وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ
(172)
قولُه ـ تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ: أَنَّهُ أقَامَ الأدِلَّةَ عَلَى وُجُودِهِ وَعَظَمَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ، وَقَدْ أقَامَ هَذِهِ الأدِلَّةَ عَنْ طِرِيقِ مَا بَثَّهُ فِي الكَوْنِ مِنْ أَسْبَابِ الهِدَايَةِ، كَمَا أقَامَهَا عَنْ طَرِيقِ الكُتُبِ وَالرُّسُلِ. فَقَالَ تَعَالَى مُخَاطِباً رَسُولَهُ ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ: اُذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ، حِينَ اسْتَخْرَجَ اللهُ ذُرِّيَّةَ بَنِي آدَمَ مِنْ أصْلابِهِمْ لِيَشْهَدُوا عَلَى أنْفُسِهِمْ، أنَّ اللهَ رَبُّهُمُ وَمَلِيكُهُمْ، وَأنَّهُ لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ، وقد فَطَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَلَهُمْ عَلَيهِ. و "الذرياتُ" جمعُ ذُرِّيَّةٍ، والذُرِّيَّةُ اسْمُ جمعٍ لما يَتَوَلَّدُ مِنْ الإنسان، وجمعَه هُنا للتَنْصيصِ عَلى العُمومِ. فيَحْصُلُ مِنْ ذلكَ أَنَّ كلَّ فَردٍ مِنْ أَفْرادِ بَني آدَمَ أَقَرَّ عَلى نَفْسِهِ بالمرْبوبِيَّة للهِ تَعالى، وإذا نظرتَ تجلّى لكَ هذا عَمَلِيّاً في الحياةِ. فإنَّ المؤمنَ، طائعاً كان أو عاصياً لله، والكافِرَ والمُلْحِدَ والمُشْرِكَ كلُّهم صغيرُهم وكبيرُهم، ذَكَرُهم وأُنثاهم، تَراهُ في قرارةِ نَفْسِهِ موقناً بِوُجودِ الله ـ تبارَكَ وتَعالى ـ فإذا نَزَلَ بِهِ كَرْبٌ أو شِدَّةٌ أَو أَلَمَّتْ بِهِ حاجةٌ، ذَكَرَ اللهَ، فالمؤمنُ التقيُّ يذكُرُه بالتوبة والإنابة والاستغفار وطلب العون والمساعدة، وغيرُ المؤمنِ يرجوه ويدعوه، فإذا صار في السعة والعافية عاد إلى ما كان عليه. حتى اللئيمُ فإنَّهُ يَذْكُرُهُ بالتحدِّي والسَبِّ ـ والعياذُ بالله ـ وهذا يعني أنّه مُوقِنٌ في قَرارَةِ نَفْسِه بوجودِه ـ سبحانَه وتعالى ـ وأَنَّ اللهَ هُو الذي أَنْزَلَ بِهِ هذِهِ المُصيبَةَ، وإنَّما هُوَ شَيْطانُهُ وعُتوُّهُ هما اللذان يَصرفانِه عَمّا فيه مَصْلَحَتُه، فبدل أن يلجأ إلى الله بالتوبة والإنابة والتماس المغفرة وطلب العون والمساعدة، يستمرُّ في غَيِّهِ، بَلْ قَدْ يَزْدادُ تَكَبُّراً وتجبُّراً وعِناداً.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما: إنَّ اللهَ تَعَالَى مَسَحَ صُلْبَ آدَمَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ كُلَّ نَسْمَةٍ خَلَقَهَا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، فَأخَذَ مِنْهُمْ المِيثَاقَ أنْ يَعْبُدُوهُ، وَلاَ يَشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَتَكَفَّلَ لَهُمْ بِالأرْزَاقِ، ثُمَّ أعَادَهُمْ في صُلْبِهِ، فَلَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى يُولَدَ مَنْ أَعْطى المِيثَاقَ يَوْمَئِذِ.
فقد أخرجَ أَحمدُ. والنَسائيُّ. وابْنُ جَريرٍ. وابْنُ مَرْدَوَيْهِ. والحاكِمُ وصَحَّحَهُ. والبَيْهَقِيُّ في الأَسماءِ والصِفاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَبيِّ صَلى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ قال: ((إنَّ اللهَ تَعالى أَخَذَ الميثاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنُعْمانَ يَوْمَ عَرَفَةَ فأخرجِ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَها فَنَشَرَها بَينَ يَدَيْهِ كالذَرِّ، ثمَّ كلَّمَهم قِبَلاً: أَلَسْتُ بِرَبِّكم؟ قالوا: بَلى شَهِدْنا)).
وأَخْرجَ مالك في الموطَّأِ. وأَحمَدُ. وعَبْدُ بْنُ حميدٍ. والبُخاريُّ في التاريخ. وأَبو داوودَ. والتِرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ. والنَسائِيُّ. وابْنُ جَريرٍ الطَبَري وخَلْقٌ كثيرٌ عَنْ مُسْلِمٍ بْنِ يَسارَ الجُهَنيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنْهُ ـ سُئلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} سُورَةُ الأَعْرافِ، الآيةُ: 172. الخ فقال: ((سمعتُ رَسولَ اللهِ ـ صَلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ـ سُئِلَ عَنْها فقالَ: إنَّ اللهَ تَعالى خَلَقَ آدَمَ ثمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِيِنِهِ فاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فقالَ: خَلَقْتُ هؤلاءِ للجَنَّةِ، وبِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقالَ: خَلَقْتُ هَؤلاءِ للنّارِ وبَعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلون فقالَ الرَجُلُ: يا رَسُولَ اللهِ ففيمَ العَمَلُ؟ فقالَ: إذا خُلِقَ العَبْدُ للجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حتى يموتَ على عَمَلٍ مِنْ أَعْمالِ أَهْلِ الجَنَّةِ فيُدْخِلُهُ اللهُ الجَنَّةَ، وإذا خَلَقَ العَبْدُ للنارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النارِ حتى يموتَ على عَمَلٍ مِنْ أَعْمالِ أَهْلِ النارِ فيُدْخِلُهُ اللهُ تَعالى النارَ)).
وقالَ الكَلْبيُّ ومُقاتل: وذَلكَ أَنَّ اللهَ مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ بَينَ مَكَّةَ والطائفِ، فخَرَجَ مِنْ صفحةِ ظَهْرِهِ اليُمْنى ذُرِّيَّةً كالذَّرِّ بِيضٌ، فهم أَصْحابُ الميمَنَةِ. وخَرَجَ مِنْ صفحَةِ ظَهْرِهِ اليُسْرى ذُرِّيَّةً كالذَّرِ سُودٌ، فهم أَصْحابُ المَشْأَمِةِ، فلَمَّا شَهِدوا عَلى أَنْفُسِهم جميعاً مَنْ آمَنَ مِنْهم ومَنْ كَفَرَ أَعادَهُم.
أخرج الجُنْديُّ في فَضائِلِ مَكَّةَ. وأَبو الحَسَنِ القَطانِ. والحاكمُ. والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ وضَعَّفَهُ، وروى أَبو اللَّيثِ نَصْر السَمَرْقَنْدِيُّ (المتوفى : 373هـ)[size=37] [/size]في بحر العلوم: (2 / 160) بِسَنَدِهِ عَنْ أَبي سعيدٍ الخِدْرِيِّ ـ رضي اللهُ عَنْهُ ـ قالَ: حَجْجْنا مَعَ عُمَرَ ـ رضي اللهُ عنه ـ في أَوَّلِ خِلافَتِهِ فوَقَفَ على الحجرِ ثمَّ قال: أَمَا إِني أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، ولولا أَنّي رَأَيْتُ رسولَ اللهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ـ قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ. فقالَ لَهُ عَليٌّ ـ رضيَ اللهُ عَنْه: لا تَقُلْ هذا يا أَميرَ المؤمِنينَ فإنَّهُ يَضُرُّ ويَنْفَعُ بإذْنِ اللهِ. ولو أَنَّكَ قَرَأْتَ القُرآنَ وعَلِمْتَ ما فيهِ ما أَنْكَرْتَ عليّ ما قُلْتُ. قالَ اللهُ تَعالى: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى" فلَمّا أَقَرّوا بالعُبودِيَّةِ على أَنْفُسِهم، كَتَبَ إقْرارَهم في رِقٍّ، ثم دَعا هذا الحجرَ فقالَ لَهُ: افْتَحْ فَمَكَ، قال: فَأَلْقَمَهُ ذلك الرِقَّ فَهو أَمينُ اللهِ في هذا المكانِ يَشْهَدُ لِمَنْ اسْتَلَمَهُ ووافاهُ يَوْمَ القيامَةِ. فقالَ لَهُ عُمَرُ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُ: لقد جَعَلَ اللهُ بَينَ ظَهرانيكم مِنَ العِلْمِ غيرَ قليلٍ. وفي روايةٍ قل له: أَعوذُ بالله تعالى أَنْ أَعيشَ في قَوْمٍ لَسْتَ فيهم يا أَبا الحَسَنِ. وروى الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بْنِ كَعْبٍ في قولِهِ تعالى: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ" قال: جمعهم جميعاً فجعلهم أرواحاً، ثمَّ صَوَّرَهم، ثمَّ اسْتَنْطَقَهم، ثمَّ قالَ: "أَلَسْتُ بِرَبّكُمْ قَالُواْ: بلى" شَهِدْنا بِأَنَّكَ رَبُّنا. قالَ: فإني أُرْسِلُ إليكم رُسُلي، وأُنْزِلُ عليكم كُتَبي، فلا تُكَذِّبوا رُسُلي، وصَدِّقوا وَعْدِي؛ وأَخَذَ عَهْدَهم وميثاقَهم، فنَظَرَ إليهم آدمُ فَرأى مِنْهُمُ الغَنيَّ والفَقيرَ وحَسَنَ الصُورَةِ ودونَ ذلك. فقال آدمُ: رَبِّ لو شِئْتَ سَوَّيْتَ بين عِبادِك. فقالَ: إني أحببتُ أَنْ أُشْكَرَ. قال: والأَنْبياءُ يومئذٍ مِثْلُ السُرُجِ فأَخَذَ عليهم مِيثاقَ الرِسالَةِ أَنْ يُبَلِّغوها. فهو قولُهُ في سورةِ الأحزاب: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وإبراهيم وموسى وَعِيسَى ابنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقًا غَلِيظاً} الآية: 7.
وقد كانت الآياتُ السابقة تتحدَّث عن بني إسرائيل أمَّا في هذه الآيةِ فالكلامُ مَصْروفٌ إلى غيرِ بَني إسْرائيلَ، فإنهم لمْ يَكونوا مُشْرِكين واللهُ تعالى يقولُ: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} فهذا انتقالٌ بالكَلامِ إلى مُحاجَّةِ المُشْرِكينَ مِنَ العَرَبِ، وهُوَ المَقْصودُ مِنَ السُورَةِ ابتداءً ونهايَةً، فكانَ هذا الانْتِقالُ بمنزلَةِ رَدِّ العَجْزِ عَلى الصَدْرِ. وجاءَ هذا الانتقالُ بمناسَبَةِ ذِكْرِ العَهْدِ الذي أَخَذَ اللهُ على بَني إسْرائيلَ في وَصِيَّةِ مُوسى، وهوَ مِيثاقُ الكِتابِ، وفي يومِ رَفْعِ الطُورِ، وهُوَ عَهْدٌ حَصَلَ بالخِطابِ التَكوينيِّ، أَيْ بِجَعْلِ مَعناهُ في جِبِلَّةِ كُلِّ نَسمَةٍ وفِطْرَتها، فالجُملةُ مَعطوفَةٌ على الجُملِة السابِقَةِ عَطْفَ القِصَّةِ على القِصَّةِ، والمقصودُ بِهِ ابْتداءً هُمُ المُشْرِكُون.
وتَبَدُّلُ أُسلوبُ القِصَّةِ واضحٌ إذِ اشْتَمَلَتْ هذِهِ القِصَّةُ على خطابٍ في قولِه: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" إلى آخرِ الآيَةِ، وإذْ صَرَّحَ فيها بمُعادِ ضميرِ الغَيْبَةِ وهو قولُهُ: "مِنْ بَنِي آدَمَ" فعُمومُ الموعِظَةِ تابعٌ لِعُمومِ العِظَةِ. فهذا ابْتِداءٌ لِتَقْريعِ المُشْرِكينَ على إشراكهم، وما ذُكِرَ بعدَهُ إلى آخرِ السُورةِ مُناسِبٌ لأحوالِ المُشركين.
