَائِقِ لِأَجْلِ مُشَايَعَةِ الْعَوَائِدِ الذَّمِيمَةِ، وَأَهْلُ الْمُجُونِ وَالِانْخِلَاعِ، يُسَمُّونَ الْمُتَعَفِّفَ عَنْ سِيرَتِهِمْ بِالتَّائِبِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ قَصَدُوا بِهِ ذَمَّهُمْ. وَهُمْ قَدْ عَلِمُوا هَذَا التَّطَهُّرَ مِنْ خُلُقِ لُوطٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ وَأَهْلِهِ لِأَنَّهُمْ عَاشَرُوهُمْ، وَرَأَوْا سِيرَتَهُمْ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِالْخَبَرِ جُمْلَةً مُضَارِعِةً فِعْلِيَّةً لِدَلَالَتِهَا عَلَى أَنَّ التَّطَهُّرَ مُتَكَرِّرٌ مِنْهُمْ، وَمُتَجَدِّدٌ، وَذَلِكَ أَدْعَى لِمُنَافَرَتِهِمْ طِبَاعَهُمْ.
قولُهُ تعالى: {وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ} و: استئنافيَّةٌ، "ما" نَافِيَةٌ، "كان" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ من النواسِخٌ. "جوابَ" خَبَرٌ مقدَّمٌ لـ "كانَ"، منصوبٌ، وعلامةُ نصبِهِ ظاهرةٌ على آخره، وهو مضافٌ. "قومهِ" قوم: مُضافٌ إليْهِ مَجْرورٌ، وهو مضافٌ أيضاً، والهاء: ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليْه. وهذه الجملةُ استئنافيَّةٌ فلا مَحَلَّ لَها منَ الإعرابِ.
قولُهُ: {إِلَّا أَنْ قالُوا} إلّا: للحَصْرِ. "أَنْ" حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ، "قالوا" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الضَمِّ لاتِصالِهِ بواوِ الجماعة، والواو الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ. وجُمْلَةُ "قالوا" واقعةٌ صلة الموصولِ الحرفي "أنْ" فلا مَحَلَّ لَها من الأعرابِ. وهذا الاستثناءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الأشْياءِ، أَيْ ما كانَ جوابَهم شيءٌ مِنَ الأشْياءِ إلاَّ قولَ بعضهم لبعضهم الآخر. المُباشرينَ للأُمورِ. أوْ ما كانَ جوابَ قومِهِ الذين خاطَبَهم بما خاطَبَهم شيءٌ مِنَ الأشياءِ إلاَّ قول بعضِهم لبعضٍ مُعْرِضين عَنْ مُخاطَبَتِهِ ـ عليه السلامُ ـ "أَخْرِجُوهُم".
قولُهُ: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُم} "أخرجوا" فعلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ على حَذْفِ النُونِ، لأنَّه من الأفعالِ الخمسةِ. والواوُ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ. والهاء: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مفعولٍ بِهِ، والميمُ للجمعِ المذكَّر. "مِنْ قريتكم" من: حرفُ جَرٍّ، قريةِ: اسمٌ مَجرورٌ بحرفِ الجرِّ مُتَعلِّقٌ بـ "أَخرِجوا" وهو مُضافٌ، والكافُ: ضمير متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليه، والميم للجَمْعِ المُذكَّرِ. والمَصدَرُ المُؤوَّلُ من "أن قالوا" في مَحَلِّ رَفْعِ اسْمِ كان المُؤخَّرِ. وجُملةُ "أخرجوهم" في مَحَلِّ نَصْبِ مَقولِ القَوْلِ.
قولُهُ: {إنّهم أُناسٌ يَتَطهَّرون} "إنّهم" إنَّ: حرفٌ ـ من النواسخ ـ مشبَّه بالفعلِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ في محلِّ نصبِ اسمِها والميمُ للمذكَّر. "أُناسٌ" خَبَرُ إنَّ مَرْفوعٌ وعلامة رفعه الضمُّ الظاهرُ على آخره. "يَتَطَهَّرون" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ ثبوتُ النون في آخره لأنه من الأفعالِ الخمسةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ. وجُمْلةُ "إنّهم أناس" تَعليليَّةٌ لا مَحَلَّ لَها منَ الإعراب. وجملةُ "يتطهّرون" في مَحَلِّ رَفْعِ نَعْتٍ لـ "أُناسٌ".
قرأ العامَّةُ: "جَوابَ" بالنصبِ خبراً لـ "كان"، واسْمُها: "أنْ" وما في حَيِّزها وهو الأفصحُ، إذْ فيه جَعْلُ الأعرفِ اسْماً.
وقرأَ الحَسَنُ: "جوابُ" بالرفعِ، على أنَّه اسْمها، وخَبَرها "إلاَّ أَنْ قالوا" وقد تقدَّمَ ذلك.
وأُتِى هُنا بِقولِه: "وما"، وفي النَملِ والعنكبوتِ {فما}، والفاءُ هي الأصلُ في هذا البابِ لأنَّ المُرادَ أَنَّهم لم يَتَأَخَّرْ جَوابُهم عنْ نَصِيحَتِه. وأَمَّا الواوُ فالتَعقيبُ أَحَدُ مَحامِلِها، فتَعيَّنَ هُنا أَنَّها للتَعقيبِ لأَمْرٍ خارجِيٍّ وهي العربِيَّةُ في السُّورَتَيْنِ المَذْكورتَيْنِ لأنَّها اقْتَضَتْ ذلك بِوَضْعِها.
المزاج
الإثنين مايو 19, 2014 10:37 am