قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
(144)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} هي ملاطفةٌ منه تعالى وهو اللطيفُ بعباده جميعاً فكيف بأوليائهِ وأَحْبابِهِ وصَفْوتِهِ مِنْ خَلْقِهِ؟ وذلك تَسْلِيَةً لِقلْبِهِ ـ عليهِ السَّلامُ ـ بَعْدَ أَنْ مُنِعَ النَّظَرَ لِوَجِه اللهِ الكريمِ في الدنيا، وقدْ كانَتْ هذِهِ النَظْرةُ عَنْدَ مُوسى تعدِلُ الدُنْيا وما فيها بل ترجح عليها، فقد تمنَّاها ولو أَنَّ الثَمَنَ حياتُه. رَوى أَبو الشيخِ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ قال: (حينَ قالَ مُوسى لِرَبِّهِ ـ تَباركَ وتعالى: {رَبِّ أَرِني أَنْظُرْ إلَيْكَ} قالَ اللهُ لَهُ: {يا مُوسى: إنَّكَ لَنْ تَراني}: لا يَكونُ ذلك أَبَداً يا مُوسى، إنَّه لا يَراني أَحَدٌ فَيَحْيَا. فقال مُوسى: رَبِّ أَنْ أَراكَ ثمَّ أَموتُ أَحَبُّ إليَّ مِنْ أَنْ لا أَراكَ ثمَّ أَحيا ..). وهكذا شأنُ المحبين فقد رُوِيَ أَنَّ سُلْطانَ العاشقينَ عُمَرَ ابْنَ الفارِضِ ـ قُدِّسَ سِرُّهُ ـ رَأَى مَقْعَدَهُ في الجنَّةِ عندما حَضَرَتْهُ الوَفاةُ، لأنَّ كلَّ إنسانٍ يَرى عِنْدَ النَزَعِ مَقْعَدَهُ، إنْ في الجَنَّةِ وإنْ في النارِ، قالَ تعالى في سُورَةَ (ق): {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} الآية: 22. عندها قال ابْنُ الفارضِ ـ رحمهُ اللهُ تَعالى:
إنْ كان مَنْزِلَتي في الحبِّ عِنْدَكُمُ ....... ما قَدْ رَأَيْتُ فَقَدْ ضَيَّعْتُ أَيّامي
لأنَّ المحبينَ لا مطمع لهم سوى في رضا محبوبهم والقربِ منه، فأراهُ اللهُ ما أَحَبُّ فَقالَ:
لقد رَماني بِسَهْمٍ مِنْ لَوَاحِظِهِ ..... أَصْمى فُؤادِي فَوَا شَوْقي إلى الرامي
وقد مُنِعَ سَيِّدُنا مُوسى ـ عليه السَّلامُ ـ الرؤيةَ ليزدادَ حباً وشوقاً ولهفةً، فخُوطِبَ هذا الخطاب اللطيفَ " يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} والنِداءُ هنا للتأَنِيسِ وتهدئةِ الرَّوْعِ. ترَّفُقاً بِهِ وتذكيراً لَهُ بِنَعَمٍ أُخرى عَظيمةٍ أَنعمَ بها عليه وخصّه بها من دون جميع أناس زمانِهِ، وهي الاصطفاءُ وهو اسْتِخْلاصُ الصَفْوَةِ واختيارُها، والرسالةُ، والتكليمُ، والتأكيدُ ب "إنّي" للاهْتِمامِ بِهِ، إذْ لَيْسَ محَلاًّ للإنْكارِ، فأعْظِمْ بها مِنْ نعمٍ جسامٍ أكرمُ اللهُ بها رسولَهُ موسى، لو أنَّا وقفنا عند كلٍّ منها فملأنا بها الأسفارَ لما استطعنا لها عدّاً ولا حَصْراً، ولم يذكرْ ـ سبحانَهُ ـ نعمه الأخرى التي أنعم بها عليه والتي رافقته منذ ولادته، حتى بعثته وكلها نعمٌ عظيمة سبق ذكرها.
قولُهُ: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} فخذ ما آتيتك من نعمة بالتمكين وكن عليه مِنَ الشاكرينَ بالاسْتِقامَةِ في القيامِ بحقِّ العُبوديَّةِ التي لا مقامَ أَعلى منها، كما هو عندك في الألواح التي هي التورات، وقم بما فيها من أحكام، وبذلك يكون الشكر على النعمة وبالشكر تزدادُ النِّعَمُ وتَدوم، قال تعالى في محكم كتابه العزيز: {لئن شكرتم لأزيدنَّكم} سورة إبراهيم، الآية: 7.
قولُهُ تعالى: {بِرِسَالاَتِي} الباء هنا هي السببِيّةُ، أي: بِسَبَبِ.
قرأ العامَّةُ: {بِرِسَالاَتِي} بالجمع اعتباراً بالأنواع، وقرأَ الحرميَّان (ابن كَثيرٍ ونافعٌ): "بِرسالتي" بالإِفراد، والمُرادُ بٍهِ المَصْدرُ أيْ: بإرْسالي إياك، ويجوزُ أنْ يَكونَ على حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: بِتَبليغِ رِسالتي. والرسالةُ: نفسُ الشيءِ المُرْسَلِ بِهِ.
وقرأ العامة: "وبكلامي" وهو محتملٌ أنْ يُرادَ بِهِ المَصْدَرُ، أي: بِتَكْليمي إيَّاكَ، فيكونُ كقولِهِ تعالى في سورة النساء: {وَكَلَّمَ اللهُ موسى تَكْلِيماً} الآية: 164. ومنه قولُ الشاعر:
. . . . . . . . . . . . . . . . . ........... فإنَّ كلامَها شفاءٌ لِما بياأي: بتكليمي إياها، ويحتمل أن يكونَ المرادُ به التوراةُ وما أَوْحاهُ إليهِ، وهو مِنْ قولهم للقرآن الكريم (كلامُ الله) تسميةً للشيءِ بالمَصْدَرِ.
وقَدَّم الرسالة على الكلام لأنها أسبقُ أو ليترقَّى إلى الأشرفِ. وكرر حرف الجرِّ تنبيهاً على مغايرة الاصطفاء. وقرأ الأعمش: " برسالاتي وبكَلِمِي" جمع كلمة، ورَوَى عنه المهدوي أيضاً "وتكليمي" على زنة التفعيل، وهي تؤيد أنَّ الكلامَ مصدرٌ. وقرأ أبو رجاء "برسالتي" بالإِفرادِ و "بكَلِمي" بالجمع، أي: وبسماع كلمي.