قولُهُ: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} الإشهادُ على الأنْفُسِ يُطلَقُ على ما يُساوي الإقرارَ أوِ الحَمْلَ عَلَيْهِ، وهو هُنا الحملُ على الإقرار، واسْتُعيرَ لحالةٍ مُغَيَّبَةٍ تَتَضَمَّنُ هذا الإقرارَ يَعْلَمُها اللهُ لاستقرارِ مَعنى هذا الاعْتِرافِ في فِطْرَتِهم. وأَخذُ العهدِ على الذُرِّيَّةِ المخرجين من ظهور بني آدم يقتضي أخذَ العهدَ على الذرية الذين في ظهر آدم بدلالة الفحوى، وإلاَّ لكان أَبْناءُ آدمَ الأَدْنَوْنَ لَيْسوا مَأْخوذاً عَلَيْهِمُ العَهْدُ مَعَ أَنَّهم أَوْلى بِأَخْذِ العَهْدِ عَلَيْهمْ في ظَهْرِ آدَمَ ـ عليه السلامُ.
قولُهُ: {قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} أَقرُّوا بالرُبوبيَّةِ له ـ سبحانه، بقولِهم: "بلى" فقالتِ الملائكَةُ عندَ ذَلك "شَهِدْنا" أَيْ: على إقرارِكم، لِئلاَّ تقولوا، أَيْ: لِئَلاَّ يَقولَ الكُفَّارُ يَوْمَ القيامةِ إنَّا كُنَّا غافلين عَنْ هذا الميثاقِ فلم نحفَظْهُ، ولم نَذْكُرْهُ، ويَذكُرونَ الميثاقَ ذلكَ اليومِ فلا يُمْكِنُهم الإنْكارُ مَعَ شَهادَةِ الملائكة، وهذه الآيَةُ تَذْكيرٌ لجميع المكلَّفين بذلك الميثاق؛ لأنَّها وَرَدَتْ على لِسانِ صاحِبِ المُعْجِزَةِ، فقامَتْ في النُّفوسِ مَقامَ ما هُوَ على ذِكْرٍ مِنْها.
قيل: معنى ذلك أَنهم لما قالوا بلى، فأقروا لَهُ بالربوبية، قالَ اللهُ تعالى للملائكة: اشْهَدوا قالوا شهدْنا بإقراركم لِئَلاَّ تقولوا أو تقولوا. وهو قولُ مجاهد والضحاك والسدي. وقال ابْنُ عبّاسٍ وأُبيُّ بْنُ كَعْبٍ ـ رضي الله عنهم: قولُه: "شَهِدْنَا" هو مِنْ قولِ بَني آدم، والمعنى: شَهِدْنا أَنَّكَ رَبُّنا وإلهُنا، وقالَ ابْنُ عباسٍ: أَشْهَدَ بَعْضَهم على بَعْضٍ؛ فالمعنى على هذا: قالوا بَلى شَهِدَ بعضُنا على بَعْض؛ فإذا كان ذلك مِنَ قولِ الملائكة فيُوقَفُ على "بَلَى" ولا يَحْسُنُ الوَقْفُ عَلَيْه إذا كانَ مِنْ قولِ بَني آدمَ؛ لأنَّ "أَنْ" مُتَعَلِّقَةٌ بما قَبْلَ "بَلى"، مِنْ قولِهِ: "وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ" لِئَلاَّ يَقولوا. وقدْ رَوى مجاهد عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رضي اللهُ عنهما ـ أّنَّ النَبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالَ: ((أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَني آدَمَ مِنْ ظُهورِهم ذُرَّيَّاتهم كما يُؤخَذَ بالمِشْطِ مِنَ الرأْسِ، فقالَ لهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكم؟ قالوا: بلى، قالتِ الملائكةُ شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا)). أيْ شهدْنا عَليكم بالإقْرارِ بالرُبوبِيَّةِ لِئَلاَّ تَقولوا. فهذا يَدُلُّ على التاءِ. قالَ مكيّ: وهوَ الاخْتِيارُ لِصِحَّةِ مَعناهُ، ولأنَّ الجماعةَ عَلَيْهِ. ورُوِيَ عَنِ السُدِّيِّ: إنَّ قولَهُ: "شَهِدْنَا" مِنْ قَوْلِ اللهِ تَعالى والملائكة. والمَعْنى: فَشَهِدْنا على إقْرارِكُم.
