[size=29.3333]قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ[/size]
[size=29.3333](32)[/size]
[size=29.3333]قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنُه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ التي أخرجَ لعبادِهِ} [/size]
[size=29.3333]وكانَ قد أَمَرَ ـ سبحانَه ـ في الآيةِ السابقةِ بأَخْذِ الزِينةِ في المَسْجِدِ الحَرامِ، وعِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ، فهو هنا، في هذه الآيةِ يَسْتَنْكِرُ تَحْريمَ الزينةِ في المَساجِدِ وغَيْرِها أيضاً، والأمر باتِّخاذِ الزينةِ أَمْرُ إباحَةٍ، كما قالَ العلماء، على ما يأتي تفصيلُه وبيانُهُ، فالله ـ تعالى ـ يَرُدُّ عَلَى مَنْ حَرَّمَ شَيْئاً مِنَ المَآكِلِ، وَالمَلاَبِسِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، مِنْ غَيْرِ شَرْعٍ مِنَ اللهِ، والاسْتِفْهامُ هُنا اسْتِفْهامٌ إنكاريٌ لِنَفْيِ الواقِعِ لا لِنَفْيِ الوُقوعِ؛ لأنَّهُ وَقَعَ مِنَ المُشْرِكين، وفي إنْكارُ هذا الواقِعِ تَوْبِيخ لهم على ما وَقَعَ منهم. يَقُولُ ـ سبحانَهُ ـ لِنَبِيِّهِ ـ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ، لِهؤلاَءِ المُشْرِكينَ، الذين يحرِّمون نِعَمَ اللهِ بحَسَبِ أهوائهم، إمّا افْتِراءً عليْه ـ سبحانَه وتعالى ـ كما كان يَفْعَلُ المُشْرِكون، أوْ تَزَهُّداً كَما فَعَلَ جَهَلَةُ المُتَعَبِّدينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ مَا خَلَقَ اللهُ لِعِبَادِهِ مِنْ زيْنَةٍ، وَمِنْ طَيِّبَاتِ الرِّزْقِ؟ مبَيَّناً أَنَّهُمْ حَرَّمُوا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ عَلَيْهِمْ كالزِّينَةِ، وهي هُنَا الْمَلْبَسُ الْحَسَنُ، إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ. وَقِيلَ: المقصودُ جَمِيعُ الثِّيَابِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخطابِ ـ رضي اللهُ عنه ـ (إِذَا وَسَّعَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَوْسِعُوا ..). وَقَدْ تَقَدَّمَ ذكرُه في الآية السابقةِ. وإذا كان ـ رضيَ اللهُ عنه ـ في مُدَّةِ خِلافَتِهِ يَلْبَسُ أَحْياناً ثوباً تُعَدُّ رقعاتُهُ، فما ذلِكَ لِتَحْريمِ التَجَمُّلِ على نَفْسِهِ، بَلْ لِمَعنًى في الحُكمِ، فهو يَقولُ: لا أَكونُ أَميرَ المؤمنينَ إنْ لَمْ أَعِشْ كَأَضْعَفِ المُؤمِنينَ. وكان عليٌّ بْنُ أبي طالِبٍ ـ كرَّمَ اللهُ وجهَهُ ـ إمامُ الهُدى، يُعنَى بِثِيابِهِ ويَتَجَمَّلُ بها، فلَمَّا وَلِيَ أَمْرَ المُؤْمنين، كانتْ أَوَّلُ كَلِمَةٍ قالَها: سَأَرْفَعُ مِنْ ثَوبي ما كُنْتُ أَجُرُّ. ورويَ أَنَّ الحُسَيْنَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ ـ أُصيبَ وعليْه جُبَّةُ خَزٍّ، وأَنَّ ابْنَ عَبّاسٍ ـ رضي اللهُ تعالى عَنْهُما ـ لَمَّا بَعَثَهُ عَلِيٌّ ـ كرَّمَ اللهُ تَعالى وجْهَهُ ـ إلى الخَوارِجِ، لَبِسَ أَفْضَلَ ثِيابِهِ، وتَطَيَّبَ بأَطْيَبِ طِيبِهِ، ورَكِبَ أَحْسَنَ مَراكِبِهِ، فخَرَجَ إليهم، فوافَقَهُم، فقالوا: يا بْنَ عبَّاسٍ بَيْنا أَنْتَ خَيْرُ النَّاسِ إذْ أَتَيْتَنا في لِباسِ الجَبابِرَةِ ومَراكِبِهم، فَتَلا هَذِهِ الآيةَ. وقدْ رُوي أَنَّه ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ـ خَرَجَ وعَلَيْهِ رِداءٌ قِيمَتُه أَلْفُ دِرْهَمٍ، وكانَ أَبو حَنيفَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ ـ يَرْتَدي بِرِداءٍ قِيمَتُهُ أَرْبَعُمِئةِ دينارٍ، وكانَ يَأْمُرُ أَصْحابَهُ بذلك، وكانَ الإمامُ مُحَمَّد ـ من تلاميذ أبي حنيفة ـ يَلْبَسُ الثِيابَ النَفيسَةَ ويقول: إنَّ لي نِساءً وجَوارِيَ فأُزَيِّنُ نَفْسِي كي لا يَنْظُرْنَ إلى غَيْري. وقدْ نَصَّ الفُقَهاءُ على أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَجَمُّلُ لِقَوْلِهِ ـ عليْهِ الصَّلاةِ والسَّلامُ: ((إنَّ اللهِ تعالى إذا أَنْعَمَ على عَبْدٍ، أَحَبَّ أَنْ يَرى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ)). وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ شَيْخِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أجمعين ـ أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ كِسَاءَ خَزٍّ بِخَمْسِينَ دِينَارًا، يَلْبَسُهُ فِي الشِّتَاءِ، فَإِذَا كَانَ فِي الصَّيْفِ تَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ بَاعَهُ فَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ، وكان يَلْبَسُ في الصَيْفِ ثَوبَيْنِ مِنْ مَتاعٍ بِمِصْرَ مُمَشَّقَيْنِ، أي مَصبوغيْن بالمِشْقِ، وهو صِبْغٌ أَحْمَرُ اللّوْنِ. وَكان يَقُولُ: "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ". فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى لِبَاسِ الرَّفِيعِ مِنَ الثِّيَابِ، وَالتَّجَمُّلِ بِهَا فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ، وَعِنْدَ لِقَاءِ النَّاسِ وَمُزَاوَرَةِ الْإِخْوَانِ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا تَزَاوَرُوا تَجَمَّلُوا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ (نَوْعٌ مِنَ البُرودِ فيهِ خُطوطٌ صُفْرٌ، أو يُخالِطُهُ حريرٌ)، تُبَاعُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوِ اشْتَرَيْتَهَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلِلْوُفُودِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنَّما يَلْبَسُ هذا مَنْ لا خَلاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ)). فَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذِكْرَ التَجَمُّلِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ كَوْنَهَا سِيَرَاءَ. وَقَدِ اشْتَرَى تَمِيمٌ الدَّارِيُّ حُلَّةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ يُصَلِّي فِيهَا. وَكَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَلْبَسُ الثِّيَابَ الْعَدَنِيَّةَ الْجِيَادَ. وَكَانَ ثَوْبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يُشْتَرَى بِنَحْوِ الدِّينَارِ. أَيْنَ هَذَا مِمَّنْ يَرْغَبُ عَنْهُ وَيُؤْثِرُ لِبَاسَ الْخَشِنِ مِنَ الْكَتَّانِ وَالصُّوفِ مِنَ الثِّيَابِ. وَيَقُولُ: {وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ} هَيْهَاتَ! أَتَرَى مَنْ ذَكَرْنَا تَرَكُوا لِبَاسَ التَّقْوَى، لَا وَاللهِ! بَلْ هُمْ أَهْلُ التَّقْوَى وَأُولُو الْمَعْرِفَةِ وَالنُّهَى، وَغَيْرُهُمْ أَهْلُ دَعْوَى، وَقُلُوبُهُمْ خَالِيَةٌ مِنَ التَّقْوَى. قَالَ خَالِدُ بْنُ شَوْذَبَ: شَهِدْتُ الْحَسَنَ وَأَتَاهُ فَرْقَدٌ، فَأَخَذَهُ الْحَسَنُ بِكِسَائِهِ فَمَدَّهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: يَا فُرَيْقِدُ، يَا بْنَ أُمِّ فُرَيْقِدٍ، إِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ فِي هَذَا الْكِسَاءِ، إِنَّمَا الْبِرُّ مَا وَقَرَ فِي الصَّدْرِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ. وَدَخَلَ أَبُو مُحَمَّدٍ ابْنُ أَخِي مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ بْنِ يَسَارٍ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ صُوفٌ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْحَسَنِ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، صَوَّفْتَ قَلْبَكَ أَوْ جِسْمَكَ؟ صَوِّفْ قَلْبَكَ وَالْبَسِ الْقُوهِيَّ عَلَى الْقُوهِيِّ (القوهِيُّ: ضَرْبٌ مِنَ الثِيابِ بِيضٌ مَنْسوبَةٌ إلى قَهَسْتان). وَقَالَ رَجُلٌ لِلشِّبْلِيِّ: قَدْ وَرَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِكَ وَهُمْ فِي الْجَامِعِ، فَمَضَى فَرَأَى عَلَيْهِمُ الْمُرَقَّعَاتِ وَالْفُوَطَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:[/size]
[size=29.3333]أَمَّا الْخِيَامُ فَإِنَّهَا كَخِيَامِهِمْ ............... وَأَرَى نِسَاءَ الْحَيِّ غَيْرَ نِسائِهِ[/size]
[size=29.3333]قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللهُ: وأَنَا أَكْرَهُ لِبْسَ الْفُوَطِ وَالْمُرَقَّعَاتِ لِأَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ لُبْسِ السَّلَفِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُرَقِّعُونَ ضَرُورَةً. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ ادِّعَاءَ الْفَقْرِ، وَقَدْ أُمِرَ الْإِنْسَانُ أَنْ يُظْهِرَ أَثَرَ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِ، وفي الحديثِ: ((إنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يَرى أَثَرَ نِعَمِهِ على عَبْدِهِ)). رَواهُ الترمِذيُّ. وَالثَّالِثُ: إِظْهَارُ التَّزَهُّدِ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِسَتْرِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِهَؤُلَاءِ الْمُتَزَحْزِحِينَ عَنِ الشَّرِيعَةِ. وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: وَلَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ آثَرَ لِبَاسَ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ عَلَى لِبَاسِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ مَعَ وُجُودِ السَّبِيلِ إِلَيْهِ مِنْ حِلِّهِ. ومَنْ أَكَلَ البَقولَ والعَدَسَ واخْتارهُ عَلَى خُبْزِ الْبُرِّ. وَمَنْ تَرَكَ أَكْلَ اللَّحْمِ خوفاً مِنْ عارضِ شَهْوَةِ النِّساءِ. وسئِلَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ لُبْسِ الصُّوفِ، فَشَقَّ عَلَيْهِ وَتَبَيَّنَتِ الْكَرَاهَةُ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: لُبْسُ الْخَزِّ وَالْمُعَصْفَرِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الصُّوفِ فِي الْأَمْصَارِ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ: وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَلْبَسُونَ الثِّيَابَ الْمُتَوَسِّطَةَ، لَا الْمُتَرَفِّعَةَ وَلَا الدُّونَ، وَيَتَخَيَّرُونَ أَجْوَدَهَا لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ وَلِلِقَاءِ الْإِخْوَانِ، وَلَمْ يَكُنْ تَخَيُّرُ الْأَجْوَدِ عِنْدَهُمْ قَبِيحًا. وَأَمَّا اللِّبَاسُ الَّذِي يُزْرِي بِصَاحِبِهِ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِظْهَارَ الزُّهْدِ وَإِظْهَارَ الْفَقْرِ، وَكَأَنَّهُ لِسَانُ شَكْوَى مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَيُوجِبُ احْتِقَارَ اللَّابِسِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ تَجْوِيدُ اللِّبَاسِ هَوَى النَّفْسِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِمُجَاهَدَتِهَا، وَتَزَيُّنٌ لِلْخَلْقِ وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُنَا للهِ لَا لِلْخَلْقِ. فَالْجَوَابُ لَيْسَ كُلُّ مَا تَهْوَاهُ النَّفْسُ يُذَمُّ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ لِلنَّاسِ يُكْرَهُ، وَإِنَّمَا يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الشَّرْعُ قَدْ نَهَى عَنْهُ أَوْ عَلَى وَجْهِ الرِّيَاءِ فِي بَابِ الدِّينِ. فَإِنَّ الإنسانَ يَجِبُ أَنْ يُرَى جَمِيلًا. وَذَلِكَ حَظٌّ لِلنَّفْسِ لَا يُلَامُ فِيهِ. وَلِهَذَا يُسَرِّحُ شَعْرَهُ وَيَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ وَيُسَوِّي عِمَامَتَهُ وَيَلْبَسُ بِطَانَةَ الثَّوْبِ الْخَشِنَةَ إِلَى دَاخِلٍ وَظِهَارَتَهُ الْحَسَنَةَ إِلَى خَارِجٍ. وَلَيْسَ في شيءٍ مِنْ هَذَا مَا يُكْرَهُ وَلَا يُذَمُّ. وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤمنين ـ رضي اللهُ عنها ـ قَالَتْ: كَانَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَنْتَظِرُونَهُ عَلَى الْبَابِ، فَخَرَجَ يُرِيدُهُمْ، وَفِي الدَّارِ رَكْوَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ فِي الْمَاءِ وَيُسَوِّي لِحْيَتَهُ وَشَعْرَهُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا؟ قَالَ: ((نَعَمْ إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى إِخْوَانِهِ فَلِيُهَيِّئْ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)). وَفِي صَحِيحِ. مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)). فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ)). وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، تَدُلُّ كُلُّهَا عَلَى النَّظَافَةِ وَحُسْنِ الْهَيْئَةِ. وَقَدْ رَوَي عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ أنَّه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُسَافِرُ بِالْمُشْطِ وَالْمِرْآةِ وَالدُّهْنِ وَالسِّوَاكِ وَالْكُحْلِ. وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: مُشْطٌ عَاجٌ يَمْتَشِطُ بِهِ. وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ وَيُسَرِّحُ لِحْيَتَهُ بِالْمَاءِ. وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ قَالَ: كَانَتْ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ بِهَا عِنْدَ النَّوْمِ ثَلَاثًا فِي كُلِّ عَيْنٍ. [/size]
[size=29.3333]قَوْلُهُ: {[/size][size=29.3333]وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ[/size][size=29.3333]} الطَّيِّبَاتُ اسْمٌ عَامٌّ لِمَا طَابَ كَسْبًا وَطَعْمًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي بِالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ مَا حَرَّمَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالْوَصَائِلِ وَالْحَوَامِي. وَقِيلَ: هِيَ كُلُّ مُسْتَلَذٍّ مِنَ الطَّعَامِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَرْكِ الطَّيِّبَاتِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّذَّاتِ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْقُرُبَاتِ، وَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ يَسْتَوِي فِي الْمُبَاحَاتِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ قُرْبَةً فِي ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ سَبِيلٌ إِلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَقِصَرِ الْأَمَلِ فِيهَا، وَتَرْكِ التَّكَلُّفِ لِأَجْلِهَا، وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَالْمَنْدُوبُ قُرْبَةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَوْلُهُ: لَوْ شِئْنَا لَاتَّخَذْنَا صِلَاءً وَصَلَائِقَ وَصِنَابًا، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ اللهَ تَعَالَى يَذُمُّ أَقْوَامًا فَقَالَ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا} وَيُرْوَى (صَرَائِقُ) بِالرَّاءِ، وَهُمَا جَمِيعًا الْجَرَادِقُ والجَرادِقُ: جَمْعُ جَرْدَقَةٍ، وهي الرَّغيفُ.[/size] [size=29.3333]وَالصَّلَائِقُ: ما يُلْصَقُ مِنَ اللُّحُومِ وَالْبُقُولِ. وَالصِّلَاءُ: الشِّوَاءُ: وَالصِّنَابُ: الْخَرْدَلُ بِالزَّبِيبِ. وَفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَ حُضُورِ ذَلِكَ كُلِّهِ بِكُلْفَةٍ وَبِغَيْرِ كُلْفَةٍ. وهُوَ الصَحيحُ إنْ شاءَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ طَعَامٍ لِأَجْلِ طِيبِهِ قَطُّ، بَلْ كَانَ يَأْكُلُ الْحَلْوَى وَالْعَسَلَ وَالْبِطِّيخَ وَالرُّطَبَ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ التَّكَلُّفُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَاغُلِ بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا عَنْ مُهِمَّاتِ الْآخِرَةِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ أَكْلَ الطَّيِّبَاتِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِيَّاكُمْ وَاللَّحْمَ فَإِنَّ لَهُ ضَراوةٌ كَضَرواةِ الْخَمْرِ أيْ أَنَّ لَهُ عادةٌ يُنْزَعُ إليها كَعادَةِ الخَمْرِ. أَيْ عادةُ طلابةٍ لأكْلِهِ وتَسَمّى القَرَمَ وهي شِدَّةُ شَهْوَةِ اللَّحْمِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مِنْ عُمَرَ قَوْلٌ خَرَجَ عَلَى مَنْ خَشِيَ مِنْهُ إِيثَارَ التَّنَعُّمِ فِي الدُّنْيَا، وَالْمُدَاوَمَةَ عَلَى الشَّهَوَاتِ، وَشِفَاءَ النَّفْسِ مِنَ اللَّذَّاتِ، وَنِسْيَانَ الْآخِرَةِ وَالْإِقْبَالَ عَلَى الدُّنْيَا، ولذلك كان يَكْتُبُ ـ رضي اللهُ عنه ـ إلى عُمَّالِهِ: إِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ وَزِيَّ أَهْلِ الْعَجَمِ، وَاخْشَوْشِنُوا. وَلَمْ يُرِدْ ـ رَضيَ اللهُ عنهُ تَحريمَ شيءٍ أَحَلَّهُ اللهُ، وَلَا تَحْظِيرَ مَا أَبَاحَهُ اللهُ ـ تَبَارَكَ اسْمُهُ. وَقَوْلُ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ أَوْلَى مَا امْتُثِلَ وَاعْتُمِدَ عَلَيْهِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: "[/size][size=29.3333]قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ[/size][size=29.3333]". وَقَالَ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((سَيِّدُ إِدَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللَّحْمُ)). وَقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ السيِّدةِ عَائِشَةَ ـ رضي اللهُ عنها ـ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ يَأْكُلُ الطِّبِّيخَ بِالرُّطَبِ وَيَقُولُ: ((يَكْسِرُ حَرُّ هَذَا بَرْدَ هَذَا وَبَرْدُ هَذَا حَرَّ هَذَا)). وَالطِّبِّيخُ لُغَةٌ فِي الْبِطِّيخِ، وَهُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ. [/size]
