فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ
(64)
قولُه ـ تباركت أسماؤه: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} أي: فكَذَّبَ قومُ نوحٍ نَبِيَّهم ومُرْشِدَهم نُوحاً ـ عليه السلامُ ـ وأَصَرّوا على التَكذيبِ مَعَ أَنَّهُ مَكَثَ فيهم ألفَ سَنَةٍ إلاَّ خَمْسينَ عاماً يدَعوهم فيها إلى الهُدى لَيلاً ونَهاراً، سِرّاً وجِهاراً، فكانت نتيجةُ ذلك العناد والعداء والتكذيبُ والإصرارُ على الكفرِ والضلال، فكان عقابُ اللهِ أليماً وانتقامُه شديداً، إذْ أرسلَ عليهم الطوفانَ فأغرقهم جميعاً وأموالهم وأملاكهم، وأَنْجَاهُ اللهُ من هذه العقوبة العامَّةِ والبلاءِ النازلِ بأنْ أَمَرَهُ بِصِناعَةِ الفُلْكِ وركوبها هو ومن آمنَ معه ـ وكان نجّاراً كما تقدَّمَ ـ فنجا من الغَرَقِ هو والذين آمنوا معه بأنْ حَمَلَهم اللهُ في السفينةِ التي صَنَعَها. قال تعالى في سورة الحاقّة: {إِنَّا لَمَّا طَغَى
الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} سورةُ الحاقَّةِ، الآية: 11.
قيلَ كان عددُ الذين آمنوا معه أَربعين رَجُلاً وأَرْبعينَ امْرأةً. وروى ابْنُ أَبي حاتِمٍ عن ابنِ وَهْبٍ قال: بَلَغَني عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّه نَجا مَعَ نُوحٍ ـ عليْه السَّلامُ ـ في السفينةِ ثمانونُ رَجلاً أَحَدُهُمْ "جُرْهُم"، وكان لِسانُهُ عَرَبِيّاً. وقد رُويَ هذا الأَثَرُ الأَخيرُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُتَّصِلاً عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُما. وقيلَ غيرُ ذلك. والقرآنُ قدْ صَرَّحَ بِأَنَّ المُؤمنين بِهِ كانوا قِلَّةً، فقال: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} سورة هُودٍ، الآية: 40. قال مالك، عنْ زيدٍ بْنِ أَسْلَمَ ـ رضي اللهُ عنهما: كان قومُ نُوحٍ قد ضاقَ بِهِمُ السَّهلُ والجَبَلُ. وقال عبدُ الرحمنِ بْنِ زَيْدٍ بْنِ أَسْلَمَ: ما عذَّبَ اللهُ قومَ نُوحٍ ـ عليْهِ السَّلامُ ـ إلاَّ والأرضُ مَلأى بِهِمْ، ولَيْسَ بُقْعَةٌ مِنَ الأَرْضِ إلاَّ وَلَها مَالِكٌ وحَائِزٌ. والْفُلْكِ: يَكُونُ وَاحِدًا وَيَكُونُ جَمْعًا. فيُطْلَقُ على المُفْرَدِ والجَمْعِ.
وَقُدِّمَ الْإِخْبَارُ بِنجاةِ المؤمنين عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْإِغْرَاقِ المشركين، مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى مَقَامِ الْعِبْرَةِ تَقْدِيمُ الْإِخْبَارِ بِإِغْرَاقِ الْمُنْكِرِينَ، فَقُدِّمَ لِلِاهْتِمَامِ بِه وَتَعْجِيلًا لِمَسَرَّةِ السَّامِعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ عَادَةَ اللهِ إِذَا أَهْلَكَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَجِّيَ الرّسول وَالْمُؤمنِينَ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْإِغْرَاقَ وَقَعَ قَبْلَه، إِذْ لَا يَظْهَرُ تَحَقُّقُ نجاةِ نُوحٍ وَمَنْ مَعَهُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الْعَذَابِ لِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، فَالْمُعَقَّبُ بِهِ التَّكْذِيبُ ابْتِدَاءً هُوَ الْإِغْرَاقُ، وَالْإِنْجَاءُ وَاقِعٌ بَعْدَهُ، وَلِيَتَأَتَّى هَذَا التَّقْدِيمُ عَطَفَ بِالْوَاوِ الْمُفِيدَةِ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، دُونَ الْفَاءِ.
