وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ
(87)
قولُهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا} الطائفة الْجَمَاعَةُ ذَاتُ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ، وهو خِطابٌ للكُفَّارِ ووعيدٌ لهم، فيه توصيفٌ مِنْ نَبِيِّ اللهِ شعيب ـ عليه السلامُ ـ بأنَّ جماعةً من قومِهِ قد آمنوا به وصدَّقوه، واتَّبعوا الشرعَ الذي أنزل عليه من ربِّه كالإخلاصِ لله في العبادة، وتركِ مَعصِيَتِهِ، والابتعادِ عن ظُلمِ النّاسِ، وبَخْسِهِم في المِكاييلِ والمَوازين، والإيقان بعذاب اللهِ وعقابه وانتقامِهِ إنْ هم خالفوا أَمْرَهُ، وأنهُ ثَمَّةَ جَماعةٌ أُخْرى لَمْ يُصَدِّقوا بِذلِكَ، بل كذّبوه ولَمْ يَتَّبِعوهُ ـ عليه السلامُ ـ وهزئوا به لمَّا حَذَّرَهم غضبَ اللهِ وسريعَ انتقامه في الدنيا، وشديدَ عذابِه في الآخرة.
قولُهُ: {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ} الصَّبْرُ: حَبْسُ النَّفْسِ فِي حَالِ التَّرَقُّبِ، سَوَاءٌ كَانَ تَرَقُّبَ مَحْبُوبٍ أَمْ تَرَقُّبَ مَكْرُوهٍ، وَأَشْهَرُ اسْتِعْمَالِهِ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى حَبْسِ النَّفْسِ فِي حَالِ فُقْدَانِ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ، وَقَدْ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لِأَنَّهُ خُوطِبَ بِهِ الْفَرِيقَانِ: الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ، وَصَبْرُ كُلٍّ بِمَا يُنَاسِبُهُ، فهو وعيدٌ منه ـ عليه السلامُ ـ للكافرين وتخويفٌ لهم من بطشِ الجَبَّارِ المُنْتَقِمِ، أو هُوَ خِطابٌ للمُؤمِنينَ ومَوْعِظَةٌ لَهُمْ، وحَثٌّ على الصَبْرِ واحْتِمالِ ما كانَ يَلْحَقُهم مِنْ أذى المُشْرِكينَ، إلى أَنْ يَحْكُمَ اللهُ تَعالى بَيْنَهم، ويَنْتَقِمَ لَهم مِنْهم. ويَجوزُ أَنْ يَكونَ خِطاباً للفَريقيْنِ، أيْ لِيَصْبِرَ المُؤمِنون على أَذَى الكُفَّارِ، ولِيَصْبِرَ الكُفَّارُ على ما يَسُوؤهم مِنْ إيمانِ مَنْ آمَنَ مِنْهم، حتَّى يَحْكُمَ فَيَمِيزَ الخَبيثَ مِنَ الطَيِّبِ، والأوّلُ أَظْهَرُ. والمَقصودُ أَنَّ إيمانَ البعضِ منكم لا يَنْفَعُكُمْ في دَفْعِ بلاءِ اللهِ تَعالى وعَذابِهِ. وَحُكْمُ اللهِ أُرِيدَ بِهِ حُكْمٌ فِي الدُّنْيَا بِإِظْهَارِ أَثَرِ غَضَبِهِ عَلَى أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَرِضَاهُ عَلَى الَّذِينَ خَالَفُوهُمْ، فَيَظْهَرُ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ، وَهَذَا صَدَرَ عَنْ ثِقَةِ شُعَيْبٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ بِأَنَّ اللهَ سَيَحْكُمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ اسْتِنَادًا لِوَعْدِ اللهِ إِيَّاهُ بِالنَّصْرِ عَلَى قَوْمِهِ، أَوْ لِعِلْمِهِ بِسُنَّةِ اللهِ فِي رُسُلِهِ وَمَنْ كَذَّبَهُمْ بِإِخْبَارِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِذَلِكَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَتَأَخَّرَ الْحُكْمُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى يَوْمِ الْحِسَابِ، وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادَ مِنْ كَلَامِهِ لِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ: فَاصْبِرُوا إِذَا كَانَ خِطَابًا لِلْفَرِيقَيْنِ، فَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً صَحَّ إِرَادَةُ الْحُكْمَيْنِ جَمِيعًا. وَأَدْخَلَ نَفْسَهُ فِي الْمَحْكُومِ بَيْنَهُمْ بِضَمِيرِ الْمُشَارَكَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْفَرِيقِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ يُعْتَبَرُ شَامِلًا لَهُ لِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِرِسَالَةِ نَفْسِهِ.