[size=29.3333]قَوْلُهُ: {[/size][size=29.3333]قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا[/size] [size=29.3333]خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ[/size][size=29.3333]} يَعْنِي بِحَقِّهَا مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَالتَّصْدِيقِ لَهُ، فَإِنَّ اللهَ يُنْعِمُ وَيَرْزُقُ، لأِنّه وَحَّدَهُ الْمُنْعَمُ عَلَيْهِ وَصَدَّقَهُ فَقَدْ قَامَ بِحَقِّ النِّعْمَةِ، وَإِنْ كَفَرَ فَقَدْ أَمْكَنَ الشَّيْطَانَ مِنْ نَفْسِهِ. وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ: ((لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى مِنَ اللهِ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ وَهُمْ يَدَّعُونَ لَهُ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ)). و"[/size][size=29.3333]خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ[/size][size=29.3333]" أَيْ يُخْلِصُ اللهُ الطَّيِّبَاتِ فِي الْآخِرَةِ لِلَّذِينَ آمَنُوا، وليس للمُشْركين فيها شيء كَمَا كَانَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الِاشْتِرَاكِ فِيهَا. وَمَجَازُ الْآيَةِ: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا مُشْتَرِكَةٌ فِي الدُّنْيَا مَعَ غَيْرِهِمْ، وَهِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ[/size] [size=29.3333]خالصةً يَوْمَ القيامةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ الْمَوْجُودَاتِ فِي الدُّنْيَا هِيَ خَالِصَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَخُلُوصُهَا أَنَّهُمْ لَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا وَلَا يُعَذَّبُونَ [/size]
[size=29.3333]قولُه: {كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} أَيْ كَهذا البيانِ الَّذِي فَصَّلْتُ لَكُمُ وبيَّنْتُ فيه الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ أُفَصِّلُ لَكُمْ في القرآنِ الكريمِ كلَّ مَا تحتاجون إلى بيانِهِ،[/size] [size=29.3333]مِنْ تشريعاتٍ وآياتٍ كونِيَّةٍ لكلِّ ما يحتاجون إلى معرِفتِه والعِلْمِ بِه، حتّى لا تَغَشى الأوهامُ والأَهْواءُ قُلوبَهم، وليُدركوا الحقَّ ويَعلمونَ بِنُورِ بَصائرِهِم، ولذا جاء الفِعْلُ مُضارعاً واللهُ أَعْلَم.[/size]
[size=29.3333]قولُهُ تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينةَ اللهِ التي أخرجَ لعبادهِ والطيِّباتِ منَ الرزق} قُلْ: فعلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السكون الظاهر، والفاعِلُ ضميرٌ مًسْتَتِرٌ وجوباً تقديرُهُ "أنتَ" يعودُ على المخاطَبِ وهو الرسولُ محمَّدٌ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ فهو المكلَّفُ بتبليغِ شرعِ اللهِ تبارك وتعالى. "من" اسْمُ اسْتِفُهامٍ مَبْنِيٍّ في مَحَلِّ رَفْعِ مُبْتَدَأٍ، والاستفهامُ هنا للتوبيخِ والإِنْكارِ، وإذا كان للإِنْكارِ فلا جوابَ لَه، إذْ لا يُرادُ بِهِ اسْتِعْلامٌ. والجملةُ استئنافيَّةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. "حَرَّمَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتح الظاهرِ، والفاعِلُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ جوازاً تَقديرُهُ هُو. "زينةَ" مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ وعلامةُ نصبِه الفتحةُ الظاهِرِةُ على آخره، وهو مضافٌ، "اللهِ" لَفْظُ الجَلالَةِ مُضافٌ إليْهِ مَجْرورٌ. "التي" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ في مَحَلِّ نَصْبٍ نَعْتاً لِـ "زينة". "أخرج" مثل حَرَّمَ. "لِعبادِ" جارٌّ ومَجْرورٌ مَتَعلِّقٌ بـ "أخرجَ"، وهو مضافٌ، و"الهاء" ضَميرٌ متّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليْهِ. "والطيِّباتِ" الواو: عاطفةٌ، "الطيّباتِ" مَعْطوفٌ على زِيِنَةَ مَنْصوبٌ مثلُه، وعَلامَةُ نَصْبِهِ الكَسْرَةُ نيابةً عن الفتحةِ لأنَّه جمعٌ مؤنَّثٌ سالمٌ. "مِنَ الرزق" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعلِّقٌ بِحالٍ مِنَ الطَّيِّباتِ. وجملة: "حَرَّمَ" خبرٌ للمُبْتَدَأِ "مَنْ"، وجملةُ "أخرجَ" صلةُ الاسمِ الموصولِ "التي"، لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ. [/size]
[size=29.3333]قولُه: {قُلْ هي للذين آمَنوا في الحياة الدنيا خالصةً يومَ القيامةِ} قُلْ: إعْرابُها كَسَابِقَتِها، "هِيَ" ضميرٌ مُنْفصل في محلِّ رفْعِ مُبْتَدَأٍ، و"لِلَّذِينَ" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقان بالخَبَرِ، و"آمنوا" فعلٌ ماضٍ، و"واو الجماعة: ضميرٌ منفصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ، والألفُ للتفريق بين واو الجماعة والواو التي هي مِنْ أَصْلِ الكَلِمَةِ كما هو االحالُ في كلِمَةِ "يدنو" مثلاً، [/size][size=29.3333]وجملة "[/size][size=29.3333]آمنوا[/size][size=29.3333]" صلةُ المَوصولِ ([/size][size=29.3333]الذين[/size][size=29.3333]) لا مَحَلَّ لَها من الإعراب. [/size][size=29.3333]"في" حرف جرٍّ، "الحياةِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وهو مضافٌ، والجارُّ والمجرورُ متعلِّقان بـ "آمَنوا"، "الدنيا" مضافٌ إليه مجرورٌ وعلامةُ جرِّهِ كسرة مقدَّرةٌ على الألف، "خالصةً" حالٌ مصوبٌ وعلامةُ نَصْبِهِ الفتحُ الظاهرُ، وقُرِئَ "خالِصةٌ" بالرفع، وعليهِ يكونُ خبرٌ للمبتدأِ "هي"، فيكونُ قولُهُ "للذين" متعلِّقٌ بـ "خالصة"، وكَذلكَ الظرفُ "يومَ القيامة"، وقالَ مَكِيٌّ: ويكون قولُهُ: "للذين" تبييناً. فيتعلقُ الظرفُ بمحذوفٍ كقولِهم: سَقْياً لكَ وجَدْعاً لَهُ. ويكون الجارُّ والمجرور "في الحياة الدنيا" متعلِّقٌ بآمنوا. أوْ يَكونُ خبراً بعدَ خَبَرٍ، والخبرُ الأوَّلُ قولُهُ "للذين آمنوا"، و"في الحياة الدنيا" على هذا متعلِّقٌ بما تَعَلَّقَ بِهَ الجارُّ مِنَ الاسْتِقرارِ المُقَدَّرِ، [/size][size=29.3333]وفي تعلُّقِ "[/size][size=29.3333]فِي الحياة الدنيا[/size][size=29.3333]" أَوْجُه أُخرى هي: أَنْ يَتَعَلَّقَ بمحذوفٍ على أَنَّها حال، أو أنْ يِتَعلَّقَ بما تعلَّق بِهِ "[/size][size=29.3333]للذين آمنوا[/size][size=29.3333]"، أو أنْ يَتِعلَّقَ بِحرَّم، أو أنْ يَتَعلَّقَ بـ "[/size][size=29.3333]أخرج[/size][size=29.3333]"، أو أَنْ يَتَعَلَّقَ بقولِهِ: "[/size][size=29.3333]الطيبات[/size][size=29.3333]"، أو أَنْ يَتَعَلَّقَ بـ "[/size][size=29.3333]الرزق[/size][size=29.3333]". [/size]