قولُه: {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ} أي: إنَّ الذين أغرقناهم بالطوفان من قوم نوحٍ بسببِ تكذيبهم بآياتنا كانوا قوماً عُمْي البَصائرِ عَنِ الحقِّ قلم تَنْفَعْ فيهم المَواعِظُ ولم يُجْد مَعَهُمُ التَذْكيرُ. وهذه سُنَّةُ اللهِ في خلقِهِ أَنْ جَعَلَ حُسْنَ العاقِبَةِ للمُؤْمنين، وسُوءَ العَذابِ للجاحِدين. وَقِيلَ: هم عَمون عَنْ مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ، أيْ: جاهلون بذلك، يُقَالُ: رَجُلٌ عَمٍ بِكَذَا، أَيْ جَاهِلٌ. وتُطْلقُ على أَعْمى البَصيرَةِ، فيُقالُ: هو عمٍ، إذا كان أعمى البَصيرةِ غيرَ عارفٍ بأُمُورِهِ متبصِّرٍ بها، وأعْمى أيْ في البَصَرِ. قالَ زُهيْرٌ:
وأَعْلَمُ عِلْمَ اليومِ والأمْسِ قبلَهُ ......... ولكنّني عَنْ عِلْمِ ما في غَدٍ عَمِ
وقيل: عَمٍ وأعْمى بمعنىً، كخَضِرٍ وأَخْضَرٍ. وقالَ بعضُهم: "عَمٍ" فيه دَلالةٌ على ثُبوتِ الصِفَةِ واسْتِقْرارِها كفَرِحٍ وضَيّقٍ، ولو أُريدَ الحُدوثُ لِقيلَ : عامٍ كما يُقال: فارحٌ وضائقٌ.
قولُهُ تعالى: {فَكَذَّبُوهُ} الفاءُ: اسْتِئنافِيَّةٌ. "كذّبوا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتصاله بواو الجماعة والواوُ الدالَّةُ على الجماعة ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السكون في محلِّ جرِّ فاعل، و"الهاء" ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مفعولٍ بِهِ. وهذه الجُملةُ استئنافيَّةٌ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ.
قولُه: {فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} الفاء: عاطفةٌ، "أنجينا"
فعلٌ ماضٍ مبنيٌ على السكون لاتِّصالِهِ بضمير رفعٍ متحرك و"نا" العظمة ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعله، و(الهاء) ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نَصْبِ مَفْعولٍ بِهِ. "والذين" الواو: عاطفةٌ، "الذين" اسْمٌ موصولٌ في مَحَلِّ نَصْبٍ مَعطوفٌ على ضَميرِ المَفعولِ به في "أنجيناه"، "معه" ظَرْفُ مَكانٍ مَنْصوبٌ مُتَعَلِّقٌ بمَحذوفِ الصِلَةِ المَحذوفَةِ، و(الهاءُ) ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليْهِ. "في الفلك" جارٌّ ومَجْرورٌ، يَجوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بأَنْجيناهُ، أي: أَنْجَيْناهُ في الفُلْكِ. ويَجُوزُ أنْ تَكونَ "في" حينئِذٍ سَبَبِيَّةً، أيْ: بِسَبَبِ الفُلْكِ ،كقولِه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((إنَّ امْرَأَةً دَخَلَتِ النَّارَ فِي هرَّةٍ حَبَسَتْها...)). أيْ: بِسَبَبِ هِرَّةٍ، ويَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بما تَعلَّقَ بِهِ الظَرْفُ الواقعُ صِلَةً، أيْ: الذينَ اسْتَقَرّوا في الفِلْكِ مَعَهُ. وجُملةُ: "كذّبوا بآياتنا" صلةُ الاسْمِ المَوْصولِ "الذين" فلا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} و: حرفُ عطفٍ، "أغرقنا" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ. و"نا" ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ في محلِّ رفعِ فاعلٍ. "الذين" اسمٌ مَوْصولٌ في مَحَلِّ نَصْبِ مَفعولٍ بِهِ، "كذبوا" إعرابُها كإعراب سابقتها. "بآياتنا" الباء: حرفُ جَرٍّ، و"آياتِ" مَجْرورٌ بخرف الجرِّ مُتَعَلِّقٌ بـ "كَذَّبوا"، وهو مضافٌ، و"نا" ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليْهِ، وجُملةُ "أغرقنا" معطوفةٌ على جُملةِ "أَنْجَيْناهُ" فهي مثلها ليس لها مَحَلٌّ مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ} "إنَّ" حرفٌ مشبَّه بالفعلِ منَ
النواسخِ، والهاء: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبٍ اسمها، والميمُ علامةُ جمع المُذكَّر. "كانوا" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ من النواسخِ أيضاً، مَبْنِيٌّ على الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، والواوُ الدالّة على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ اسْمٍ لـ "كان"، والألفُ فارقةٌ. "قوماً" خبرُ كانَ مَنْصوبٌ، وعلامةُ نصبِهِ الفتحُ الظاهرُ على آخرِه. "عَمين" نَعْتٌ لِـ "قوم" مَنصوبٌ وعلامةُ نصبِه الياءُ لآنه ملحق بجمع المذكَّر السالم، والنونُ عوضاً عن التنوين في الاسمِ المفرد. و"عمين"، جمعُ عَمٍ، صفةٌ مُشَبَّهةٌ مِنْ عَمِيَ يَعمى، بابُه "فَرِحَ" ووزنُه "فَعٍ" بفَتْحِ الفَاءِ وكَسْرِ العيْنِ، وفي "عَمٍ" إعْلالٌ بالحَذْفِ، حُذِفَتْ مِنْهُ الياءُ لأنَّه اسْمٌ مَنْقوصٌ. وفي "عَمين" إعْلالٌ بالحَذْفِ أَيْضاً أَصْلُهُ "عَمْيين" بياءيْنِ، الأُولى مَكْسورةٌ، والثانيةُ ساكنةٌ، حُذِفتِ الأُولى لاسْتِثْقالِ الكَسْرَةِ عَلَيْها وتَسْكينِها ونَقلِ حَرَكَتِها إلى المِيمِ قبلَها، وبسببِ الْتِقاءِ الساكنَيْنِ بعدَ ذلك. وجُملةُ "إنَّهم كانوا" تعليليَّةٌ لا مَحَلَّ لَها منَ الإعرابِ. وجُملةُ "كانوا قوماً" في مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرِ "إنَّ".
قرأَ جماعةُ القُرّاءِ: "عمين" وحكى الزمخشريُّ أنَّها قرئت أيضاً: "عامين".