قولُهُ: {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} خَيْرُ: اسْمُ تَفْضِيلٍ أَصْلُهُ أَخْيَرُ فَخَفَّفُوهُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَال. والآيةُ تَذْيِيلٌ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ بِأَنَّ حُكْمَهُ عَدْلٌ مَحْضٌ لَا يَحْتَمِلُ الظُّلْمَ عَمْدًا وَلَا خَطَأً، وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَاكِمِينَ يَقَعُ مِنْهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْ كِلَاهُمَا. إذْ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ولا حَيْفَ فِيهِ فهُوَ في غايَةِ السَّدادِ. لأنَّ الحاكمَ من المخلوقاتِ، قد يَميلُ بِهِ هوًى أوْ تَسْتَميلُهُ عاطفةٌ، أوْ يؤثِّرُ عَلَيْهِ وضعٌ، أوْ يُضَلِّلُه شُهودٌ، أمَّا سامِعُ السِرِّ والنجوى، وعالمُ الغيبِ والشهادة، الذي ما مِنِ اثنين إلا وهو ثالثهم ولا أقلَّ من ذلك ولا أكثرَ إلاَّ وهو معهم أينما كانوا، وهو سبحانهُ لا مع قِّب لحُكمِه فينقضُه، ولا رادَّ لأمرِهِ فيدفعُه، ولا شفاعةَ عنده إلاَّ بإذنِه، لِمَنِ ارْتَضَى من أنبيائه وأوليائه، تكريماً لهم وإعلاءً لِشَأْنِهم، لما يحملون من إيمانٍ به ويقين، ولِما يَعتَلِجُ في أَنْفُسِهم مِنْ حُبٍّ لَهُ وتقديسٍ وتَعْظيمٍ. هُو الواحدُ في مُلْكِهِ، والغالبُ على أَمْرِهِ، وهو خيرُ الحاكِمين.
قولُهُ تعالى: {وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ} و: اسْتِئْنافيَّةٌ "إنْ" حَرْفُ شَرْطٍ جازِمٌ يَجْزِمُ فِعْليْنِ مُضارِعَيْنِ، "كان" فِعْلٌ ناقصٌ ناسخ مَبْنيٌّ في مَحَلِّ جَزْمِ فِعْلِ الشَرْطِ، "طائفة" اسْمُ كانَ مَرْفوعٌ، "من" حَرْفُ جَرٍّ و"كم" ضَميرٌ في مَحَلِّ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحذوفِ نَعْتٍ لِـ "طائفةٌ". والوصفُ بقولِهِ "منكم" الظاهرِ أَوْ المُقَدَّرِ هُوَ الذي سَوَّغَ وُقوعَ "طائفةٌ" اسْماً لـ "كان" مِنْ حَيْثُ إنَّ الاسْمَ في هذا البابِ كالمُبْتَدَأِ، والمُبْتَدَأُ لا يَكونُ نَكِرَةً إلاَّ بِمُسَوِّغٍ تَقَدَّمَ التَنْبيهُ عَلَيْهِ، والمسوغُ هو كونُهُ موصوفاً. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبِ خَبَرِ كانَ.
قولُهُ: {آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ} "آمنوا" فعلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ على الضَمِّ، لاتصالِهِ بواو الفاعل، وهي "الواوُ" ضميرٌ مُتَّصِلٌ في محلِّ رفعِ فاعِلٌ، والألفُ للتفريق. "بالذي" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ، "الذي" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ في مَحَلِّ جَرٍّ بحرف الجرِّ مُتَعَلِّقٌ بـ "آمنوا"، "أُرْسِلْتُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ للمَجْهولِ مَبْنِيٌّ على السُكونِ لاتصاله بضمير رفع متحرِّكٌ. و"التاءُ" ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ نائبِ فاعلٍ. "به" مِثْلُ الأَوَّلِ مُتَعَلِّقٌ بـ "أُرْسِلْتُ" أَوْ بِمَحذوفِ حالٍ مِنْ نائبِ الفاعلِ في "أُرْسِلْتُ. وجُملةُ "آمنوا" في مَحَلِّ نَصْبِ خَبَرِ كان. وجُملةُ "أُرْسِلْتُ" في مَحَلِّ نَصْبٍ عطفاً على جُمْلَةِ آمَنوا. ومُتَعَلَّقُ هذا الفِعلِ مَحذوفٌ دَلَّ عليه مُتَعَلَّقُ الفِعْلِ السابقِ، أيْ لَمْ يُؤمِنوا بالذي أُرْسِلْتُ بِهِ.