[size=29.3333]ويومَ القيامةِ معمولٌ لِـ "خالصة" كما مَرَّ في الوَجْهِ قَبْلَهُ، والتَقديرُ: قُلْ الطَّيباتُ مُسْتَقِرَّةٌ أوْ كائنةٌ للذين آمنوا في الحياةِ الدنيا، وهي خالصةٌ لهم يومَ القيامةِ، وإن كانوا في الدنيا يُشارِكُهم الكفَّارُ فيها. وكونُ "خالصةٌ" خبراً ثانياً هُو مَذْهَبُ الزَّجّاجِ، واسْتَحْسَنَهُ الفارسيُّ. [/size][size=29.3333]و"[/size][size=29.3333]يومَ القيامة[/size][size=29.3333]" لَهُ مُتَعَلَّقٌ واحَدٌ وهوَ "[/size][size=29.3333]خالصة[/size][size=29.3333]"، والمعنى: أَنَّها وإنِ اشْتَرَكَتْ فيها الطائفتانِ دُنْياً فهيَ خالصةٌ للمُؤمنين فقط في الأخرى.[/size] [size=29.3333]لأنَّ في الكلامِ حذفاً تقديرُه: قل هي للذين آمنوا ولِغَيْرِهِمْ في الحياة الدنيا خالصةٌ لهم يومَ القيامة، وكأنَّما دَلَّ على المحذوف قولُه بعدَ ذلك: "[/size][size=29.3333]خَالِصَةً يَوْمَ القيامة[/size][size=29.3333]" إذْ لو كانت خالصةً لهم في الدارَيْن لم يَخُصَّ بها إحداهُما. أو أنَّ "[/size][size=29.3333]للذين آمنوا[/size][size=29.3333]" ليس متعلِّقاً بكونٍ مُطْلَقٍ بَلْ بِكَوْنٍ مُقَيَّدٍ، يَدُلُّ عليْه المَعنى، والتقدير: قل هي غيرُ خالصةٍ للذين آمنوا، لأنَّ المُشركين شُركاؤهم فيها، خالصة لهم يومَ القيامةِ، ودَلَّ على هذا الكونِ المُقيَّدِ مُقابِلُهُ وهوَ قولُه: "[/size][size=29.3333]خَالِصَةً يَوْمَ القيامة[/size][size=29.3333]". وقال التبريزيُّ: ولم يَذْكر الشِرْكَةَ بينَهم وبيْن الذين أشركوا في الدنيا تنبيهاً أَنَّه إنَّما خَلَقَها للذين آمنوا بطريقِ الأَصالَةِ، والكفار تَبَعٌ لهم، ولذلك خاطب المؤمنين بقوله: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} البقرة: 29، وهذا مُبَيِّنٌ لِحُسْنِ حَذْفِ المَعْطوفِ وعَدَمِ ذِكْرِهِ مَعَ المَعْطوفِ عليه[/size]
[size=29.3333]قولُه: {كَذلِكَ نُفَصِّلُ يَعْلَمُونَ الآياتِ لقومٍ يعلمون} كذلك: الكاف: حًرْفُ جَرٍّ أَوِ اسْمٌ للتشبيهِ بِمَعْنى "مثل" وهو في مَحَلِّ نَصْبِ مَفعولٍ مَطْلَقٍ نائبٍ عن المَصْدَرِ لأنَّهُ صِفَتُه، أَيْ: نفصِّلُها تَفْصيلاً مِثْلَ ذلك التَفصيلِ، و"ذا" اسْمُ إشارةٍ مَبْنِيٍّ في مَحَلِّ جَرٍّ بالكاف، وهو مُتَعَلِّقٌ بمَحذوفِ مَفْعولٍ [/size][size=29.3333]مُطْلَقٍ صفةٍ للمصدرِ، عامِلُهُ الفِعْلُ بعدَهُ، و"اللامُ" للبُعْدِ، والكاف الثانيةُ للخِطابِ[/size][size=29.3333]. و"نفصِّلُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ، والفاعلُ "نحن" للتعظيم، و"الآيات" مفعولٌ به منصوبٌ، وعلامةُ نصبِهِ الكسْرةُ نيابةً عن الفتحةِ لأنَّه جمعٌ مؤنسٌ سالمٌ، و"لقومٍ" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقانِ بـ "نفصِّلُ"، و"تعلمون" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ، وعلامةُ رفعه ثبوتُ النونِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ، وجُملَةُ "نُفَصِّلُ" اسْتِئْنافيَّةٌ أوْ تَعْليليَّةٌ وفي الحالين لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ وجُمْلةُ "يَعْلَمُونَ" في محلِّ جرٍّ صِفَةً لِقومٍ.[/size]
[size=29.3333]قرأ القرَّاءُ: "خالصةً" بالنصبِ والقطعِ لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ تَمَّ، وَاخْتَارَهُ سِيبَوَيْهِ لِتَقَدُّمِ الظَّرْفِ. إلاَّ نافعاً فإنَّهُ قَرأ: "خالصةٌ" بالرفعِ، وَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ في هَذِهِ الْقِرَاءَةِ على "الدُّنْيا"، لأنَّ ما بَعدَهُ مُتَعلِّقٌ بِقولِهِ: "لِلَّذِينَ آمَنُوا" فهو حالٌ مِنْهُ، والتَقْدِيرِ: قُلْ هِيَ ثَابِتَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا حَالَ خُلُوصِهَا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. [/size]