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65)
قولُهُ ـ جلَّ وعَلا: {وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً} أيْ: وأرْسَلْنا إلى قومِ عادٍ نَبِيّاً مِنْهم اسْمُهُ هُودٌ، كما أَرْسَلْنا نُوحاً إلى قومِهِ، وينْتَهي نَسَبُ هودٍ إلى نوحٍ ـ عليهِما السَّلامُ ـ كما قالَ بعضُ المُؤرِّخين. وَقدِ اخْتُلِفَ فِي نَسَبِهِ، فَقِيلَ: هُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ عَادٍ، فَقَالَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا: هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبَاحِ بْنِ الْخُلُودِ بْنِ عَادٍ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ سَامٍ جَدِّ عَادٍ، وَلَيْسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ عَادٍ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا قَالُوا هُوَ هُودُ بْنُ شَالِخِ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ ـ كرَّم اللهُ وجهَهُ: أَنَّ قَبْرَ هُودٍ بِحَضْرَمَوْتَ فِي كَثِيبٍ أَحْمَرَ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ: أَنَّ قَبْرَ هُودٍ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ وَزَمْزَمَ. وقوْمُه هُمْ قبيلةُ عادٍ ـ نِسْبَةً إلى أَبيهم الذي كان يُسَمّى بِهذا الاسْمِ ـ وكانتْ مَساكِنُهم بالأَحْقافِ من اليمنِ. والأحقافُ هي الرِّمالُ الَّتِي بَيْنَ حَضْرَمَوْتَ وَعُمَانَ. جَمْعُ حُقْفٍ وهو الرَّمْلُ الكَثيرُ، أوِ الجَبلُ الرّمْلِيُّ. وَعَادٌ أُرِيدَ بِهِ الْقَبِيلَةُ، وَسَاغَ صَرْفُهُ لِأَنَّهُ ثُلَاثِيٌّ سَاكِنُ الْوَسَطُ، وَكَانَتْ مَنَازِلُ عَادٍ بِبِلَادِ الْعَرَبِ بِالشِّحْرِ ـ بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَانَ قَوْمُ عَادٍ ذَوِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وَقُوَّةٍ،َ وكَانُوا أَشَدَّ النَّاسَ تَكْذِيباً لِلْحَقِّ، اعْتِدَاداً مِنْهُمْ بِقُوَّتِهِمْ، وَشِدَّةِ بَأْسِهِمْ. وكانوا يَعبُدونَ الأصنامَ مِنْ دونِ اللهِ، فأرسلَ اللهُ إليهم هوداً ـ عليه السلامُ ـ لهدايتِهم، ويُقالُ بأنَّه ـ عليْه السلامُ ـ قد أُرْسِلَ إلى عادٍ الأُولى، أمَّا عادٌ الثانية فهم قومٌ صالِحٍ ـ عليه السلامُ ـ وبينَهما مئةُ سَنَةٍ.
وقد وصفَهُ اللهُ تعالى بـ "أخاهم" لأنَّهُ مِنْ قَبيلَتِهم نَسَباً، أَوْ نَظَراً للأُخُوَّةِ في الإنْسانِيَّةِ. رُوِيَ أنَّه دَخلَ على سَيِّدِنا مُعاويَةَ ابنِ أبي سفيانٍ ـ رضيَ اللهُ عنهما ـ حاجبُه ذات يومٍ فقال: يا أَميرَ المُؤمِنين، رَجُلٌ بالبابِ يَقولُ إنَّهُ أَخُوكَ، فقالَ: أَدْخِلْهُ، فلمّا دخَلَ عليه، قالَ الخليفةُ للرجلِ: أيَّ إِخْوتي أَنْتَ؟! قالَ لَهُ: أَخوكَ مِنْ آدَمَ ـ عليْهِ السلامُ ـ فقالَ لَهُ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُ: رَحِمٌ مَقْطوعَةٌ، واللهِ لَأَكُونَنَّ أَوَّلَ مَنْ وَصَلَها. وَيُطْلَقُ الْأَخُ مَجَازًا أَيْضًا عَلَى الْمُصَاحِبِ الْمُلَازِمِ، كَقَوْلِهِمْ: هُوَ أَخُو الْحَرْبِ. وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ: لِلْوَاحِدِ مِنَ الْقَبِيلَةِ: أَخُو بَنِي فُلَانٍ، قَصْدًا لَعَزْوِهِ وَنِسْبَتِهِ، وذلك تَمْيِيزًا لِلنَّاسِ، إِذْ قَدْ يَشْتَرِكُونَ فِي الْأَعْلَامِ، وَمِنْهُ قولُهُ تعالى في سورةِ الْإِسْرَاء: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ} الآية: 27. وَقَوْلُهُ: {وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ}. سورة الْأَعْرَاف، الآية: 202. فَالْمُرَادُ أَنَّ هُودًا كَانَ مِنْ ذَوِي نَسَبِ قَوْمِهِ عَادٍ، وَإِنَّمَا وُصِفَ هُودٌ وَغَيْرُهُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يُوصَفْ نُوحٌ بِأَنَّهُ أَخٌ لِقَوْمِهِ: لِأَنَّ النَّاسَ فِي زَمَنِ نُوحٍ لَمْ يَكُونُوا قَدِ انْقَسَمُوا شُعُوبًا وَقَبَائِلَ. وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا أَنَّ نِظَامَ الْقَبَائِلِ مَا حَدَثَ إِلَّا بَعْدَ الطُّوفَانِ. وصَرَّحَ هُنا بِتَعْيينِ المُرْسَلِ إليْهِم دونَ ما سَبَقَ في نُوحٍ لأنَّ المُرْسَلَ إليْهِم إذا كانَ لَهمُ اسْمٌ قدِ اشْتُهِروا بِهِ ذُكِروا بِهِ وإلاَّ فَلا. وقدِ امْتازَتْ عادٌ وثَمُودُ ومَدْيَنُ بأَسْماءَ مَشْهورةٍ.
