وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ
(113)
قولُه ـ سبحانَه وتعالى: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ} في الكلامِ حذفٌ يَقتضيهِ المعنى، تقديره: فأرْسَلَ حاشرين إلى جميع المدن، فجمعوا السحرة، وأمروهم بالمجيءِ إلى فرعون، وجاء السحرة .. ولكن حُذِفَ ذِكْرُ الإرسالِ لِعِلْمِ السامِعِ بِهِ. وكان عددهم كبيراً، وكان معهم من الحبالِ والعِصِيِّ الشيءُ الكَثيرُ ـ فيما رُوِيَ ـ حتى إنَّ الحِبالَ والعِصِيَّ كان محملةً على ثلاثمئةِ بَعيرٍ، فالتَقَمَتِ الحَيَّةُ ذلك كلَّه.
قولُه: {قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} وَسَأَلَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ حِيْنَمَا دَخَلُوا عَلَيْهِ، قَائِلِينَ: هَلْ لَنَا مِنْ أَجْرٍ عَلَى مَا نَقُومُ بِهِ إِذَا تَغَلَّبْنَا عَلَى مُوسَى، وَأَبْطَلْنَا مَفْعُولَ سِحْرِهِ؟ أيْ جائزةً ومالاً. ولم يقل فقالوا بالفاءِ؛ لأنَّه أَرادَ لما جاؤوا قالوا. وقد حذفت همزة الاستفهام هنا فلم يقل أ "إنَّ لنا لأجراً" ومثل هذا كثيراً في كلامِ العرب، من ذلك نحو قول الشاعر عمر ابن أبي ربيعة:
قالوا: تحبها؟ قلت: بهراً ............... عَدَدَ النَّجْمِ وَالحَصَى والتُّرَابِ أي: أتحبها؟. وقولُ الكُمَيْتُ الأسدي:
طَرِبْتُ وما شَوْقاً إلى البيضِ أَطْرَبُ ... ولا لعباً مني وذو الشيبِ يَلْعَبُأي: أَوَ ذو الشيب يلعب؟
وقوله: "إنَّ لنا لأجراً" يدُلُّ على أَنهم كانوا غيرَ مُكرَهين على مبارزة موسى ـ عليه السَّلامُ ـ بالسحر، وللعلماءِ عَنْ هذا السؤالِ أَجوِبَةٌ، أظهرُها: أنَّهُ أَكْرَهَهم على الشُخوصِ مِنْ أَماكِنِهم لِيُعارِضوا مُوسى بِسِحْرِهم، فلمَّا أُكرِهوا على القُدومِ وأُمِروا بالسِحْرِ أَتَوْهُ طائعين، فإكراهُهم بالنِسبةِ إلى أَوَّلِ الأَمْرِ، وطَوْعُهم بالنِسْبةِ إلى آخِرِ الأمْرِ، فانْفَكَّتْ الجِهَةُ وبذلك ينتفي التعارض، ويَدُلُّ لهذا قولُه: {وابْعثْ فِي المدائنِ حَاشِرِينَ} سورةُ الشعراءِ، الآية: 36، وقولُهُ: {وَأَرْسِلْ فِي المدئنِ حَاشِرِينَ} سورة الأعراف، الآية: 111.
ومنْها: أنَّه كان يُكرِهُهم على تَعليمِ أَوْلادِهم السِحْرَ في حالِ صِغَرِهِم، وأنَّ ذلك هو المُرادُ بإكراهِهم على السحر، في قولِه في سورة طه على لسانهم: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} الآية: 73. ولا يُنافي ذلك أنهم فعلوا ما فَعلوا مِنَ السِحْرِ بَعْدَ تَعلُّمِهم وكِبَرِهِم طائعين.
ومنها: أنهم قالوا لِفِرْعَوْنَ: أرِنا مُوسى نائماً: ففعلَ فوَجَدوهُ تحرُسُهُ عَصاهُ، فقالوا: ما هذا بسِحْرِ الساحِرِ! لأنَّ الساحرَ إذا نام بَطُلَ سِحْرُه. فأبى عليهم فرعون ذلك، وأَلزَمَهم بمعارضة موسى ومبارزته، فلمّا لم يجدوا بُدّاً مِنْ ذلك فعَلُوهُ طائعين. والله أعلم.
وقوله تعالى هنا: "وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين" فلم يقل هنا "قالوا لفرعون" أمَّا في سورة الشعراءِ فقال تعالى: {قالوا لفرعون أئنَّ لنَا لأجراً إن كنا نحن الغالبين} أي أصبح القول موجهاً إلى فرعون لأنَّ التَحدّي أَكبر في سورة الشعراءِ، وفيها تأكيد أيضاً بقولِهِ "أئن لنا لأجراً"، أما هنا فقال: "إنَّ لنا لأجراً" لأنَّ المقام يقتضي الحذف فالتَفصيلَ هنا أَقَلُّ.
قولُهُ تعالى: {قالوا إنَّ لنا لأجراً} جملة "قالوا" من الفعل والفاعل في محل نصبٍ على الحالِ مِنَ السَحَرَةِ. وجملةُ: "إنَّ" واسمها وخبرها مقول القول فلا محلَّ لها من الإعراب.
وقولُه: {إنْ كنا نحن الغالبين} إنْ: شرطيَّة، وجوابَ الشرط محذوف دلَّ عليه ما قبله. و"نحن" ضميرٌ منفصلٌ لتوكيد الضمير المتصل "نا" العظمة، وجملةُ "إن كنا نحن الغالبين" مستأنفة، لا محلَّ لها من الإعراب.
قرأ نافعٌ وابنُ كثيرٍ وحفْصٌ "قالوا إن لنا لأجراً" على الخبر، وقرأ أبو عَمْرو: "إين لنا" بالمد، وقرأ هشام بهمزتين بينهما مَدَّةٌ، وقرأ الباقون "أئن" بهمزتين وقد ذكرنا الحجة عند قوله: {أئنكم لتأتون الرجال شهوة} الآية: 81، من هذه السورة، فأغنى ذلك عن الإعادة.