والكلامُ تمثيلُ حالٍ مِنْ أَحْوالِ الغيبِ، مِنْ تَسَلُّطِ أَمْرِ التَكوين الإلهيِّ على ذواتِ الكائناتِ وأَعْراضِها عندَ إرادةِ تَكْوينِها، لا تَبْلُغُ النفوسُ أنْ تتصورَها بالكُنْهِ، لأنَّها وراءَ المُعْتادِ المألوفِ، فيُرادُ تَقْريبُها بهذا التَمثيلِ، والمعنى: أنَّ اللهَ خلقَ في الإنسانِ مِنْ وَقْتِ تَكْوينِهِ إدْراكَ أَدِلَّةِ الوَحْدانيَّةِ، وجَعَلَ في فِطْرَةِ حَرَكَةِ تَفْكيرِ الإنْسانِ التَطُلَّعَ إلى إدْراكِ ذلك وتحصيلِ إدْراكِه إذا جَرَّدَ نَفْسَهُ مِنَ العَوارِضِ التي تَدخُلُ على فِطْرَتِهِ فتُفْسِدُها.
وقدِ اسْتَدَلَّ بهذِهِ الآيَةِ مَنْ قال: إنَّ مَنْ مَاتَ صَغيراً دَخَلَ الجَنَّةَ لإقرارِهِ في الميثاقِ الأَوَّلِ. ومَنْ بَلَغَ العَقْلَ لم يُغْنِهِ المِيثاقُ الأَوَّلُ. فأَطفالُ المشركين في الجنةِ، وهو الصحيح,
قولُهُ تَعالى: {وَإِذْ أَخَذَ ربُّك مِنْ بَنِي آدَمَ} إذ: اسْمٌ للزَمَنِ الماضي، وهُو هُنا مجرَّدٌ عَنِ الظَرْفِيَّةِ، فهُو مَفعولٌ بِهِ لِفِعْلِ "اذكر" المحذوف. و "أَخَذَ" يتعلق بِهِ "مِنْ بَنِي آدَمَ" وهو مُعَدَّى إلى "ذُرِّياتِهم"، فتَعَيَّنَ أَنْ يَكونَ المعنى: أَخَذَ رَبُّكَ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرادِ الذُرِّيَّةِ، مِنْ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفرادِ بَني آدَمَ. و "من" في قولِهِ: "مِنْ بَنِي آدَمَ" وقولِهِ: "من ظُهُورِهِمْ" ابْتِدائيَّةٌ فيهِما. والأَخْذُ مجازٌ في الإخراجِ والانْتِزاعِ قال الله تعالى في سورة الأنعام: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} الآية: 46.
قولُهُ: {مِن ظُهُورِهِمْ} بَدَلٌ مِنْ قولِهِ: "من بني آدم" بإعادةِ الجارِّ كما هو في قولِهِ: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ} سورةُ الزُخْرُفِ، الآية: 33. وكقولِه في سورةِ الأعرافِ: {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ} الآية: 75. قال أبو البقاءِ هُوَ بَدَلُ اشْتِمالٍ، والأظهرُ أنّهُ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، لأنَّه لا أحدٌ يُعْرِب (ضَرَبْتُ زَيْداً وقَطَعْتُ يَدَه) بدلَ اشْتِمال.
وقولُهُ: {ذُرِّيَّتَهُمْ} مَفْعولٌ بِهِ للفعل: "أَخَذَ". أي أخذ ذرِّيَّتَهم مِنْ ظُهورِهم.
وقولُهُ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} استفهامٌ تَقريريٌّ، ومثلُهُ يُقالُ في تقريرِ مَنْ يُظَنُّ بِهِ الإنْكارُ أَوْ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ ذلك.
قولُهُ: {قَالُوا: بَلَى} بَلَى: حِرْفُ جَوابٍ لِكَلامٍ فيهِ مَعنى النَفْيِ، فيَقْتَضي إبْطالَ النَفْيِ وتَقريرَ المِنْفي، ولذلكَ كانَ الجوابُ بها بَعدَ النَفْيِ أَصْرَحَ مِنَ الجوابِ بحرْفِ "نعم" لأنَّ نعم تحتمل تقريرَ النَفيِ وتقريرَ المنفيِّ، وهذه الجملة هي جوابٌ عَنِ الاسْتِفهامِ التَقْريريِّ السابق وهو قولُهُ: "ألستُ بربِّكم".