قولُهُ: {وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا} و: عاطفةٌ، "طائفةٌ" مَعْطوفٌ على اللَّفْظِ الأَوَّلِ، وقد حُذِفَ نَعْتُهُ لِدَلالَةِ نَعْتِ الأَوَّلِ عَلَيْهِ. "لم" حَرْفُ نَفْيٍ وقَلْبٍ وجَزْمٍ. "يؤمنوا" مُضارِعٌ مَجْزومٌ وعَلامَةٌ جَزْمِهِ حَذفُ النُونِ مِنْ آخِره لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ. والواوُ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رَفْعِ فاعلٍ، والألفُ للتفريق. وجُمْلَةُ "وَطَائِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ" عَطفٌ على "طائفة" الأولى، فهي اسْمُ كان. وجملة "لم يؤمنوا" معطوفٌ على "آمَنوا" الذي هُو خبرُ كانَ، عَطَفَتْ اسْماً على اسْمٍ وخَبَراً على خَبَرٍ، ومِثْلُهُ، لو قُلْتَ: "كان عبدُ الله ذاهباً وبكر خارجاً" عَطَفْتَ المرفوعَ على مِثْلِهِ وكذلكَ المَنْصوبَ. وقد حُذِفَ وَصْفُ "طائفةٌ" الثانيةِ لِدَلالَةِ وَصْفِ الأُوْلى عَلَيْهِ، إذِ التَقديرُ: وطائفةٌ مِنْكُمْ لَمْ يُؤمِنوا، وحُذِفَ أَيْضاً متعلَّقُ الإِيمانِ في الثانيةِ لِدَلالَةِ الأَوَّلِ عَلَيْهِ، إذِ التَقديرُ: لَمْ يُؤمِنوا بالذي أُرْسِلْت بِهِ.
قولُهُ: {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا} فاصبروا: الفاء: رابِطَةٌ لِجَوابِ الشَرْطِ، "اصبروا" فعل أمرٍ مبني على حذف النون من آخره لأنَّه من الأفعال الخمسةِ، والواو: ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفع فاعل، والألفُ فارقة. "حتى" حرفُ غايةٍ وجَرٍّ. "يَحْكُمَ" فعلٌ مُضارِعٌ مَنْصوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ، بعدَ "حتّى"، "الله" لَفْظُ الجَلالَةِ فاعلٌ مَرْفوعٌ. "بينَ" ظَرْفٌ مَنْصوبٌ مُتَعَلِّقٌ بـ "يَحكُمَ"، و"نا" العَظَمَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ مَبْنِيٌّ على السكونِ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليهِ. والمَصْدَرُ المُؤوَّلُ من "أن يحكم اللهُ" في مَحَلِّ جَرٍّ بـ "حَتَّى" مُتَعَلِّقٌ بـ "اصبروا". وجمُلةُ "اصبروا" في مَحَلِّ جَزْمِ جَوابِ الشَرْطِ مُقْتَرِنَةٌ بالفاء. وجُمْلَةُ "يحكم" صلةُ الموصول الحرفي "أن" المضمرة فلا مَحَلَّ لَها من الإعراب.
قولُهُ: {وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ} و: حَالِيّةٌ، "هو" ضَميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ في مَحَلِّ رَفْعِ مُبْتَدَأٍ "خير" خَبَرٌ مَرْفوعٌ، وهو مضافٌ. "الحاكمين" مُضافٌ إليْهِ مَجْرورٌ، وعلامةُ جرِّه الياءُ لأنَّه جمعٌ مذكرٌ سالمٌ والنونُ عوضاً عن التنوين في الاسمِ المُفْرَدِ. وجُملةُ "هو خير" في مَحَلِّ نَصْبِ حالٍ. ويَجوزُ أَنْ تَكونَ اسْتِئْنافاً بَيانياً فَلا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعرابِ.
تمَّ بفضلِ اللهِ وكرمِهِ الجزءُ الثامنُ مِنْ هذِهِ المَوْسوعةِ المُبارَكَةِ: (فيض العليم من معاني الذكر الحكيم) في بيتي بأرمنازَ، مَساءَ اليومِ الخامِسِ والعشرينَ مِنْ رَجَب الخير، عام 1435 لِهِجْرةِ النبيِّ المُصطفى ـ عليه وآله وصحبِه الصَلاةُ والسّلامُ ـ وسيليه الجزء التاسعُ إنْ شاءَ اللهُ وأَعانَ، فَلَهُ الحمدُ، ولَهُ المِنَّةُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلاَّ باللهِ العَلِيِّ العَظيمِ.