قولُهُ: {قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} حثَّهم نبيُّ الله هودٌ ـ عليْه السَّلامُ ـ على عبادة الله ـ سبحانَهُ وتَعالى ـ مُذَكِّراً لهم بأنَّهُ لا إلهَ لَهم سِواهُ ـ جلَّ وعلا ـ فهو الذي خَلَقَهُم ورَزَقَهم وأَمَدَّهم بالقوَّةِ، وعَمَّهم بالنِعَمِ، وهوَ المُهَيْمِنُ عَلَيْهم وعَلى الكَوْنِ كُلِّهِ وما فيه، وهو وحدَهُ المُسْتَحِقُّ للعِبادَةِ.
وفُصِلَتْ جُمْلَةُ: "قالَ يَا قَوْمِ" وَلَمْ تُعْطَفْ بِالْفَاءِ كَمَا عُطِفَ نَظِيرُهَا الْمُتَقَدِّمُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ، لِأَنَّ الْحَالَ اقْتَضَى هُنَا أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيّاً لِأَنَّ قِصَّةَ هُودٍ لَمَّا وَرَدَتْ عَقِبَ قِصَّةِ نُوحٍ الْمَذْكُورِ فِيهَا دَعْوَتُهُ قَوْمَهُ صَارَ السَّامِعُ مُتَرَقِّبًا مَعْرِفَةَ مَا خَاطَبَ بِهِ هُودٌ قَوْمَهُ حَيْثُ بَعَثَهُ اللهُ إِلَيْهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ مَثَارَ سُؤَالٍ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: فَمَاذَا دَعَا هُودٌ قَوْمَهُ وَبِمَاذَا أَجَابُوه؟ ولأنَّ "الفاءَ" تَقْتَضي التَعقيبَ، وتُفيدُ الإِلحاحَ عليهم في الدعوةِ، وهذا واضِح في سورةِ نُوحٍ ـ عليه السلامُ ـ فقد دعاهم ليلاً ونهاراً إسِراراً وجهاراً لكنَّ دعوته لم تزدهم إلاّ إصراراً على كفرهم وعتوّاً عن أمرِ ربِّهم واسْتِكباراً.
قولُهُ: {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} اسْتِعْطافٌ وتَحضيضٌ على تحصيلِ التَقوى. ولَمّا كانتْ هذهِ القِصَّةُ مَنْسوقةً على قِصَّةِ قومِ نُوحٍ، وقد عَلِموا ما حَلَّ بهم مِنَ الغَرَقِ، حَسُنَ قَوْلُهُ هُنا: أَفَلا تَتَّقونَ؟ يَعني أَفلا تَخافونَ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمْ ما نَزَلَ بِهم مِنَ العَذابِ؟ أو أفَلا تخافونَ عِقابَه بِعبادَتِكم غيرَهُ؟ والمَعنى تَعرِفونَ أَنَّ قومَ نُوحٍ لَمّا لَمْ يَتَّقوا اللهَ وعَبَدوا غيرَهُ حَلَّ بِهم ذلك العذابُ الذي اشْتُهِرَ خَبَرُهُ في الدُنيا، ففي قولِهِ: "أَفَلاَ تَتَّقُونَ" تَخويفٌ بِتِلْكَ الواقِعَةِ المَشْهورة.