قوله: {شَهِدْنَا} تأكيدٌ لمضمونِ "بَلَى" والشهادةُ هُنا أَيضاً بمعنى الإقْرارِ.
وقولُهُ: {أَنْ تَقُولُوا} وقع في موقع التَعليلِ لِفعْلِ الأَخْذِ والإشْهادِ، فهو على تقديرِ لامِ التَعليلِ الجارَّةِ، وحذْفُها مَعَ "أَنْ" جارٍ على المُطَّرِدِ الشائعِ.
وقرأ الكوفِيُّونَ وابْنُ كَثيرٍ "ذريتهم" بالإِفرادِ، والباقون "ذُرِّيَّاتهم" بالجمع. قالَ الشيخ أبو حيّانَ: ويُحْتَمَلُ في قراءةِ الجَمْعِ أَنْ يَكونَ مفعولُ "أخذ" محذوفاً لِفَهْمِ المَعْنى، و "ذُرَِيَّاتهم" بَدَلٌ مِنَ ضَميرِ "ظهورهم"، كما أَنَّ "من ظهورهم" بَدَلٌ مِنْ "بني آدم"، والمفعولُ المحذوفُ هو الميثاقُ كقولِهِ في سورة النساءِ: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً} الآية: 154. قال: وتقديرُ الكلام: وإذْ أَخَذَ ربُّك مِنْ ظُهورِ ذُرِّيَّاتِ بَني آدَمَ مِيثاقَ التَوْحيدِ، واسْتَعارَ أَنْ يَكونَ أَخَذُ المِيثاقِ مِنَ الظَهْرِ، كَأَنَّ الميثاقَ لِصُعوبَتِهِ، والارْتِباطِ بِهِ شَيْءٌ ثَقيلٌ يُحْمَلُ على الظَهْرِ. وكَذلِكَ قرأَ الكُوفِيُّونَ وابْنُ كَثيرٍ في سُورَةِ (يس) وفي سورة (الطور) في الموضعين: "ذُرِّيَّتَهم" بالإِفرادِ، وافَقَهم أَبو عَمْرٍو عَلى ما في (يس)، ونافع وافقهم في أَوَّلِ سورةِ الطور وهي {ذريتهم بإيمان} دونَ الثانية وهي {أَلْحَقْنا بهم ذريَّاتِهم} فالكوفِيُّونَ وابْنُ كَثيرٍ جَرَوا عَلَى مِنْوالٍ واحدٍ وهو الإِفرادُ، وابْنُ عامرٍ على الجَمْعِ، وأَبو عَمْرٍو ونافعٌ جمعا بين الأَمْريْن. قال الشَيْخُ أبو حيّان التوحيديّ: في قراءةِ الإِفرادِ في هذِهِ السُورةِ: ويتعيَّن أَنْ يَكونَ مفعولاً بِ "أخذ" وهو على حَذْفِ مُضافٍ، أي: مِيثاقَ ذُرِّيَّتِهم. يَعني أَنَّهُ لم يَجُزْ فيه ما جازَ في "ذرياتهم" مِنْ أَنَّهُ بَدُلٌ والمفعولُ محذوفٌ، وذلك واضحٌ لأنَّ مَنْ قرأ "ذريتهم" بالإِفْرادِ لم يَقْرأْهُ إلاَّ مَنْصوباً، ولو كانَ بَدَلاً مِنْ "هم" في "ظهورهم" لَكانَ مجْروراً، بخِلافِ "ذرياتهم" بالجمع، فإنَّ الكَسْرَةَ تَصْلُح أَنْ تَكونَ عَلَماً للجَرِّ وللنَصْبِ في جمعِ المؤنَّثِ السالم.
قولُهُ: {بلى} جوابٌ لِقولِهِ: "أَلَسْتُ" قالَ ابْنُ عباسٍ: لو قالوا: نَعَمْ لَكَفَروا. يُريدُ أَنَّ النَفْيَ إذا أُجِيبَ بِ "نعم" كانتْ تَصْديقاً لَهُ، فكأنهم أَقرُّوا بِأَنَّهُ ليسَ بِرَبِّهم. هكذا يَنْقلونَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهما ـ وفيهِ نَظَرٌ إنْ صَحَّ عَنْهُ، وذلك أَنَّ هذا النَفْيَ صارَ مُقَرَّراً، فكيْفَ يَكْفُرونَ بِتَصْديقِ التَقريرِ؟ وإنَّما المانِعُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ: وهو أَنَّ النَفْيَ مُطْلَقاً إذا قُصِد إيجابُه أُجيبَ بِ "بلى"، وإنْ كانَ مُقَرَّراً بِسَبَبِ دُخولِ الاسْتِفْهامِ عَلَيْهِ، وإنَّما كان ذلك تَغْليباً لجانبِ اللَّفُظِ، ولا يَجوزُ مُراعاةُ جانبِ المعنى إلاَّ في شِعْرٍ كَقولِ جَحْدَرَ:
أليس الليلُ يجمعُ أمَّ عمروٍ ...................... وإيّانا فذاكَ بِنا تَداني
نعم وتَرى الهِلالَ كما أَراهُ ................ ويَعْلوها النَهارُ كَما عَلاني
فأجابَ قولَهُ "أليس" بِ "نعم" مُراعاةً للمَعْنى لأنَّهُ إيجابٌ.
قولُهُ: {شَهِدْنَا} هذا مِنْ كَلامِ اللهِ تعالى. وقيلَ: مِنْ كلامِ الملائكةِ. وقيلَ: مِنْ كلامِ اللهِ تَعالى والملائكَةِ. وقيل: مِنْ كلامِ الذُرِّيَّةِ. قال الواحدي: وعلى هذا لا يَحْسُنُ الوَقْفُ على قولِهِ: "بلى" ولا يَتَعلَّقُ قولُهُ: "أَنْ تقولوا" بقولِهِ: "شَهِدْنا" ولكن يتعلقُ بقولِهِ: "وأَشْهَدَهُمْ".
قوله: { أَن تَقُولُواْ} مفعولٌ مِنْ أجله، والعامل فيه: إمَّا شهدْنا، أي: شهِدْنا كراهةَ أن تقولوا، هذا تأويل البصريين، وأمَّا الكوفيون فقاعدتهم تقدير لا النافية، تقديره: لئلا تَقولوا، كقولِهِ في سورة النَحْلِ: {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} الآية: 15، وكقولِ الآخر من الوافر:
رَأَيْنا ما رأى البُصَراءُ فيها ...................... فآلَيْنا عليها أَنْ تُباعا
أي: أَنْ لا تُباع، وأمَّا "وأشهدهم"، أي: أشهدهم لئلا تقولوا أو كراهةَ أَنْ تقولوا. وقد تقدَّم أن الواحديَّ قد قال: إنَّ شَهِدْنا إذا كان من قولِ الذريَّةِ يتعيَّنُ أنْ يتعلَّقَ "أن تقولوا" ب "أَشْهَدَهم" كأنه رأى أن التركيب يصير: شَهِدْنا أن تقولوا سواءً قرئ بالغيبة أو الخطاب، والشاهدون هم القائلون في المعنى، فكان ينبغي أن يكون التركيب: شهدنا أن نقول نحن. وهذا غيرُ لازم لأن المعنى: شهد بعضهم على بعض، فبعضُ الذرية قال: شهدنا أن يقول البعض الآخر كذلك. وذكر الجرجانيُّ لبعضهم وجهاً آخر وهو أن يكون قوله: "وإذْ أخَذَ ربك" إلى قولِهِ: "قالوا بلى" تمامَ قصة الميثاق، ثم ابتدأ ـ عزَّ وجل ـ خبراً آخر بِذِكْرِ ما يقوله المشركون يوم القيامة فقال تعالى: "شَهِدْنا" بمعنى نَشْهَدُ، ومن ذلك قولُ الحُطيئةِ في الوَليدِ ْبنِ أَبي مُعَيْطٍ وقدْ صَلّى الفَجْرَ بالنَّاسِ ثَمِلاً أَرْبَعَ رَكعاتٍ، ثمَّ الْتَفَتَ إليهم فقالَ: أَأَزيدُكُم؟ فقالَ الحُطَيْئة من الكامل:
شَهِدَ الحطيئةُ حين يلقى ربَّه .................... أَنَ الوليدَ أَحَقُّ بالعُذْرِ
نادَى وَقَدْ كَمُلَتْ صَلاتُهُمُ ................ أَ أَزيدُكُمْ؟ ثَمِلاً وما يَدرِي
لِيَزيدَهمْ خَيراً ولو قَبِلُوا ................... لَقَرَنْتَ بَينَ الشَّفْعِ والوِتْرِ
فأَبَوْا أبَا وَهْبٍ ولو فَعَلُوا ................. زَادَتْ صَلاتُهُمُ على العَشْرِ
كَفُّوا عِنانَكَ إذْ جَرَيْتَ ولو ............... خَلُّوْا عِنانَكَ لمْ تَزَلْ تَجْرِي
فقولُه: شَهِدَ أَيْ: يَشْهَدُ، فَيكونُ تَأْويلُهُ: "يَشْهدُ أَنْ تقولوا".