قولُهُ تعالى: {وإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً} و: استئنافيَّة، "إلى" حرفُ جَرٍّ، "عادٍ" اسمٌ مجرورٌ بحرف الجرِّ مُتَعلِّقٌ بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ تَقديرُهُ "أَرْسَلْنا". "أخاهم" أخا: مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ بـ {أرسلنا} الأُولى كأنَّه قيلَ: لَقد أَرسلْنا نوحاً وأرسلْنا إلى عادٍ أخاهم، وعلامَةُ نَصبِهِ الألِفُ لأنَّه مِنَ الأَسْماءِ الخَمْسَةِ، وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليه، والميمُ: علامةُ التذكير. و"هوداً" بَدَلٌ مِنَ "أخاهم"، أو عَطفُ بيانٍ لَهُ منصوبٌ مثلُه. وهذه الجُملة استئنافيَّةٌ لا مَحلَّ لها من الإعراب.
قولُه: { قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} قال: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، والفاعلُ ضميرٌ مستتِرٌ جوازاً تقديرُهُ "هو". يعودُ على "هود" ـ عليه السلامُ. "يا" أداةُ نداءٍ، "قومِ" مُنادى مُضافٌ مَنْصوبٌ وعلامَةُ نصبِهِ فتحةٌ مُقدَّرةٌ على ما قبلِ الياءِ المَحْذوفةِ للتَخفيفِ، وياءُ النسبةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ في مَحَلِّ جَرِّ مُضافٍ إليْه. "اعْبدوا" فعلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ على حَذْفِ النّونِ لأنَّه من الأفعالِ الخمسةِ. والواوُ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ، والألفُ فارقةٌ. "الله" لفظُ الجَلالةِ مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، وعلامةُ نصبِهِ الفتحةُ الظاهرةُ. "ما" نافيةٌ، و"لكم" اللامُ حرفُ جَرٍّ، والكافُ: ضميرٌ متَّصلٌ في مَحَلِّ جَرٍّ بحرفِ الجَرِّ مُتَعَلِّقٌ بمَحذوفِ خبرٍ مُقدَّمٍ، والميمُ علامةُ المذكَّر. "من" حرفُ جَرٍّ زائدٍ. "إلهٍ" مَجرورٌ لَفْظاً مَرْفوعٌ مَحَلاًّ على أنَّه مُبتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ. "غيرُ" نَعْتٌ لـ "إلهٍ" تَبِعَه في المَحلِّ فهوَ مَرْفوعٌ. وهو مضافٌ، و"الهاءُ" ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليْه. وجملةُ "قالَ" في مَحَلِّ نَصْبِ حالٍ بِتَقديرِ "قَدْ"، أوْ هي اسْتِئْنافيَّةٌ بيانيَّةٌ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ. وجملةُ النِّداءِ "يا قوم" في مَحَلِّ نَصْبٍ مَقولَ القولِ. وجُملةُ "اعبُدوا" جوابُ النداءِ لا مَحَلَّ لها منَ الإعرابِ.
قولُهُ: {أَفَلا تَتَّقونَ} الهَمْزَةُ: للاسْتِفهام، و"الفاءُ" للعطفِ، و"لا"
نافية، و"تَتَّقونَ" فعلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ وعلامةُ رفعِه ثُبوتُ النونِ لأنَّهُ من
الأفعالِ الخَمْسَةِ، والواوُ ضميرٌ متَّصلٌ في مَحَلِّ رَفْعِ فاعلٍ.