وقرأَ الجُمهورُ: أَنْ تَقولوا بِتاءِ الخِطابِ، وقدْ حولَ الأُسلوبَ مِنَ الغَيبةِ إلى الخِطابِ، ثمَّ مِنْ خِطابِ الرَسولِ إلى خِطابِ قومِهِ، تَصريحاً بأنَّ المقصودَ مِنْ قِصَّةِ أَخذِ العهدِ تذكيرُ المُشْركين بما أَوْدَعَ اللهُ في الفِطْرَةِ مِنَ التَوحيدِ، وهذا الأُسْلوبُ هو مِنْ تحويلِ الخِطابِ عَنْ مخاطبٍ إلى غيرِهِ، ولَيسَ مِنَ الالْتِفاتِ لاخْتِلافِ المُخاطَبين. وقرأ أبو عمرو: "يقولوا" في الموضعين بالغَيْبة جرياً على الأسماء المتقدمة، والباقون بالخطاب، وهذا واضحٌ على قولنا إنَّ "شَهِدْنا" مُسْندٌ لضمير الله تعالى. وقيل: على قراءة الغيبة يتعلَّق "أَنْ يقولوا" بأشهدهم، ويكون "قالوا شهدنا" معترضاً بين الفعلِ وعلَّته، والخطابُ على الالْتِفاتِ، فيكونُ الضميران لِشيءٍ واحِدٍ.
وهذا مِنْ بابِ الحقيقةِ وأَنَّ اللهََ أخرجَ الذُرِّيَّةَ مِنْ ظَهْرِهِ بِأَنْ مَسَح عليه فَخَرَجوا كالذَّرِّ وأَنْطَقهم فشَهِدَ الكلُّ بأنَّه رَبُّهم، فالمؤمنون قالوهُ حقيقةً في الأَزَل والمشركونَ قالوهُ تَقِيَّةً، وعلى هذا جماعةٌ كثيرة من أهلِ العِلم، أوْ قال جماعةٌ منهم الزمخشري، هُوَ مِنْ بابِ التَمْثيلِ، وجَعَلَهُ كقولِهِ في سورة فُصِّلت: {ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} الآية: 11، ومنهُ قولُ عَمْرٍو ابْنِ هَمَمَةَ الدَّوْسِيِّ، من الطويل:
فَأَصْبَحْتُ مِثْلَ النَّسْرِ طَارَتْ فِرَاخُهُ ........ إِذَا رَامَ تَطْيَراً يُقَالُ لَهُ: قَعِ
وكقولِ الراجزِ أَبي النَّجْمِ العجيليِّ:
إذ قالت الأَنْساع للبطن الحَقِي
ولا قولَ هُناكَ، وإنَّما أَرادَ أَنَّ الظَهْرَ قَدْ لَحِقَ بالبَطْنِ. وكذلك قولُ أبو النجم أيضاً يَصِفُ سَحاباً:
حتى إذا كانَ على مُطارِ .................. يُسْراهُ واليُمْنى على الثَّرْثارِ
قالتْ لهُ ريحُ الصَّبا: قَرْقارِ
قرقار: أي قَرْقِر بالرَعْدِ وَصُبَّ ماءَكَ وهاتِ ما عِنْدَك. ومَعْناهُ أَنَّ رِيحَ الصَبَا ضَرَبَتْهُ فَدَرَّ لها فَكأنها قالتْ لَهُ: صُبَّ ماءَكَ، أَوْ: قَرْقِرْ بالرَّعْدِ. والقَرْقَرَةُ: مِنْ أَصْواتِ الحَمامِ. ومُطار، ويُفتح: اسم مكان بِنجدٍ، والثَرْثارُ: بِبِلادِ الجَزيرَةِ. إلى غير ذلك.